تركيا تجازف بإغضاب الصين بعد انتقادها تعامل بكين مع مسلمي الإيجور
في الوقت الذي تخشى العديد من الدول الإسلامية التعبير عن غضبها من ممارسات الصين ضد الأقلية المسلمة هناك، عبر تركيا عن استيائها مؤخراً من قمع بكين للإيجور.
الموقف التركي المفاجئ من هذه القضية أثار العديد من التساؤلات حول توقيت هذا الغضب الذي عبرت عنه أنقرة، فيما يرى البعض أن الهدف هو الانتخابات البلدية المزمعة في تركيا، يرى آخرون أن الموقف التركي نابع من العلاقات العرقية التي تربط الأتراك بالإيغور الذين يتحدثون اللغة التركية.
صحيفة”الإندبندنت” البريطانية رصدت موقف عدد من مسلمي الإيجور المتواجدين في تركيا وردة فعلهم عقب الموقف التركي الأخير تجاه الصين المتعلق بقضية المسلمين هناك.
تركيا تجهر بموقفها
وبحسب الصحيفة البريطانية، كان عبدويلي أيوب في الخارج لتناول العشاء بأحد مطاعم مدينة إسطنبول التركية رفقة زوجته وأصدقائه في عطلة نهاية الأسبوع الماضي حين وردت أنباء على التلفاز كادوا ألّا يُصدِّقوها. إذ تجاوزت الحكومةالتركية المخاوف بشأن الاستثمارات الصينية المستقبلية، ومكانة بكين الناشئة باعتبارها قوة عالمية رئيسية، وجهرت بموقفها بشأن التعامل الصيني مع الإيغور،فأدانت عمليات تعذيب و»غسيل دماغ» الأقلية المسلمة التي تجري داخل ما وصفتها أنقرة بمعسكرات الاعتقال.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يخاطب أنصاره
جاءت هذه الإدانة العلنية النادرة لبكين من جانب إحدى الدول الإسلامية الكبرى في أعقاب تقارير –رفضتها الصين لاحقاً- تفيد بأنَّ الشاعر والموسيقار عبدالرحيم هييت قُتِل أثناء احتجازه داخل أحد مراكز شبكة الاعتقال الصينية (الشبيهة بمعسكرات الغولاغ السوفيتية) بإقليم شينجيانغ ذي الغالبية المسلمة غربي البلاد.
تفجَّرت حالة من الاحتفال العفوي بين رواد المطعم الإيجوري. وجاء مالك المطعم المُبتسِم ليُحيي أيوب، وهو اختصاصي لغوي تلقّى تعليمه في الولايات المتحدة وعضو قيادي بالجالية الإيغورية في إسطنبول.
أدَّت هذه الأنباء إلى تبادل المكالمات الهاتفية والرسائل النصية الحماسية بين أفراد الجالية الإيغورية الصينية بالمنفى، الذين اجتمعوا معاً بهدوء في حياةٍ غير مستقرة بالمنفى في مختلف أنحاء العالم.
قال أيوب في مقابلة لاحقاً: «إنَّها إشارة إيجابية. فبعد إصدار وزارة الخارجية التركية للبيان، يشعر الإيغوريون بسعادةٍ كبيرة وأخبرني أصدقائي أنَّهم يشعرون بالحماس. آمل أن يُشجِّع هذا الدول المسلمة الأخرى للتعبير عن موقفها بصراحة»، بحسب الصحيفة البريطانية.
أبناء العمومة
انتقدت القوى الغربية وحتى الأمم المتحدة طيلة سنوات تعامل الصين مع أقلية الإيجور الإثنية والأقليات المسلمة الأخرى في إقليم شينجيانغ. والآن تشير تركيا، التي هدَّأت قبل سنوات دعوات القومية الجامِعة للشعوب التركية التي تبنَّتها لتعزيز مصالحها بين أبناء العمومة الإثنيين في بلدان آسيا الوسطى والصين، إلى أنَّها على استعداد للتحدُّث بصورة أقوى في ما يتعلَّق بقضية الإيغور.
يتحدث الإيغور لغةً تركية مختلفة عن قومية الهان التي تُشكِّل الأغلبية في الصين. وبعد سلسلةٍ من الهجمات الإرهابية التي شنَّها متطرِّفون، سِيق عشرات الآلاف إلى معسكرات تلقين، يخضعون فيها للتعذيب النفسي والبدني، وذلك بحسب مدافعين دوليين عن حقوق الإنسان.
الصحافة الصينية تعتبر المصانع المسماة مراكز تدريب بأنها ستجعل من مسلمي الإيجور “أُناساً متحضرين ونافعين للمجتمع”
صرَّح أيوب، الذي تمكَّن من مغادرة الصين مع أسرته قبل أن تُوقِف بكين عملياً منح التراخيص للإيغور من أجل مغادرة البلاد، لصحيفة The Independent البريطانية بأنَّه تعرَّض للاعتداء الجنسي خلال فترة عصيبة قضاها في السجن بسبب إدارته لدار رياض أطفال تهدف لتعليم اللغة الإيجورية.
وتعرَّض عددٌ من كبار المفكرين الإيغوريين المعاصرين للاضطهاد. إذ سُجِن بيرهات تورسون، وهو أحد كبار الشعراء والكُتَّاب في اللغة الإيغورية، في فبراير 2018. وأُفيد بوفاة نور محمد ياسين، وهو مؤلف، داخل السجن عام 2011. واتُّهِم كل هؤلاء بدعم الإسلام السياسي أو المجموعات الانفصالية ذات التوجهات القومية التركية التي تعتبرها الصين تنظيمات إرهابية. وفي السنوات الأخيرة، شنَّت مجموعات مسلحة عدداً من الهجمات المميتة غربي الصين.
لكن في حين تزايدت في السنوات الأخيرة التقارير بشأن انتهاكات حقوق الإنسان غربي الصين، التزم الكثير من البلدان الكبرى ذات الغالبية الإسلامية التي تسارع في كثير من الأحيان بإدانة سوء المعاملة التي يتعرَّض لها المسلمون في الغرب وإسرائيل –بما في ذلك إيران، والسعودية، وتركيا، وماليزيا، وإندونيسيا، وباكستان، ونيجيريا- الصمت، على ما يبدو بسبب قلق تلك البلدان من إمكانية إغضاب بكين.
ضغوط داخلية
جاء بيان الخارجية التركية يوم 9 فبراير/شباط مدفوعاً بالتقارير حول وفاة هييت، الذي سُجِن قبل ثماني سنوات. بثَّت الصين بعد ذلك مقطع فيديو للشاعر والموسيقار الإيغوري يؤكِّد وجوده في السجن وخضوعه للتحقيق، وأصرَّت على أنَّه في صحة جيدة.
لكنَّ هذه الحادثة جاءت بعد أشهر من الضغط من جانب مجموعاتٍ إسلامية تركية مُحافِظة تضغط على أنقرة للتحرُّك بشأن قضية الإيغور. وتجاوز البيان التركي قضية هييت، فتطرَّق إلى قضية تعامل الصين مع الإيجور، ودعا بكين لإغلاق «معسكرات الاعتقال» التي تصفها الصين بأنَّها منشآت للتدريب المهني، بحسب الصحيفة البريطانية.
جاء في البيان الذي تلاه الناطق باسم الخارجية التركية حامي أقصوي: «لم يعد سراً أنَّ أكثر من مليون من الإيغور الأتراك يتعرَّضون لاعتقالاتٍ تعسفية وتعذيب وغسيل دماغٍ سياسي في معسكرات الاعتقال والسجون. كما أنَّ الإيجور غير المُحتجزين في هذه المعسكرات يتعرَّضون لضغطٍ شديد».
ردَّت الصين بقسوة غير معهودة. فأصدرت السفارة الصينية في أنقرة بياناً يرفض الاتهامات باعتبارها «مُختلَقة من العدم»، لافِتةً إلى أنَّ تركيا هي الأخرى تواجه تهديدات من الإرهاب.
صورة اردوغان تزين احتفالات الاتراك بذكرى فشل الانقلاب
فقالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون يينغ يوم 11 فبراير: «أخطأ الجانب التركي خطأً فادحاً وغير مسؤول بإطلاقه اتهامات لا أساس لها». وأصدرت بكين في اليوم التالي تحذير للمواطنين الصينيين من السفر إلى تركيا. واتهمت صحيفة Global Times، وهي صحيفة موالية لبكين، تركيا بالانقياد لـ»الأخبار الزائفة»، وانتقدت تعامل تركيا مع الأقلية الكردية لديها.
ووفقاً لقسم الرصد لدى هيئة الإذاعة البريطانية BBC، فإنَّ الأنباء بشأن وفاة هييت ظهرت لأول مرة في منشورٍ على موقع فيسبوك نشره أحد المغنين الشعبيين الأتراك، زَعَم فيه أنَّ هييت مات في السجن بعد تعرُّضه لتعذيبٍ شديد.
وبعد ظهور مقطع الفيديو الخاص بهييت وانتقاد الصين لتركيا، شعر بعض الإيغور من إمكانية تراجع أنقرة عن بيانها. لكنَّ تركيا تمسكَّت به.
صدام دبلوماسي
يأتي هذا الصدام الدبلوماسي في وقتٍ تسعى فيه تركيا لتحسين علاقاتها مع شركائها القدامى في أوروبا وتقليص جهودها الوليدة لبناء علاقات تجارية واستثمارية مع الصين.
وبدا أنَّ بيان وزارة الخارجية إشارة على فتح الباب على مصراعيه في ما يتعلَّق بقضية الإيجور، التي باتت سريعاً موضوعاً ساخناً في البرامج الإخبارية العامة.
فقال مراد يشيلتاش، وهو محلل أمني بمركز أبحاث «سيتا»، وهو مركز أبحاث مُقرَّب من الحكومة التركية: «لا يوجد أي سبب كي تخشى تركيا الصين. فالاقتصاد التركي ليس معتمداً على الصين. ولا يوجد تعاونٌ عسكري».
وينظر بعض الخبراء في الشأن التركي إلى أنَّ الدافع وراء هذا التحوُّل المفاجئ من جانب أنقرة هو السياسة الداخلية. إذ يواجه حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتخاباتٍ بلدية الشهر المقبل يُنظَر إليها باعتبارها أول اختبار لشعبية حكومته بعد الأزمة المالية التي ضربتها العام الماضي. ويُنظَر إلى أنَّ كلا الحزبين القوميين –حزب الخير الذي تتزعمه ميرال أكشينار وحزب الحركة القومية الذي يتزعمه دولت بهتشلي- يجتذبان الأصوات من حزب العدالة والتنمية.
لماذا الآن؟
يتساءل سليم سازاك، وهو باحث في الشأن التركي بجامعة براون الأمريكية: «لماذا الآن؟ الإجابة هي الانتخابات. أكشينار توجِّه لهم ضربات قوية. وهناك تململ في صفوف قاعدتهم الشعبية، من جانب كلٍ من حزب الحركة القومية والمحافظين داخل الحزب».
ويضيف سازاك أنَّه في هذه الانتخابات المتقاربة، «أي شيء قد يُغيِّر مسار الانتخابات»، بحسب الصحيفة البريطانية.
أردوغان تحدث بشكل تفصيلي عن مقتل خاشقجي أمام الكتلة البرلمانية لحزبه
لكنَّ آخرين يرفضون هذه النظرية، لأنَّ كل شيء في الانتخابات التركية يتعلَّق بالمخاوف الاقتصادية، ويعتبر الكثيرون أنَّ التعامل مع أقلية في دولة بعيدة مجرد مسألة ثانوية في الانتخابات.
يقول يشيلتاش: «لا أعتقد أنَّ الأمر يتعلَّق بالانتخابات. فالمبادئ أولاً. تتعامل الحكومة مع هذه القضية الآن لأنَّ المشكلة تسوء. الشعب التركي حساس تجاه هذه القضية ويرغب في معالجتها على المستوى الحكومي».
ويقول أيوب إنَّ الكثير من الإيغور كذلك يتساءلون عما إن كان دفاع تركيا الصريح المفاجئ عن أقاربهم في الصين يعود إلى الوضع السياسي الداخلي أم الخارجي، لكنَّه كان ممتناً أيَّاً ما كان الدافع.
ويضيف: «يقول البعض إنَّ تركيا لم تتمكَّن من الحصول على ما كانت ترغبه من الصين. وأيَّاً ما كان الأمر، فهذه بداية جيدة وإشارة إيجابية لنا. لأنَّ تركيا طرف فاعل رئيسي في الشرق الأوسط، وقد تناصرنا بعض الدول بعد (موقف) تركيا».