ترجمة خاصة|| لم يختلف حلّ أمي عن حلّ “قيمت”.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 28)
وتستمر القيامة في المنزل. وتحاول أمي حل المشكلة قبل انتهاء إجازة أبي. إذ لا تودّ تحمُّل المسؤولية بمفردها. فإذا ما شاركَت المشكلةَ مع “البير/الوالد”، فإن أي أحد لن يضع الحقّ عليها. فقَلَّ عدد الرفاق الذين يزوروننا. بل ولم يستطع أحد منهم المجيء إلينا. ومَن يجرؤ منهم على المجيء، كانت أمي تقول له علناً: “لا تقتربوا من ابنتي. اذهبوا. ماذا تريدون من أولادي؟ لقد دمّرتم منزلنا!”. ولم تكتفِ بذلك. بل وعبَّرَت عن ردود أفعالها تجاه أي رفيق تصادفه في الطريق أيضاً. لذا، لم يرغب بعض الرفاق حتى في المرور بالقرب من منزلنا.
أُغلِقَت مدارس القرية باكراً. أتت “قيمت” إلى منزلنا في العطلة الصيفية. فاتَحتُ الرفاقَ بالموضوع في ذاك اليوم بحضور “قيمت”. إذ وضّحتُ لهم أنني لن أبقى في المنزل، وأن شروط بقائي قد زالت، وأن مشاركتي في النشاط وعلاقتي معهم على هذا النحو لن تُطوِّرني. قلتُ لـ”قيمت”: “يمكنني المجيء إلى القرية التي تسكنين فيها حتى”. فردَّت قائلةً: “لنتحدث مع الرفاق. لكن عائلتك لن تقبل، وستخلق لنا المشاكل. ولن يكون حسناً إذا بلغَ الأمرُ مسامعَ الشرطة”.
وفيما بعد، وضمن مجموعة أضيق من الرفاق، طُرِحَ حلٌّ مفاده: “لنُزوِّج سكينة من أحد أفراد المجموعة”. أي أن “قيمت” تحاول العثور لي على زوج، بدلاً من إيجاد حل آخر. بل وتقترح بعض الأسماء: “فلان معقول، وفي حال لم يصلح لك ففُلان”. رفضتُ ذلك بحدّة: “إذا كان الحلّ في الزواج، فأنا أصلاً مخطوبة، ويمكنني الزواج من متين! وحينها تتولّد فرصة الخروج من ديرسم. لكن، وحسبما طرق مسمعي، فإن متين ما يزال متمسكاً بيساريةٍ على طراز حزب الشعب الجمهوري. لقد حصرَ نفسه في يساريةٍ سلبية ومنغلقة على ذاتها. هكذا يقول الرفاق ويؤكدون أنه ما من فائدة ترتجى منه. والحال هذه، فستزداد المشاكل”.
إنني لا أعالج الأمر بوعي عالٍ أو بتفكير عميق أو بوضعِ كل شيء في الحسبان. لكني لا أرى الزواج حلاً. بل أَعتَبرُ العلاقة القائمةَ كنايةً عن وظائف تنتظر التنفيذ قبل كل ذلك. ولا أميل إلى الرفض الفظ، ولكني أقول: “لن يثنيَني الزواج عن ذلك. ولكن، بشرطِ أن يستند إلى تشاطُر الفكر والأيديولوجيا والتنظيم أو المجموعة”. من جانب آخر، فإني أرى في جميع رفاق المجموعة أشقّاءً لي. هكذا كان التعامل معهم عموماً. فكل العلاقات الأولى، وكل الاتحادات الأولى كانت تُرى وفق هذا الإطار، وتُقَدَّس بموجبه. لذا، ينبغي عدم إفساد الرفاقية في المجموعة بتعاطٍ آخر. هذا ما يُعَدُّ عيباً أو جُرماً أو خرقاً للرفاقية. هكذا كانت المقاربات، حتى وإن لم تتسم بالجوانب العلمية أو المنطقية بصورة بارزة. مع أن الأسماء المطروحة كانت تتسبب لديّ بردود فعل مختلفة، عدا هذه المعايير. فعلى الرغم من أن الجميع أصدقاء، إلا إن البعض منهم يولّد الحميمية والودّ والاحترام، والبعض الآخر يتم التعاطي معهم وقبولهم لمجرد أنهم أصدقاء، لا غير. أي أن تلك المعايير لم تَكُن عامرة مع القسم الثاني منهم. لكنّ الأسماء المطروحة لم تَكُن مهمةً لديّ، لأنني أرفض الفكرة من الأساس.
أجل، لم يَكُن هناك فرق في الجوهر بين حلّ أمي وحلّ قيمت. بل وإن حلَّ أمي أكثر واقعيةً حتى. فكثيراً ما كنتُ أفكر: “تُرى، هل سيكون من الأفضل لي أن أتزوج فأذهب إلى أنقرة، وأعقد علاقتي هناك مع الرفاق؟”. ثم أفكر: “ولكن، إذا لم ندافع أنا ومتين عن نفس الحقائق، فلن يرغب هو في ذلك، وسيُعيقني، وسيفرض كلمته عليّ، ولن يتركني أتحرك كما أشاء”. وحينها سيحصل الانفصال! وهذا ما يعني خسارة بعض الأمور وذهابها سدى. وما دمتُ سأنفصل عنه، فلماذا أتزوجه أصلاً؟ وهل كل هذه أمور بسيطة؟ كلا. بل من الأفضل البقاء فتاةً يافعة، والافتراق في فترة الخطوبة. فالاحتمال الآخر مُربِكٌ ويعني مواجهةَ العديد من العادات والتقاليد. ومهما كانت الأم تونتون والعم خضر سيئَين، فإنهما سيَحزنان على هكذا انفصال. هذا عدا عن تكاليف العرس وغير ذلك. وسينتشر خبر العرس في المحيط ويصبح شرعياً. لذا، فإن قطع كل تلك الأواصر فيما بَعدُ سيغدو أصعب.
هل كان سيؤثر فيّ؟ كلا! فأنا متمردة وواثقة من نفسي! ولا أحد يستطيع أن يُرغمني على شيء في هذا الموضوع. كما لا أتحجج بهذا العائق أو ذاك، لكني لا أصل في تفكيري إلى قناعة راسخة، ولا أستطيع الربط بين الزواج والعلاقة الثورية. بل أقلق من ذلك وأستاء في الصميم، لأن الزواج يعني الاستمرار في التعامل مع كِلتا العائلتَين. وأنا لا أتحمل ذلك منذ الآن، فكيف لي أن أطيقه لاحقاً؟ لا، لا. لا أستطيع الاقتناع. ولكن، ماذا عساي فاعلة؟
فكرتُ في الذهاب إلى قريةِ جدتي لفترة. شاركَني “مَتو” الرأي، ولم يرفض والداي الفكرة. بل قالا: “لقد نحفتِ أصلاً. هناك يوجد الحليب واللبن الطازجَين، وهذا جيد لك. ابقي أسبوعاً ثم ارجعي”. فما عشتُه أثَّر في معنوياتي، وجعلني عاطفيةً للغاية وحزينة جداً. وكثيراً ما كنتُ أبكي سراً. فقد كان لدي صديقات كثيرات، لاسيما من اليسار التركي. لكنّ وضعَ أيٍّ منهنّ لا يشبه وضعي. وثمة المخطوبات منهن أيضاً. كانت فتحية جارتنا، لكنها تريد الزواج والذهاب إلى ألمانيا. فعائلتها لا ترغب التضحية بكل شيء لأجل العمل الثوري. كذلك كانت خاتون، أخت علي آيدن، مخطوبة. وغونيش أيضاً مخطوبة. ولكن، كان ينبغي أن تَكون حياتنا مختلفة عن نمط حياتهنّ.
صارحتُ الرفاق بالأمر، وذهبتُ إلى القرية مقتنعةً بأنها فترة “مؤقتة”. حاولتُ الاستمرار بعلاقاتي بعد ذهابي إلى القرية. لكني شعرتُ بالضجر بعد بضعة أيام. فالرفاق في المدينة، ومن الصعب عليهم المجيء إلى القرية أو ممارسة أنشطتهم فيها. بل ولا يوجد حتى كتاب واحد للقراءة. أصبحَت القرية بالنسبة لي مجرد فراغ بلا معنى. صبرتُ لأسبوعٍ بشقّ الأنفس، وعدتُ إلى المدينة.
لم تَكن لديّ خاصيةٌ مميزة أو جانبٌ بارز. والرفاق لم يروا في ذلك أي مشكلة. بل يرون في الأمر أنه مجرد قمع عائلي طبيعي، وأن عائلتي تود محاصرتي أكثر قليلاً من العوائل الأخرى. بل وأصبح ذلك موضوع فكاهة في مجموعة التدريب، فيمازحونني بشأن بحثِ قيمت على زوج لي. كان الجميع يقهقه بعد القول: “لتُعلّقْ سكينة يافطةً مكتوب عليها: أبحث عن زوج”. كنتُ أشاركهم الضحك على مضض، وأؤمن بالحظّ في بعض الأحايين، وأرى نفسي غير محظوظة. شعرتُ بالانسداد لأني عاجزةٌ عن تذليل العراقيل. لكني عنيدة وغير صبورة، ولا أريد البقاء محصورةً بين فكَّي كماشة.
تحدثتُ مرةً أخرى إلى أبي الذي أصغى جيداً: “لا أريد الزواج. أودّ إعادة لوازم الخطوبة إليهم، والتي لا ألبس منها سوى الخاتم. فأنا لم أفهم شيئاً من هذه العلاقة. إنهم لا يختلفون عن أمي بشيء. إنني أفعل ما يفعله رفاقي. ولن يحصل ما تقوله أمي”. حاول أبي تهدئتي وإقناعي: “لن نزوّجك رغماً عن إرادتك. ولكن، لماذا؟ ما الذي حصل؟”. ولَمّا انتبهَت أمي إلى النقاش، شاركَت فيه هي أيضاً.
وقالت غاضبةً حانقة: “لقد قلتُ حينها أن هؤلاء خدعوا ابنتي. فمنذ أن أتى “باقي” إلى منزلنا، باتت ابنتي في حِداد. حتى الجيران ذكروا ذلك. فمن حينها لا ترتدي ابنتي الملابس الأنيقة، ولا تأكل بشهية. بل وترتدي الوشاح الأسود. لقد فعل “باقي” بها شيئاً. قولي الحقيقة، ماذا فعلَ بك؟ لماذا تودّين فسخ الخطوبة؟ لماذا لا ترغبين بـ”متين”؟ لا بد أن لذلك أسبابه. علماً أن علاقتكما كانت جيدة. فمتين لم يَكُن يخرج من بيتنا في عطلة شهر شباط. وأنتِ كنتِ تحبّينه. لقد خدعوها يا إسماعيل. لا تتدخل في الأمر، فأنت ذو نوايا طيبة”.
وأطالت الحديث قدر ما استطاعت. لقد كانت مجحفة حقاً، وكل كلمة من كلامها ثقيلةٌ ومميتةٌ وتخدش مشاعر أي فتاة يافعة. لكنها لفظَتها بكل سهولةٍ محاوِلةً ثنيي عن قراري، وساعيةً إلى معرفة أسباب فسخ الخطوبة. إنها تضغط على أعصابي، وتستفزني، وتحطمني. لذا، اكتفيتُ بالدخول إلى غرفتي والبكاء. لمحتُ بعد هنيهةٍ سِلكَ المُسَجّلة. أخرجتُه من المقبس، ولَفَفتُه حول حلقي، ثم تراجعتُ وتركتُه على الطاولة. حاولتُ تهدئةَ أعصابي، وصارعتُ نفسي. أجل، العمل الثوري جميل، بل ورائع. لكن، لو حاولتُ إتمامَ دراستي وصقلَ وعيي أكثر في الدورات التدريبية، ولو نجحتُ بعدها في الذهاب إلى مكان آخر، فقد أغدو مفيدة أكثر. لو أنني في السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية، لتحججتُ بامتحانات المفاضلة لأجل الجامعة، ولابتعدتُ عن العائلة.
كان أخي الأكبر في إستنبول. فهل أذهب إليه؟ لكنه يرغب دوماً في العيش لوحده. ثم إن الوصول إليه ليس سهلاً أبداً. فهل أتزوج متين ونذهب إلى أنقرة؟ هنا بالذات أتوقف. تُرى، ألا يستطيع الرفاق إرسالي إلى منطقة بعيدة؟ أشعر بالضيق كلما خطر ببالي الحلُّ الذي طرحَته “قيمت”. لكن، لماذا تهتم “قيمت” بي فقط دون كل الرفاق الآخرين؟ ألا يستطيعون هم أيضاً الاهتمام بهكذا مشاكل؟
وتخطر جميلة ببالي. كنا ذهبنا سويةً إلى بينغول في العام 1975. وكان سيذهب متين معنا، لولا أن خالي منعَه في آخر لحظة. لابد أن أمرَ المنعِ صدر من أمي. ومع ذلك، لم نذهب، أنا وجميلة، لوحدنا. بل رافقَنا خالي في آخر لحظة، مستفيداً من بطاقة متين. كانت جميلة قد أنهت دراستها في مدرسة الفنون للبنات، وتمّ تعيينها معلمةً في مدينة بينغول. لذا، تَكفَّلَ خالي بالاهتمام بأمور التعيين، وبإعطاء الرشوة لإيجاد مدرسة مناسبة للتعليم، إذ ليس هناك شغور في مدارس المدينة، وأتى تعيينُها إلى قريةٍ قديمة نائية. لكنّ القرية لا تريد معلمين أصلاً. فأهالي القرية متدينون، ويرسلون أطفالهم إلى الكتّاب لتعليم القرآن. بل ويطلقون على “أتاتورك” لقب “أتاكوتك “. إنها قرية مناهضة لأفكار “أتاتورك”. ولا يريد أهلها أيَّ معلم أو طبيب أو موظف. بل حتى إنهم لا يرسلون مرضاهم إلى الطبيب!
كان معلمي الذي ينحدر من مدينة “وان” وهو عضو في “الجمعية الثقافية لثوار الشرق DDKD”، كان قد شرح لي ذلك في حديقة مبنى “نقابة المعلمين المركزية للتضامن والاتحاد”. حينها علمتُ بالأمر. وهناك أيضاً “طريق الحرية”. فقد أُحرِق مبنى النقابة في أحد الأحداث المتتابعة التي حصلت آنذاك. وأدركتُ في المدرسة أن معلمي قريب منا فكرياً. فأياً يَكُن، فنحن في نظره من “اليسار الكردي”. كانت الهوية الكردية تُقَرّبنا من بعضنا بعضاً. وهذا أمر طبيعي، بل وضروري. حينها، استذكرَ معلمي نقاشاتنا التي كانت تجري في الصف، ووصل بحديثه إلى تحليل البنية الاجتماعية والسياسية العامة في مدينة بينغول. كان يتحدث ونحن نصغي إليه.
ذُعِرَت جميلة من البنية الاجتماعية للقرية. مازَحها أبي قائلاً: “أيتها الكافرة ابنة الكافر، إنك لا تعقلين”. أجل، إن هذه الشتيمة هي دليل “محبته الكبرى” لنا عموماً. حقاً إنه يحبنا. لكنه يُعبّر عن حبه بهذا النحو الفظ. وغالباً ما يستخدم هذا التعبير عندما يكون ثملاً. لقد تضايق من نقاشاتنا. فهو ما يزال يميل إلى “حزب العدالة AP”. وعندما يكون ثملاً، ينادينا “يا رفاق”، ويضيف: “أنا ثوري أكثر منكم”. بقي متوتراً طيلة رحلتنا بين “بينغول” و”كوفانجيلار”، وظل يردد: “الفاشيون مختلفون. ويستطيعون ضربنا”. كان أغلب الذين صادفناهم في الحافلة أو المطعم ذوي صدور عارية، ويرتدون أطواقاً تحمل رمز الذئب الرمادي . وهذا ما زاد من توتّر خالي. علاوةً على أننا فتاتان يافعتان. لذا، كان يضيق ذرعاً بنظرات المحيط إلينا، ويحاول حمايتنا حسب قناعته.
ذهبَت جميلة في نهاية المطاف إلى القرية، وبدأَت بتدريس الفنون اليدوية من خياطة وتخريم. لذا، تمكّنَت الفتياتُ الصغيرات من إعداد كمٍّ وفير من “جهاز العرائس”. ومَرَّ حوالي السنة على ذهابها. فهل أذهب إلى بينغول، ومنها إلى تلك القرية مباشرةً كي أصل عند جميلة؟ لم أنسَ أيضاً “نقابة المعلمين المركزية للتضامن والاتحاد”، على أمل تَلقّي المساعدة منها. لكني كدتُ أنسى أمراً آخر. فالعطلة الدراسية ستبدأ قريباً. وعطلة مدارس القرية قد بدأت منذ زمن. لقد فشلت خطتي هذه. ثم إنه من الخطر الذهاب بمفردي حتى هناك.
عندما كنتُ أفكر في كل ذلك بصمت، ومن دون بكاء، بل بأعصاب باردة؛ دُقَّ باب غرفتي دقات سريعة. قالت أمي بقلق: “سكينة، افتحي الباب يا سكينة! عيب عليك. لنتحدث قليلاً. وقد جاءنا ضيوف. عيب عليك. لقد أتى العم خضر وزوجته، ويسألان عنك. ثم إنه وقت الطعام. فماذا ستأكلين. أبوك أيضاً حزنَ عليك جداً فخرج من المنزل، ولم يَعُد حتى الآن”. تابعَت أمي الكلام، في حين لم أنبس أنا ببنتِ شفة. ثم صرخَت فجأةً: “مَتو، يا مَتو، انظر من النافذة، أخاف أنها فعلَت بنفسها شيئاً!”.
إذاً، لقد خمَّنَت أمي مدى تأثري. عجباً! نظرَ مَتو من نافذة الشرفة إلى غرفتي، ولكنه لم يستطع رؤيتي بسبب الستائر. نادتني أمي ثانيةً، فلم أردّ عليها. حاول مَتو الضغط على الأقفال، لكن النوافذ جميعها كانت مغلقة. ثم نادى بأنين: “أختي، أختي!”. ويُعيد الكَرَّة ثانيةً وثالثة. إلا إنني لا أطيق أن يحزن مَتو. فهو أقرب صديق وأكثر المساعدين لي من بين أفراد العائلة. وعلاقتنا تتعدى إطار الأخوّة. أجبتُه فارتاحَ لسماع صوتي، مثلما ارتاحت أمي. خمّنتُ أيضاً أنه ما من أحد غريب في المنزل. وإلا، فأمي لا تفشي أسرار عائلتها لأحد. ولا تحبّ أن تعلم الأم تونتون وزوجها بالأمر.
بقي سلك الراديو على الطاولة. وقد رأته أمي بعدما خرجتُ من الغرفة. يبدو أنها شكّت قليلاً. ثم أوضحتُ لها نيتي في فعل ذلك خلال نقاشاتنا اللاحقة. لذا، حاولَت اتّباع الحذر معي لفترة، لأنها تخاف أن أرتكب “طيشاً”. ولكن، هل هذا هو الحل؟ فما الذي سيحلّه موتي؟ إلا إن كلمات أمي كانت ثقيلة الوطأة، ولم أستطع تحمُّلها.
فما دامت تُهينني بهذا القدر، وما دامت تراني شخصاً سيئاً إلى هذه الدرجة، فلماذا إذاً تتظاهر أمام الغير أنها تحبني، وأنها تفكر فيّ؟ ولماذا تفتخر بأنها أمُّ فتاةٍ حسناء ومخطوبة، وأنها ستصبح حماةً لشاب يافع ووسيم وطويل القامة ويدرس في المعهد العالي؟ إني أرى هذه المقاربة زيفاً فظيعاً، وأنها خالية من الحميمية والصدق. فأقول بيني وبين نفسي: “حسناً فعلَ أخي الأكبر بعدم الزواج. فلو كانت عروسه بجانب أمي، لكانت مقاربتُها لها أسوأ بكثير دون بد”.