تعرف علي جاسوسة تشرشل المفضَّلة
قصة حياة الجاسوسة كريستينا سكاربيك والبطولات الاستثنائية التي أنجزتها في الحرب العالمية الثانية في العاصمة المصرية القاهرة يتعرَّف إيان فليمنج، وهو أديبٌ وصحافيّ بريطاني، بالإضافة إلى كونه ضابطاً بحرياً في الحرب العالمية الثانية، واشتهر بكونه مؤلف سلسلة روايات جيمس بوند، يتعرف على فتاةٍ بولندية بالغة الجمال هي كريستينا سكاربيك عام 1947، ويُقال إنهما قد جمعتهما علاقةٌ حميمة، مما جعل البعض يطلق عليها اسم «فتاة جيمس بوند».
لم يكن لقب «فتاة جيمس بوند» هو اللقب الوحيد الذي حصلت عليه كريستينا، فقد كانت أول جاسوسة بولندية تعمل لصالح بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد لُقبت بـ«جاسوسة تشرشل المُفضّلة»، كما تنقّلت خلال عملها بين العديد من الأسماء، فكانت «كريستينا سكاربيك» و«كريستينا جرانفيل» و«بولن أرمن». كانت كريستينا سكاربيك بالغة الجمال، فهي الفتاة التي رُشِّحت للقب ملكة جمال وارسو -العاصمة البولندية- حينما كانت في التاسعة عشرة من عمرها.
جميلة وشديدة الانتماء
لم يكن الجمال وحده هو نقطة التميُّز الوحيدة في شخصية كريستينا، لكنها تميَّزت بوطنيتها الشديدة وانتمائها البالغ لبلدها بولندا، ومن أجل هذا الانتماء الشديد، كان لكريستينا بطولات استثنائية في زمن الحرب العالمية الثانية. الآن يقف تمثال نصف برونزي لكريستينا في نادي هيرث بلندن، يُلقي التمثال الضوء على حياة صاحبته التي وصفها الكثيرون بالشجاعة البالغة والجمال الآخاذ، ويُذكِّر أيضاً التمثال بالنهاية المأساوية التي حدثت لصاحبته، التي انتهت حياتها بالقتل عام 1952.
تغير وجه الحياة من الترف إلى الأزمات المالية
في عام 2013 نُشرت سيرتها الذاتية، تحت اسم «الجاسوسة التي أحبّت» التي كتبتها الكاتبة كلير موللي، وعبَّرت فيها عن رأيها في كريستينا قائلة: «كانت امرأة رائعة، ومن الغريب أنها لم تكن معروفة بشكل أفضل من هذا، جميع النساء والرجال الذين خدموا خلال فترة الحرب كانت لديهم قصص رائعة، لكن قصتها هي تحديداً لم تكن تُصدَّق، كانت استثنائية على نحوٍ يفوق المعقول، ولم يتم تكريمها كما ينبغي». وفي عام 2012 تم التجسيد السينمائي لحياة كريستينا في فيلم «The Real Life Bond Girl».
حياة كريستينا سكاربيك ونشأتها
ولدت كريستينا سكاربيك في 1 مايو عام 1908، بالعاصمة البولندية وارسو، كان والدها ينحدر من عائلة أرستقراطية بولندية، أما والدتها فكانت ابنة أحد الشخصيات اليهودية البارزة في قطاع البنوك، وفي ظل هذه العائلة اعتادت كريستينا حياة الرفاهية والترف، وأتقنت اللغتين الإنكليزية والفرنسية. لكنَّ هذا الوضع المُترف لم يستمرَّ كثيراً، فبعد وفاة والدها عام 1930 وقعت الأسرة في العديد من المُشكلات المادية، وهو ما أدى لخروج كريستينا من المنزل للبحث عن وظيفة، فعملت في فرع شركة فيات في وارسو، لكنها تركت العمل بعدما تأثرت صحتها منه سلباً، فقد أُصيبت ببقع على الرئة.
رحلة علاج في جبال بولندا
ذهبت بعدها في رحلة علاجيةٍ في جبال بولندا، واستطاعت خلال هذه الرحلة تكوين شبكة كبيرة من العلاقات. من بين هذه العلاقات كانت مجموعة من مُهربي السجائر والمشروبات الكحولية عبر الحدود، واشتركت معهم في بعض مهام التهريب الصغيرة، لكنَّ هذه المهام الصغيرة أكسبتها مهارة كبيرة فتعرفت على أماكن الاختباء والمسارات المجهولة، وسط الجبال.
كانت المشاكل المالية للأسرة تتزايد، وهو ما اضطرها للزواج في الثانية والعشرين من رجل أعمال ثري، عسى أن يُساهم ذلك في حل الأزمة المالية للأسرة، لكنه لم يكن زواجاً موفقاً، وسرعان ما نجم عنه الانفصال بعد فترة لم تتجاوز ستة أشهر. كانت الزيجة الثانية لكريستينا من الكاتب والدبلوماسي البولندي جيرزي جيزيزك في نوفمبر/تشرين الأول عام 1938، وبعد الزفاف سافرا في جميع أنحاء أوروبا، وعاش الزوجان في شرق إفريقيا، حيث عمل جيرزي في إحدى السفارات البولندية هناك، عندما غزت ألمانيا بلدهما بولندا، في سبتمبر 1939.
غزو بولندا جعلها جاسوسة ضد الألمان
لم تُطق كريستينا صبراً بعدما تلقَّت نبأ الغزو، فعادت على الفور إلى أوروبا قاصدة بريطانيا، وهناك قامت بالتواصل مع أحد الصحافيين الذين كانت تعرفهم جيداً وطلبت منه إيصالها بأحد المسؤولين البريطانيين، لأنها ترغب في التعاون معهم ضد الألمان، العدو المشترك بينهما، وبالفعل استطاعت كريستينا الوصول إلى رجال المُخابرات السرية البريطانية، الذين رأوا من ذكائها وحماسها ما جعلهم يتحمَّسون لها بدورهم، فقرَّروا الاستعانة بها لفتح جبهة جديدة ضد الألمان في بولندا والمجر. بدأت كريستينا عملها جاسوسة للمُخابرات البريطانية، وأعطتها المخابرات هوية جديدة لصحافية إنكليزية باسم «كريستينا جرانفيل».
كانت المجر المحطة الأولى لكريستينا، فبعد هجوم هتلر على بولندا هرب بعض الجنود والمدنيين إلى هناك وشكَّلوا ما أطلقوا عليه اسم «حكومة المنفى»، وأصبحت كريستينا هي حلقة الوصل بين الاستخبارات البريطانية وحكومة المنفى في المجر، وقد تم إرسال كريستينا إلى المجر مع أحد العملاء. ومن المجر انطلقت كريستينا من خلال أحد الممرات السرية إلى بولندا المُحتلة.
في المجر.. مهمة صعبة
كانت مُهمة كريستينا تتركز على شقين، الأول منهما تنظيم هروب البولنديين المُحتجزين بالمخيمات المجرية، أما الثاني فهو تهريب الأموال للقوات البولندية المُقاومة للاحتلال الألماني، ونقل أخبار الحرب الدعائية للمُقاومة التي تعمل على مساندتهم معنوياً، كما عملت على تزويدهم بالرسائل المشفرة المهمة حول تحركات الكتائب العسكرية الألمانية، بالإضافة إلى تواصلها مع مركز العمليات الخاصة في لندن. وقد كان لها أثناء الحرب مُغامرات وبطولات كثيرة سجّلتها لصالح بريطانيا، فقد تمكنت من الحصول على ميكروفيلم يُظهر صوراً عن استعدادات النازيين لغزو الاتحاد السوفيتي، وهي العملية التي أطلقت عليها القيادة العامة الألمانية اسم رمزي هو «عملية بارباروسا».
استغلَّت كريستينا جمالَها وأنوثتها في الحصول على الميكروفيلم، وقامت بتهريبه داخل قُفازاتها الجلدية، وطار الميكروفيلم خلال ساعة إلى مكتب ونستون تشرشل الذي كان يحب كريستينا كثيراً، ويُطلق عليها بحسب ابنته لقب «جاسوسه المُفضل».
وهكذا أفلتت كريستينا من المخابرات النازية
لم يقف الألمان مكتوفي الأيدي تجاه التوسع الاستخباراتي البريطاني، بل بدأوا عام 1940 في توسيع شبكة الاستخبارات الألمانية في المجر، وهو ما صعَّب مُهمة كريستينا أكثر، لكنها استمرت في أداء مُهمتها، فوقعت في قبضة الشرطة المجرية بالتعاون مع البوليس السري الألماني، منتصف عام 1941، وبدأ التحقيق معها. أثناء التحقيق استغلَّت كريستينا مرضها القديم الذي أُصيبت به أثناء عملها في شركة فيات، وأخبرت المحققين أنها مُصابة بمرض السّل الرئوي، وبدأت في السعال، قامت بعضّ لسانها حتى نزف دماً، وعرضت على لجنة طبية أكدت وجود بقع على الرئة، وهو ما مكّنها من الخروج. بعدما أفلتت كريستينا، هرَّبها أحد العاملين بالسفارة البريطانية في المجر إلى يوغوسلافيا، التي لم تكن قد وقعت بعد في يد الألمان، ومن يوغوسلافيا وصلت كريستينا تركيا ثم سوريا ومنها إلى مصر.
ذكية جداً لكن ذكاءها مخيف
وعلى الرغم من تأكُّد البريطانيين من ولاء كريستينا الكامل لهم، ورغم كونها من أذكى وأنشط جواسيسهم وأكثرهم حماسة، فإنهم اضطروا لتجميد نشاطها، بعدما أصبحت الشكوك تحوم حولها، خاصة بعد نجاحها في الهرب من رجال الجستابو -البوليس السري الألماني- وخداعهم، وقد كلفوها ببعض الأنشطة الهامشية خلال عامي 1942 و1943. عادت كريستينا لكامل نشاطها في أغسطس عام 1943، فأُرسلت إلى مُعسكر تدريبي قريب من حيفا بفلسطين، وكان هدف ضم كريستينا للمعسكر التدريبي هو تعليمها كيفية الهبوط بالمظلات وتشغيل الراديو، وقد كان ذلك مهماً في التمهيد لمهمتها القادمة.
مهمة جديدة في فرنسا
مُهمة كريستينا الجديدة كانت في فرنسا، وفي هذه المهمة تحول اسمها إلى «بولن أرمن». أسقطت كريستينا بالمظلة على إحدى هضاب جنوب شرقي فرنسا، خلف خطوط الألمان، بهدف مُشاركتها في هجمات حرب العصابات على مستودعات الذخيرة الألمانية، ومن هناك خطَّطت للعديد من العمليات ضد الألمان، وهو ما دفع الجستابو (المخابرات الألمانية) لرصد مبلغ مالي كبير مقابل الإتيان برأسها.
ألقي القبض على ثلاثة من زملائها، فقرَّرت بذل جهدها من أجل الإفراج عنهم، في الوقت الذي أعلنت فيه الشرطة الألمانية أن تركها لهؤلاء المُحتجزين ضرب من المُستحيل، وكان من المُقرر إطلاق النار عليهم. قادت كريستينا درَّاجتها مسافة 25 ميلاً للمُعسكر الألماني، وقبيل ساعات من إعدام زملائها كانت قد وصلت إلى السجن المُحتجزين به، وطلبت مُقابلة الضابط المسؤول في قوات الأمن الألمانية الخاصة، وأخبرته أنها عميل بريطاني، وأنها ابنة أخ «مونتجمري» الذي كان مُشيراً في الجيش البريطاني.
أفرجت عن محتجزين بطريقة سينمائية
هدَّدت كريستينا الضابط بالانتقام الشديد منه ومن جميع العاملين بالسجن إن لم يُفرجوا فوراً عن المُحتجزين الثلاثة، وأخبرته كذباً أن قوات الحلفاء ستقوم بمُهاجمة المقر إذا لم يتم الإفراج عن السجناء، ووعدته بتوفير الأمن له والعاملين معه إذا استجاب بالقبول إلى طلبها، ارتبك الضابط الألماني ولم يعرف كيف يتصرف لمدة دقائق، وبعد قليل من التفكير قرر إطلاق سراح السجناء. من خلال الخطب التي كانت تُلقيها كريستينا عبر مُكبرات الصوت، تمكَّنت من تحقيق أحد إنجازاتها الهامة في فرنسا، فقد أقنعت ما لا يقل عن ألفي جندي بولندي من المُقاتلين في الصفوف الألمانية بالفرار من الجيش الألماني.
لكنّ الحكومة البريطانية تخلَّت عنها في النهاية
في بدايات سبتمبر عام 1944، غمرت وارسو عاصمة بولندا، الانتفاضة ضد الألمان، فعادت كريستينا إلى لندن، لتطلب من رؤسائها إعادتها إلى وارسو للمشاركة في تحرير العاصمة، وعلى الرغم من إلحاحها في الطلب فإنه قوبل بالرفض، فأُصيبت بخيبة الأمل، وما زاد من خيبة أملها عدم وقوف دول الحلفاء مع بلدها، بل إنهم تركوا بولندا لتكون تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي. كانت هذه بداية الضربات التي تلقَّتها كريستينا من المُخابرات البريطانية، التي قامت بالاستغناء عنها قبيل شهور من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدأوا في صرف راتب شهري ثابت لها مقداره 100 جنيه إسترليني.
حاولت كريستينا العودة للخدمة، وحاول رؤساؤها في المُخابرات البريطانية مُساعدتها على ذلك بكتابة خطابات تزكية لها، إلا أنَّ كل هذا لم يثن القيادة عن قرارها بالاستغناء عن خدمات كريستينا، كما رفضت الحكومة البريطانية تجنيسها، على الرغم من عدم تمكن كريستينا من العودة إلى بولندا مرة أخرى، بعد أن أصبحت تحت سيطرة السوفييت، حتى نالت الجنسية في النهاية بعدما كرَّرت الطلب أكثر من مرة.
نهاية غير مُتوقعة
بعد حياةٍ مليئة بالإثارة والمُغامرات، لم تستطع كريستينا تحمُّل حياتها الجديدة التي امتلأت بالملل والاكتئاب. عملت كريستينا بائعة في المحلات، وعاملة تنظيف دورات مياه على متن إحدى سفن الرُّكاب، وكان هذا العمل صعباً للغاية عليها بعد أن كانت تُسافر على متن السفن في الدرجة الأولى. كان هذا العمل أيضاً هو السبب في وضع نهاية لكريستينا، فقد تعرَّفت من خلاله على قاتلها، الذي كان أحد المشرفين على السفينة التي تعمل بها. كانت العلاقة بينهما مُتوترة، فقد كان مهووساً بها وعرض عليها الارتباط، فرفضت وفي إحدى إجازاتها من العمل عام 1952 سافرت إلى لندن، تبعها المُحبّ المهووس وقتلها في ردهة الفندق الرخيص الذي كانت تُقيم به، مُستخدماً سكيناً شبيهاً بسكينها أثناء الحرب، بعدما ألقي القبض عليه انتحر في السجن بعد ثلاثة أشهر فقط من القبض عليه، لتنتهي حياته، وتنتهي معه أسطورة الحرب العالمية الثانية كريستينا سكاربيك.