ثقافة وفنون

 تشكيل الخامات في فنون ما بعد الحداثة وجماليات الصورة البصرية

الكاتبة/ بشرى بن فاطمة

 

 

تعبّر الخامات في الفنون التشكيلية والبصرية عن عمق التشكيل وتوافقات الفكرة ذهنيا، وترتقي بها إلى عدّة نواح جمالية تكمّل الرؤى المقصودة في التعبير الإبداعي الفني المألوف.

غير أن تلك المسلّمات التي تعنيها سطحيا لتستثير المفاهيم العميقة جدليا وتتمازج مع عناصرها اللونية أو الحسية والهندسية لتؤسس للمعنى النهائي القريب والبعيد في مداه التفسيري، قادت مع مراحل التطور الفني والتقني التي عرفتها الإنسانية وطوّرت بدورها الفنون ومدى تلقيها، لتغيّر تصورات الخامة في التعبير من المنحوتة والكتلة والازميل والصقل والحفر واللوحة والألوان والفرشاة وغيرها من أدوات التعبير الكلاسيكية والحديثة إلى عدّة خامات غير مألوفة التصوّر والتعبير المتعوّد في الفن وبالخصوص في الفنون المعاصرة وفنون ما بعد الحداثة، حيث أصبحت فيها المادة والخامة تتجاوز فكرة التشكيل إلى فكرة التوظيف الخارق لحدود المعنى والرؤية والتفسير، وهو ما يحيل على عدّة تجارب عربية اختارت أن تعبر بفلسفة المادة عن عمق التواصل مع الأرض والانسان والواقع والوجود من خلال الخامة المشكلة والتصور المنفلت من ذاكرته.

 

*محمد السعدون

فعناصر الطبيعة من التراب والحجر والرمال والعناصر المصنعة من الصور والورق والبلاستيك والحديد والصابون والقماش والمسامير والأثواب القديمة والخيوط والعناصر التقنية من الألوان والفتوغرافيا والفيديو، كلها انعكاسات حادة لمراحل مختلفة سردت بصرية الحالات النفسية والقضايا في حضورها المؤلم بأمل باق وإحساس ذهني له فكرته في التشكيلية البصرية.

 


*ماري توما

ولأن المادة متحركة ومتغيّرة مع الفنون ومداها التعبيري ونابضة بالنشاط حين تقع مع المفاهيم الفنية، تحوّلت إلى إبداع مثير للمغزى الأساسي، فهناك عدّة توظيفات منها المادية ومنها المعنوية والتراثية التي تتعامل مع الفكرة عمليا لتستنطق بصمة الانتماء الأول للإنسانية وتعترف بتبعات التصورات الفنية وكيف تثير الثقافة الواقع وتحولاته لتصبح الخامة انعكاسا للجمال الواقعي في الفكرة المقصودة مهما كانت بشاعة تلقيها وتصورها في السلم والحرب في الفوضى والترتيب في الوجود الفردي والانتماء الجماعي.

*بثينة ملحم

فمنذ مارسيل دوشامب وتمرّد الدادا وتصادم الواقع اليومي بعد الحرب العالمية الثانية ودخول مرحلة الحرب الباردة عرف الفن انقلابا عن المألوف الفني وجمالياته المتعوّدة ألوان تنسيق زينة مثالية مدراس فنية لا حياد عن تصوراتها المبرمجة مع القيم الصارمة التي يكون فيها الحكم النقدي جاد التبني أو الاقصاء، غير أن التمرّد على الموازين الفنية والجمالية مع التبعات النفسية حمّل التعبير المادي أو الخامة في الفن دورها للتحاور مع المفهوم ما جعل العمل الفني حقيقة ذهنية تحاكي البصيرة قبل البصر وتحوّل الرؤية الأولى إلى آفاق رؤيوية بعيدة، وهذه التصورات التعبيرية الموظّفة للخامة ميّزت ما بعد الحداثة في الفنون وحوّلت الوعي نحو درجات أبعد في البحث الاستفزازي للصور.

*أيمن بعلبكي

وهو ما لم يؤثّر على حركة واحدة أو تيار تعبيري واحد بل أصابت الصدمة الجمالية بكل تماثلاتها المتلقي والفنان ومدارس الفن وطرق تعبيره بل واستنطقت مدارس أو تيارات جديدة مثل المستقبلية المعاصرة والسريالية الجديدة والمفاهيمية والفيديو آرت والبوب آرت والكولاج وغيرها، وباتت مجرد التهيئات والخامات والعناصر الغير اعتيادية رؤى تعبير ودرجات تحوّل حداثية وما بعد حداثية اختلفت في قراءاتها التعبيرية والمفهومية والتواصلية التي تحوّلت من الصالونات والمتاحف الى الشارع ورغم النقد المختلف والتردد في تصنيفها جماليا أو فنيا، إلا أنها بالمفاهيم فرضت نفسها وأثبتت كيانها التعبيري المعاصر والحديث اقتباسا من  التجارب الغربية التي حوّلت الفن من مثالية المقدّس والالوهي إلى عبقرية الإنساني والعلم إلى الأرض ودمارها البيئي في مراحل تطوّرت ذهنيا بالفكرة التي اندمجت مع فنيات الرؤى ما بعد الحداثية.

*رولا حلواني

والحديث عن التجارب العربية له مداه الواسع والممتد الخصوصية منذ سبعينات القرن الماضي توغّلت المفاهيمية وأصبح لها الصدى المسموع والتلقي المقنع في الفكرة التي تعالج قضايا المجتمع والسياسة والهوية وانتماء الذات لفلسفتها وبيئتها وتوافقا تميّز بتلك الذات ولم يحدث الاقتباس بالتقليد بل اندمج مع إنسانية تشبه واقعا مختلفا في تفاصيله المبعثرة.

*بسام كيرلس

وهنا نقع على تجارب عدّة سنحاول اقتباس الزاوية الإنسانية والثقافية والاجتماعية والقضايا السياسية منها تناولت فيها عدّة خامات وحوّلتها جماليا إلى رؤى بصرية جديدة تعبّر عن الانسان في منطقته المليئة بالتناقضات.

*راجي الكوك

والحديث يحيل إلى المفاهيمية المطلقة مع أيمن بعلبكي الذي اعتمد كل الأدوات المختلفة سيارات قديمة أثاث أغطية وأفرشة وثياب وخيوط وحبال وصناديق وكراتين وجمّعها تعبيرا عن التهجير الذي عرفه اللبناني خلال الحرب الاهلية ما خلق تناقضات البقاء والهرب الفاجعة والبقاء ورغم غرابة تصوراته إلا أن التناسق اللوني في كل تلك الفوضى والحكمة البصرية رصدت واقعا مثيرا في صدمة جدلية غير متوقعة فنيا، أما محمد السعدون فقد وظّف الخشب المحروق وشكل الأبواب القديمة والخط المحفور والأرقام والكراسي الملطخة عشوائيا باللون المشدودة عليها الكتب بشكل متخم ومتراكم ومغلف بهيئة قديمة كإحالة على ما حصل في العراق طيلة سنوات أهدرت واقعا حضاريا عريقا وراسخا ولكنه يكاد يحترق من تراكم بقاياه. وهنا كانت المفاهيمية أفقا حرا وطليق التعبير عن القضية.

وفي تجربة بسام كيرلس تحوّل البناء النحتي إلى هدم والعمارة إلى خراب معلن ومجسد كدهشة تثير واقع المدن في الحرب تلك الصور الغير مكتملة للألم والتي تسقط غصبا على ذاكرة الانسان لترسّخ حضورها المدمر لكل جيل عبر نحوها فثنائية الاسمنت والثقوب الجدران والانهيار دلالات صارخة التعبير بخاماتها وجمالياتها البشعة في تنسيقها المرتب على الفكرة المتناقضة في تصورات الفن، وكذلك ميرفت عيسى وهي تصقل أسطورة الذاكرة من حجر الانتماء للأرض وتجادلها مع الطبيعة والتاريخ، أما راجي الكوك وفي توافقية الحجر والبناء والهدم التأسيسي جمع صناديق الأرض وحمّلها بالحجارة كرمزية تعبّر عن الحفاظ على الأرض والتاريخ والمقاومة البسيطة في تناقضاتها مع واقع يشتمل على جوهره الإنساني أو مع تجربة رولا حلواني وفوتوغرافيا الضوء وصناعة النيجاتيف كخامة تشكّل اللوحة وتجربة القماش والدبابيس والخيوط مع ماري توما بفساتينها السوداء الطويلة التي تشير لجغرافيا من الموت ثابتة وممتدة وبثينة ملحم التي ترى أثوابها القديمة راسخة وثابتة ومتشابكة بين الخيوط والدبابيس.

*ميرفت عيسى

إن ما بعد الحداثة هو امتداد للمبدأ الجوهري القائم على التشكيل البصري للخامة والتمازج الفكري مع المفهوم ومدى خلق التشكيك والتواصل التعبيري بين العلامة والرمز والترميز الموضوعية واللامعقول والذاتية والانتماء واللااستقرار أو المراوغة الجدلية في خصوصية تثبيت الهوية الفنية جماليا بكل اختلافاتها وتطوراتها البصرية.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى