ترجمة خاصة|| يسقط الاستعمار!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٣٨)
تواصل الكاتبة بشرى على تقديم أول ترجمة عربية لمذكرات المناضلة الكردية سكينة جانسيز، وهي المذكرات التي تحكي سيرة البحث عن الحقيقة وتروي قصة نضال حية رغم غياب صاحبتها..
فإلى الحلقة الجديدة من الترجمة
ثمة حراك بارز في ساحة كوناك. توجّهنا بسرعة من المرفأ إلى كامارالتي. عادةً ما تعجّ هذه الشوارع بالمارّة. ولكن، لو أنك رميت إبرةً في ذاك اليومِ لَما وقعَت على الأرض. إنها ساحة التظاهرة. ويَفِدها العمال والطلاب وشتى فئات الشعب. ولا بد أن الوافدين من غولتبه وتشيغلي وكاديفيكالي كُثُر جداً. إن لهم نشاطاتهم التنظيمية بين الجماهير الكردية. لذا، بمقدور كل مجموعة أن تدخل تلك الأحياء وتنشط فيها بكل سهولة.
يعجّ مركز الجمعية بالمحتشدين لدرجةٍ يصعب على المرء أن يشقّ طريقه. وصلتُ الطابق العلوي بشقّ الأنفس، ودخلتُ الغرفة التي تواعَدنا فيها. لقد وصل جلال وكذلك حيدر السروجي ومعهما بعض الشبان. قالا وهما يشيران إليهم: “إنهم مُوالون لنا”. أجبتُ: “كان ينبغي أن تأتي يوكسال أيضاً”. حملَقَ حيدر السروجي في وجهي بغرابة أثناء تحدثي. كذلك كانت حال كل مَن يعرفني في الجمعية. إنهم ينظرون إليّ مذهولين. أشار يوسف متين بيده إلى خدي متسائلاً في صمت: “ماذا جرى؟”. أجبتُه: “دعكَ منه. ما من شيء”. كذلك سألَتني سما، التي كنا ذهبنا إلى منزلها في أدرميت. لكني لم أُجِبْها، واكتفيتُ بالقول: “ثمة ضجيج صاخب. سأشرح لكِ لاحقاً”.
أتى هاشم، فعرَّفتُه على حيدر. سأل هاشم: “وهل الرفيق من تيار الوطنيين؟”. أجبتُه إيجاباً، فنظرَ إليه مسروراً. كم هو رائع أننا أصبحنا نحن الوطنيين أيضاً مجموعة. وصلَت يوكسال منقطعة الأنفاس وبرفقتها أختها آيسال، فقالت: “لقد أتينا بعدما تشاجرنا مع أبينا”. اغتبطتُ كثيراً وافتخرتُ لأننا أصبحنا حوالي عشر مجموعات في مدينة إزمير التركية فحسب! بل ونسيتُ صفعةَ المساء، وما عدتُ آبَهُ لها، لولا المحملقين فيّ بين الحين والآخر.
تحادثنا واقفين. الجميع منشغلون بشيء ما في الجمعية التي عجّت بالوافدين وكأنه يوم المحشر! ثمة مَن يحاولون الانتهاء من الكتابة على اللافتات، فاستسمحونا كي نفتح لهم مجالاً لإتمام عملهم. فانتقلنا إلى الصالون. قلتُ لجلال وحيدر السروجي:
“تشاجرتُ مع أخي قليلاً. لا تُسيئا الفهم. لن أسمح لذاك الرجل أن يضربني”. ضحكا أولاً، ثم بدَت عليهما الجدية وسألاني:
“مَن هو أخوكِ؟ ومتى أتى؟ هل هو رفيق لنا؟”.
وبينما كنا نتحادثُ دخل إلى المبنى كلٌّ من أخي وباقي وحيدر ابن عمتي وأخته آينور. حملَقَ أخي في المحتشدين وكأنه يبحث عن أحد ما، ثم رآني فشقّ طريقه إليّ. احتضنني أول ما وصل، وقَبَّلَني من مكان الصفعة على خدي قائلاً: “أقدم اعتذاري لأختي. سامحيني. لنتحدث لاحقاً”.
تضايقتُ قليلاً، وارتبكتُ لوهلةٍ خوفاً من سوء الفهم الذي قد يحصل في الوسط. ثم قلتُ له: “حسناً أخي. ليس مهماً”، محاوِلةً بذلك إفهام الوضع للآخرين. أدركَ القريبون أنه أخي. عرَّفتُه على جلال، ثم لمحتُ باقي وهو يضحك. يبدو أنه مغتبطٌ من هذا التسامح. فتصوّرتُ أن أخي تحدث إليه باستفاضةٍ دون بدٍّ حتى أتى معه وانضمّ إلى المجموعةِ وصافَحَ الرفاق. بدا لي آنذاك وكأننا نحن فقط الموجودون في القاعة. كم نحن مجموعة رائعة! لقد تشكَّلَت منا حلقة مستديرة. فسألت: “ما هو الشعار الذي سنطلقه؟”.
أجاب حيدر السروجي: “يسقط الاستعمار”. فأردفتُ قائلةً: “قد ننضم إلى بعض الشعارات الأخرى أيضاً، ويمكننا إطلاق شعاراتٍ مناهِضةٍ للفاشية والإمبريالية. بل ولن يَكونَ خطأً إطلاق شعار: تحيا تركيا المستقلة”. لكنّ أولئك الرجال لن يدّخروا جهداً في إطلاق شتى الشعارات الشوفينية، وليس لديهم أي شعار معنيّ بكردستان. قال جلال: “ثمة لجنة منظِّمة للتظاهرة. والشعارات مشتركة. هناك سيارةٌ في المقدمة، من هناك ستُطلَق الشعارات عبر مكبّر الصوت، وسيرددها الموكب بعدها”. حسناً، في هذه الحالةِ سنطلق شعارات أخرى عدا تلك التي تحددها اللجنة.
لم تشارك جماهير “الجمعية الثقافية لثوار الشرق” و”الحزب الشيوعي التركي” و”التحرريون” في التظاهرة. لذا، فسوف تؤثر مشاركتنا فيها إيجاباً. فقد عَبَّرَ جميع مَن رأونا وانتبهوا إلى وجودنا عن اغتباطهم بل وذهولهم إلى حد ما من مشاركة مجموعة كردية في التظاهرة. ويتضح الاهتمام بنا على الرغم من عدم التمييز بَعدُ بين مقاربات الجمعية الثقافية لثوار الشرق ومقارباتنا. إذ قلتُ لخالد، عضو الهيئة الإدارية في الجمعية: “إننا كثوار كردستان نشارك في كل الفعاليات المناهضة للاستعمار والإمبريالية والفاشية. ونرى في ذلك مبدأ سديداً وواجباً على عاتقنا. إن هذه التظاهرة تجري في تركيا، ونحن ندعمها وسنشارك فيها”. سُرّ خالد لذلك. لكننا لم نناقش الأمور الأخرى. فأياً يَكُن، فمن غير المعقول أن نستأذنهم كي نطلق شعاراتنا!
حدّدنا بأنفسنا أماكنَنا في الموكب. وقد فهمنا من اللافتات أن عمال منطقة “قولا منسوجات” هم الموجودون في المقدمة. في الحقيقة، ثمة صفّ طويل لأعضاء حزب التحرير الشعبي، فقاعدتهم الجماهيرية غفيرة. دخلنا بين صفوفهم مقتنعين ضمناً بأنه لا بأس من ذلك. أما مسار التظاهرة، فيبدأ من حي باسمانه حتى حي الجمهورية. الحشد غفير. هاقد انطلقنا قبل أن ينتظم الموكب. ثمة مجموعات مختلفة تحمل شتى اللافتات وتأتي من بين الأزقة. لقد نظَّمنا أنفسنا بحيث لا نجتمع كلنا في نقطة واحدة. فقد يعيقنا البوليس على الرغم من أن التظاهرة مرخَّصة، ذلك أن البوليس لا يستهين بهكذا تظاهرة سياسية حاشدة ومناهضة للفاشية.
عجّت الأماكن بعناصر الشرطة، وكأن كل عناصر شرطة إزمير قد اجتمعوا في هذه الساحة. هذا عدا عن عناصر الشرطة المدنية السريين، الذين توزّعوا بين صفوف المتظاهرين، ليعثروا على “زعماء العصابة” دون بد. فالدولة لا تسمح حتى بأبسط درجات المعارضة، وينعكس طابعها الفاشي الاستعماري في كل مكان. وهنا إزمير، أكبر المدن الصناعية، وأكثرها احتضاناً للطلاب الجامعيين. وعليه، فإنها في الواقع تحتوي بين طياتها آفاقاً حبلى بالتطورات الثورية الراديكالية. ولَطالما أحببتُ هذا الجانب من إزمير، إذ طالما عزّزَ هذه المشاعر والثقةَ وأبقَاها منتعشةً لديّ.
تبدّلَت الحال في حيّ باسمانه في غمضة عين. إذ أخذ الجميعُ أماكنهم في الموكب، وفُتِحَت جميع اللافتات والصور. إنه منظر رائع لدرجةِ أن المرء يودّ الخروج من الموكبِ ورصدَ عظمة هذا الحشد الغفير من مكانٍ عالٍ. إنه أمرّ يدعو إلى الحماس والعنفوان. ومن الجميلِ السيرُ معاً وبصوتٍ واحد يجمع كل الناس من عمال وفقراء وكادحين، ومن كُردٍ وأتراك ولاز وغيرهم من القوميات في مواجهة الفاشية. هذا ما شعرتُ به في تلك اللحظة.
وبسبب التأثيرات الصارمة للشوفينية الاجتماعية عموماً، وعلى الرغم من اختلاف الرؤى فيما يتعلق بالمواضيع الرئيسية كالاشتراكية والثورة والاستعمار خصوصاً، فإن أية معارضة بسيطة قد تتسبب في تأجيج ردود الأفعال أو في نشوب الصراعات. كم هو غريبٌ أمرُ الصراع الطبقي. إذ لا يمكن خوضه بالنوايا أو الرغبات. وأقول في قرارة نفسي: “ليت أن هذا السيل البشري يلتفّ حول طليعة سديدة وينتظم تحت راية قيادة ثورية واحدة!”. لكن لا. فهناك المجموعات اليسارية المتصارعة فيما بينها داخلياً، فتَتَّهِمُ كلُّ واحدةٍ الأخرى بالانتهازية والإصلاحية، بل وبمناهضة الثورة، وتتبادل الانتقادات اللاذعة والاتهامات الشنيعة. إنه واقع واضح وصريح.
أما فيما يخصّ ثورة كردستان، فلا تختلف مقارباتها عن بعضها بعضاً. فما جدوى مواراة الشوفينية الاجتماعية بأساليب دقيقة؟! علماً أنها تُشكّل المعضلة الأساسية أمام تحقيق قفزة نوعية في ثورة تركيا. إذ بمقدورِ أبسطِ خطوةٍ أو أَقَلِّ دعمٍ في هذا المضمار، أو إطلاق أيّ شعار أو كلمة في هذا الاتجاه، أن يؤدي إلى تطوُّر مذهل. وهذا تحديداً ما سيحسم الريادة الطبقية داخلياً، وسيُقحِمُ التاريخَ في مساره الصحيح، وسيوفّر المقاربة السديدة من واقع الشعب. لكنّ المقاربات دوغمائية للغاية. والتحليلات تتكرر مراراً بقوالب ثابتة: “هناك حزب مركزي واحد (الحزب البلشفي) يحكم الجمهوريات السوفياتية الستة عشر. الصين شبه مستعمَرة وشبه إقطاعية. هناك طليعة حزبية واحدة (الحزب الشيوعي الصيني). ولا شيء اسمه شِبهُ مستعمَرةِ المستعمَرة”.
حينما كان الموكب مستمراً في مسيرته، أُطلِقَ ذاتَ حينٍ من بين صفوف أعضاء حزب التحرير الشعبي شعارُ: “كفى للظلم القومي المطبَّق على الشعب الكردي!”. بل وكان الشعارُ نفسه قد كُتِبَ على لافتة أيضاً. كما أَطلَقَت المجموعات الأخرى شعارات مشابهة. اللافتُ أنّ المقاربةَ من هذه القضيةِ لم تَكُن على أساس أنها مشكلةٌ بسيطة أو معضلةٌ جزئية في الثورة أو أنها مشكلةُ أقليةٍ فحسب. بل وهناك لافتةٌ مكتوبٌ عليها: “لِتَكُن الأممُ حرةً والشعوبُ متّحدة!”. جذبَ ذلك نظري. لذا، وفور إطلاقُ ذلك الشعار، بدأنا نحن بإطلاقِ شعار: “نعم للوحدة الطوعية!”.
بدأَ إطلاقُ الشعارات. والأصواتُ تدوّي في الأرجاء. والتظاهرة منتظَمة. أولُ الشعارات التي أُطلِقَت كانت: “أغلقوا محاكم أمن الدولة” و”لا لأمريكا، لا لروسيا، نعم لتركيا مستقلة” و”إلى الإضراب العام أيها العمال”. تَحَمَّسنا لهذا الشعار الأخير الذي يُسَيِّسُ قضية العمال. وتحمَّسَ له العمال بالأكثر، فارتفعَت الأيادي، ولَوَّحَت القبضاتُ في الهواء بصرامةٍ أكبر:
“تسقط الديكتاتورية الفاشية، تسقط الأوليغارشية!”.
شاركناهم في إطلاق هذا الشعار، وعندما ساد الصمتُ نادينا: “يسقط الاستعمار!”.
كان صوتُنا جَهوراً ومدوّياً ومنتظماً، على الرغم من قلة عددنا. شاركَتنا الصفوفُ التي تتقدمنا وتلك التي تتبعنا، فاغتبطنا كثيراً وردّدنا شعارَنا مراراً وتكراراً. وبدأَ البعضُ يهرولون. فالناظمون للموكب، والذين يضعون شرائط حمراء على أكتافهم، يحاولون فهمَ المكان الذي ينطلق منه هذا الشعار:
“لحظة من فضلكم. لا تُطلِقوا هذا الشعار. مَن الذي يُطلِقه؟”. ودار النقاش:
“نحن ثوار كردستان، ونُطلِقُ شعارَنا الخاص بنا. وهو شعار عام ورئيسيّ في نفس الوقت. ولا يمكنكم منعَنا”. تكاثَرَ عدد الناظِمين حولنا، واتّسعَت رقعة النقاشات والسجالات. فكلُّ واحد منا يجادِلُ من مكانه مع الآخرين: أنا، حيدر، جلال، ويوكسال.
قال أحدُهم: “هناك قرار من لجنة تنظيم التظاهرة. أَلا وهو: عدم إطلاق شعارات خارج تلك التي حددَتها اللجنة. من أين خرجَ ثوارُ كردستان هؤلاء؟ عليكم بالالتزام بالنظام العام”.
إنهم يهدّدوننا علناً. وتحتدم المناكفات الكلامية. اكتفى البوليس بالتفرج بدايةً. وأتى شخصٌ يَعرفنا، فعَرَّفَ عن نفسِه وقال:
“هناك قرار عام، وعلينا الالتزام بالنظام العام. إنه قرار مشترك بين الأحزاب. ولا يمكن غضّ النظر عن الإرادة التنظيمية”.
جاوبتُهم بالقول: “نحن أيضاً تنظيم. فهل سنُعَبّر عن إرادتنا وفق ما تَأذَنون به؟ وما علاقة ذلك بالروح الثورية؟ لا يمكنُ أن يَكُون هذا موقفَ ثوارِ الأمةِ المضطهِدة . إننا نقوم بمهامّنا، ونشارك في جميع الشعارات. لقد شاركنا في إطلاق شعار “تركيا مستقلة”. لكنكم تمنعوننا من إطلاق شعار “يسقط الاستعمار” في الوقت الذي ينبغي عليكم إطلاقه. بل وتهددوننا وتحاولون ضربنا. لقد تعشعشَت الشوفينية فيكم حتى النخاع”. وهجمَ عليّ أحدُ الأشخاص الذين جادلوني سابقاً فقال: “إنك تتخطّين الحدود”.
تدَخَّل البوليس، ولم يتحمّل أخي والآخرون هذا الموقف، وبدأ السجال بيننا. ورَدّاً على ذلك بدأتُ بالصراخ: “يسقط الاستعمار”، فدَوّى صوتي حتى آخِرِ الموكب، وردّدَت الشعارَ مجموعةٌ من حوالي مئة شخص. ورَدّاً على كلّ مَن حاولوا التدخل أجَبنا غاضبين: “حسناً، أَطلِقوا أنتم شعارَ: يحيا الاستعمار!”. ثم عَقَّبتُ قائلةً: “اخجلوا، فما تفعلونه يخدم البوليس!”.
اغتظتُ كثيراً، ولم أتحمّل ذلك إطلاقاً، بل ولم أرغب أن أصدِّقَ ما يجري. حاول هؤلاء تهدئةَ بعضهم بعضاً في البداية. ولَمّا رأوا أن كوادرهم أيضاً يطلقون نفس الشعار تراجعوا، ووبّخوا كوادرهم بقساوةٍ محاوِلين إسكاتَهم:”ما الذي تفعلونه؟ هل تؤسِّسون تنظيماً داخل التنظيم؟”. وجدَني الرفاق فقالوا لي: “علينا ألاّ ننفعل كثيراً. فقد يحاولون استفزازناً عمداً”. أجبتُهم: “فليفعلوا ما يحلو لهم. لن نستأذنهم في تحديد شعاراتنا. وهذه الساحة ليست حِكراً على أحد. ولن يمشي فيها سوى الثوار”. أما عن أخي، فقد سُررتُ بموقفه. إذ وقف بجانبي، وشاركني في إطلاق الشعارات بصوت جَهور.
قلتُ له: “لقد قارَبَ الشجارُ بيننا أكثر”. التفتُّ بين الحين والآخر إلى الوراء. إن أغلب مَن شاركَ في إطلاق شعار “يسقط الاستعمار” هم ممّن أعرفهم، بمَن فيهم باقي وهاشم وحسن علي. اغتبطتُ لذلك. إن هؤلاء الرجال خلقوا الشِّقاقَ في صفوفِهم بأيديهم. لا أصدّق ما يحصل. فكيف يُمنَعُ شعارُ “يسقط الاستعمار!”؟ غريب. ماذا يفعلون حقاً؟ فبالمقابل من شعارِ “لِتَكُن الأممُ حرةً والشعوبُ متّحدة!”، نادينا نحنُ ” نعم للوحدة الطوعية”. كَفَّ هؤلاء عن مهاجمتنا، وقطَعنا بدورِنا السجالَ الاستفزازي معهم.
دخَلنا ساحةَ الجمهورية، فامتلأَت اللافتاتُ حول نصبِ أتاتورك. بدأَ المتحدثون بإلقاء كلماتهم التي تخلَّلَتها الشعارات، وثابرنا نحن على ترديد شعاراتنا السابقة. وذات حين، ردَّدَ الرفيق جلال بصوتٍ جهوريٍّ وباللغة الكردية شعارَ “Bijî Têkoşîna Rizgariya Netewa Eriterya!”، أي “يحيا النضال التحرري الوطني الإريتري!”. إذ كان المتحدثُ قد تطرَّقَ حينها إلى إريتريا. ثم أردَفَ جلال بأعلى صوته: “ولماذا لا ترَون كردستان التي هي بجواركم؟”.
عبَّرنا عن مؤازرتنا لكلمةِ المتحدث بشعار “تسقط الشوفينية والشوفينية الاجتماعية!”. إنّ موقفَنا يُعَدّ استعراضاً صغيرَ الحجمِ ولكنه ثوريُّ المضمون. وعندما شارَفَ الاعتصامُ على النهاية أتى “هالوق”، أحد مديري مركزِ حزب التحرير الشعبي، وبرفقته باقي. تصرَّفَ بدايةً وكأنّ شيئاً لَم يَكُن. لم يَعرف كيف يبدأ الحديث، ثم قال: “كانت تلك الحادثة سوء طالع. إذ لَم يَكُن لنا عِلمٌ بالأمر. ورفاقنا لم يَعرِفوكم. ثم إن أعضاء الجمعية الثقافية لثوار الشرق أيضاً لم يشاركوا. لذا، اعتقدَ رفاقنا أنه يُرادُ استفزازهم وإفشال النشاط. فهذه أول مرةٍ تُطلَقُ فيها هكذا شعارات. أجل، إننا لم نُدرِج شعارَ “يسقط الاستعمار” في برنامجنا بَعدُ. لكنّ إبداءَ ردود الفعل على ترديده لم يَكُن صحيحاً. سنَعقدُ اجتماعاً يوم غدٍ في مركز الجمعية حول هذا الأمر. وسنُقدّم اعتذارَنا فيه رسمياً. لكني الآن أعتذر منكم باسمِ رفاقي”.
هذا أفضل. سُررنا بذلك. هكذا يكون الموقف الثوري. حسناً، فهذا أمر عادي، وهؤلاء لم يَكونوا على علم ببعضهم بعضاً. وقلنا في قرارة أنفسنا: “من الجيد أن المشكلة لم تتعاظم”. سُرَّ أخي بالأكثر من هذا الموقف. فبهذا الشكل وجدنا الفرصةَ للتعبير عن أنفسنا في التظاهرة. ثم قلنا لبعضنا بعضاً: “سيناقشون الأمر على الأقل، وسيتضاعف الاهتمام”. وبالطبع، فقد سأل أحدهم أثناء التظاهرة غاضباً: “ومَن هم ثوار كردستان؟”.
في الحقيقة، إن التصدع الذي حصل داخلهم هو الذي أَقلَقَهم بالأكثر. فعلى الرغم من زعمهم بضرورة احترام الموقف، إلا إن أكثر ما أربَكَهم هو خروجُ كوادرهم الكردستانيين عن قرارهم التنظيمي. وعلى الرغم من أن المشكلة تجسَّدَت في شعارٍ ما، فإن اختلاف مواقفهم هو المهم بالنسبة إليهم. فلماذا تم ترديده ما دام خطأً؟ وترديدهم إياه كان سيُحتّم عليهم اتخاذ موقف ما تجاههم. ذلك أنهم عَدّوا إطلاقَ شعارٍ ما دون قرار التنظيم على أنه “تأسيس تنظيم داخل تنظيم”!. كانت ردود أفعالهم واضحة. وهذا ما أَغضَبهم بالأكثر. فليَكُن، فهذا تطوُّر ملموس. ذلك أن التناقضات ستحثُّ على مضاعفة النقاش حول المشكلة، وعلى زيادة البحوث. ولعلّ موقف باقي أيضاً سيُحسَم بذلك.
انفَضَّت التظاهرة. تناولتُ الطعام مع أخي لآخِرِ مرة، وحضر الرفيقان جلال وحيدر السروجي أيضاً. فَتَحَ أخي الموضوع ثانيةً فناقشنا بهدوء أكبر، وتجلَّت مشاعر السعادة والودّ والوحدة لدينا أكثر فأكثر. قلتُ لهم:
“إني أبليتُ بلاءً سيئاً. فما دمتُ هربتُ من المنزل فإنه كان عليّ أن أذهب إلى مكان مختلف. ثم إني سعيتُ إلى الانقطاع عن العلاقات التقليدية، لكني ولجتُ نظامَ علاقاتٍ ليست مختلفةً أبداً عن سابقاتها. وعليه، فكل المخاضات التي حصلت كانت نتيجةً لحالتي النفسية الناجمة عن ذلك. فقد رأيتُ أن باقي لم يساعدني قط في فترةِ بحثي تلك. لا بل واستغل تلك الفترة أيضاً. لقد أردتُ الخلاص فتخَبَّطتُ وعجزتُ عن تذليل العقبات بمفردي. كما أثَّرَت مقارباتُ المحيط أيضاً فيّ. كنتُ أتحدى كل شيء أحياناً دون التفكير في تداعيات ذلك. وفي أحيان أخرى كانت عواطفي والمحيطون بي هم الذين يُوَجِّهونني. فالإصرار حتى النهاية على الصح إزاء ما أراه خطأً من جهة، وعدم الرجوع عن الخطأ إلا بعد المعاناة من أضراره من جهة أخرى، قد أديا إلى نتيجتَين مختلفتَين.
فالمقاربة الأولى هي الصحيحة. ما من شك في أنه قد تَكون ثمة نواقص في هذا الأسلوب، وقد يتسبب ببعض الأضرار. إلا إنّ الطريق الأكثر عقلانيةً هو الوصول إلى الصح بأقل الأضرار. أما في الأسلوب الثاني، فلا مفر من تَكَبّد الخسائر والهزائم أو دفعِ أثمانٍ باهظة. وبالنسبة لي، عادةً ما أدفع الثمن غالياً بسبب أساليبي. كان بمقدوري أن آتي إلى عندكم، أو أن أُصرَّ على البقاء عند الرفاق في أنقرة. فما كان سيجري حينها كل ما جرى”.
جَهدَ كلٌّ منا لفهم الآخَر بنحو صحيح. نوَّهَ أخي إلى أنه يحترم موقفي، وأن الإرغام ليس صائباً في هذا الشأن، وأنه على باقي أن يتّخذ قراره بصدق. ثم أضاف حيدر: “نحن أيضاً سنناقش، وستُحَلّ المشكلة. لا داعٍ لتضخيمها بهذا القدر”. ودّعْنا أخي في الليل، إذ سافر إلى أنقرة، ومنها سيتّجه نحو ديرسم. وقد وعدَني أن يلتقي الرفاق في أنقرة، وأكّدَ أنه سيبذل قصارى جهده كي يقنع عائلتنا في هذا الشأن. حسناً، لقد اقتنعَ هو إذاً. بالتالي، فما من مشكلة، وبات بإمكاني أن أذهب حتى إلى ديرسم. قلتُ في نفسي مسرورةً: “يكفيني أن أخي أدرَكَ أن الوحدة الثورية ليست سهلة، وأنه في حالِ عدمِ وجودِ أرضيةٍ ماديةٍ لها، فمن المستحيل أن يتواجد الحب والسعادة. وبالمقابل، فأنا مستعدة للنقاش مع أيٍّ كان إن تَطلَّبَ الأمر”. وتزداد ثقتي بنفسي أكثر.