ترجمة خاصة|| لا أعير أهمية للمقاربة الضيقة.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 33)
كان يوسف متين، الذي ينتمي إلى بلدة “أوفاجكلي” التابعة لمدينة ديرسم، والذي يسكن في نفس حيّنا، يزورنا مراراً في منزلنا، فنخوض معه نقاشات عميقة. كما يُعَدّ بيتُه منزلاً للتنظيم أيضاً، وهو أقرب ما يَكون إلى مستودع الكتب والأرشيف. وقد قال أنهم ناقشوا داخل حركتهم المسألةَ القومية، وأنهم سينشرون رؤيتهم قريباً بنحو رسميّ في جريدة “تحرير الشعب”. وقد تذرَّع باقي بذلك ليقول: “ثمة اختلاف في وجهات النظر في هذا المضمار. إننا نناقش. وفي حال صدرَت منكم تقييمات مختلفة، فسنتّخذ موقفاً تجاهها. وأنا لستُ لوحدي، بل هناك الكثير من الكُرد، وجميعهم ينتظرونكم”. أجل، هذا صحيح.
وينتشر تأثير الأيديولوجيا التحررية الوطنية انطلاقاً من أنقرة والمراكز الأخرى. وتتكاثف النقاشات في عدة مناطق مثل ديرسم وقارس وعينتاب وغيرها. ويهزّ النضال الأيديولوجي والسياسي كل الشرائح من الأعماق. بالتالي، باتت جميع تلك المجموعات مُرغَمة على رسم سياستها بشأن كردستان. فإذا لم تحدد موقفها، ولم تَصُغ تحليلاتها، فسيتدفق الجميع نحو مجموعةِ ثوار كردستان. واضحٌ جلياً أن الجميع قلِقٌ من إفلاتِ الكوادر الكُرد من صفوفهم. إذ أستنتج ذلك بكل سهولة من علاقاتهم معنا. فكأنهم يُحصّنون باقي بالحمايةِ نظراً لنفوذه الواضح بينهم. بالتالي، فأيّ موقف منه سيؤثر في محيطه أيضاً. لذا، فإنهم حذِرون في مقارباتهم، ولم يَعودوا يثقون به كما كانوا سابقاً. فهو مسؤول في الحيّ، لكنهم يَحُولون دون أن يتمكن هو وأمثاله من رسم سياسة واضحة في هذا السياق.
لعبَ يوسف متين دور صمّام الأمان. فهو في الحقيقة من أكثر المهتمين بالقضية الكردستانية. وله ماضٍ ثوريٌّ عريق. إذ أتى إلى إزمير في سنّ مبكرة ليعمل ويدرس في آنٍ. ثم أخذ مكانه في صفوف “الجيش الشعبي لتحرير تركيا” منذ بدايات تأسيسه. وهو من المجموعة المُلقَّبة باسم “النقّالين”، والتي تطلعَت لفترةٍ إلى التشبث بالتقاليد ونقلها إلى الحاضر. إنه ناضج ومحترم في نقاشاته. وقد مكثنا، أنا وحيدر وآينور، لمدةٍ في منزله، لنطالع الكتب ونناقش معاً، فكان ذلك بمثابة تدريب لنا. إذ ركّزنا بالأكثر على الكتب المعنية بمواضيع “حق الشعوب في تقرير مصيرها” و”تاريخ الحزب البلشفي”. فقرأناها وناقشنا حولها.
إني لا أُعيرُ أية أهمية للمقاربة التكتلية الضيقة. فرغبتي في المطالعة والنقاش والتعلم هي الأساس. ولا يهمني بعدها أين أو مع مَن أسكن. صار النقاش حول المسألة القومية، وبلوغ النقاط المشتركة بشأنها من أهم أهدافنا. وباقي تحديداً حفَّز على ذلك كثيراً، لأنه يرى في هكذا نشاط فائدةً كبرى، وإنْ لم يَكُن في جميع الأحايين. لكنّ ميول يوسف متين أكثر بروزاً، وتتميز بأهمية أكبر ضمن تنظيمهم. لقد شعرتُ بذلك وسُررتُ بإدراكي لتناقضاتهما هذه، فقلتُ في نفسي: “سيحصل انقطاع بينهما دون بد”. وترتفع معنوياتي مع تجلّي تداعيات ذلك على أرض الواقع. لذا، عليّ ألاّ أبالغ في تقييم مواقف باقي. فالأفضل هنا هو المزيد من الانقطاع كماً وتأثيراً. والحال هذه، ينبغي ألاّ أكون قليلة الصبر في علاقاتي. ذلك أنّ المقاربات العاطفية التي يُظهِرها باقي بين الفينة والأخرى، تدفعني دوماً إلى أن أكون عصبيةً وعَجولةً ومتطلعةً إلى الحل الأسهل. وأقرِّرُ ضمناً أنه في حال استمرار مقارباته هذه، فسأسكن في منزل منفصل، وسأقطع علاقاتي به.
قلتُ في نفسي أن الزواج به لن يكون إلا في حال اتحادنا أيديولوجياً وتنظيمياً. وبيَّنتُ له ذلك صراحةً. أي أنّ موقفي لم يعتمد الرفض الكلي أو عدم الاقتراب منه. لكنني ذكرتُ له موقفي بكل شفافية، انطلاقاً من عدم ثقتي بإمكانية تسوية الاختلاف في وجهات النظر بيننا. وقد هدفتُ حقاً إلى خلقِ الوحدة الأيديولوجية والتنظيمية بيننا. وإلاّ، فلماذا لن أطمح في تحويل هروبي من المنزل إلى هكذا وحدةٍ ثمينة؟ فقد كان الرفاق في ديرسم أيضاً يسعون إلى كسبِ إيبو وباقي بصورة خاصة. والآن، أصبحنا حوالي عشرة أشخاص مقرّبين من بعضنا بعضاً، وعازمين على العمل الثوري. فكم جميلٌ أن نأخذ أماكننا جميعاً في هذه الحركة، وأن نؤثر في الأوساط الأخرى أيضاً.
نبَّهَني يوسف متين مراراً إلى ضرورة عدم سلوك المقاربة البسيطة من الشخصية الثورية لباقي. لكنني حقاً لا أستصغره. إذ له جوانبه النضالية، التي جعلَتني أرغب كثيراً في أن يصبح رفيقاً لنا. لكنّ عدم ثباتِ مواقفه يزعزع ثقتي به. يبدو أن الزواج قد يغدو جسراً لتحقيق هكذا وحدة تنظيمية. هذا ما قيل لي، ولو بصورة مبطَّنة. إذ أَدركَ الجميعُ ارتباطي الوطيد بأيديولوجيتي، ولا يرفضون ذلك كلياً.
زارنا ذاتَ مرةٍ “صاري أرتان”. وقد كان هو أحد المعتَقَلين مع القائد أثناء انقلاب 12 آذار . إنه أحد الكوادر الطليعيين في “الجيش الشعبي لتحرير تركيا”. قال لنا: “اعتقَلوني مع آبو APO. إنهم يعرفونني. وقد ناقشنا حول ما يلي: إننا لا نستصغر المسألة القومية، ولسنا ضدها. بإمكانكم تشكيل تنظيم خاص بكم. ففي حال تصاعَدَ النضال قريباً على أساس تنظيمي صحيح، وتطَلَّبَ ذلك الانفصال، فلن يستطيع أحد الحؤول دون ذلك. ولن يبقى لنا حينذاك سوى دعم ذلك. هكذا سيكون الأمر، حتى ولو تصاعدَ الكفاح على أساس قومي. لكنه ليس من الصواب تجذير تناقضاتكِ مع باقي”. كانت هذه كلمات جميلة تعكس الواقع القائم.
لكنّ عقلي تشوَّش. فلماذا ينظّم باقي محيطَه؟ فأنا قادرة على البتّ في ذلك. لِمَ يتدخل يوسف متين أو صاري أرتان أو غيرهما؟ لا تهمني مكانة هؤلاء ولا ثوريتهم. زارنا محمد علي أيضاً في هذه الفترة. لم يحبّذ كثيراً أن أعمل. إن مقاربته عاطفية: “لتخرج سكينة من العمل. فهو أمر مُرهِق لها وشاق. إنكم رجال، وعليكم حل مشاكلكم الاقتصادية بأنفسكم. وبمقدوري مساعدتكم”. لكني رفضتُ ذلك، ولم أرَ من الصواب أن يجعل من عملي مسألةَ غرور. ثم طرحَ موضوع الزواج مرة أخرى:
“أنتِ أدرى. ولكن، ليس صحيحاً وضع شروط قاسية في هذا الموضوع. فباقي شخصٌ ثوريٌّ منذ سنين طويلة. ويختلف معي أيضاً في الرؤية. إننا ثوار. وأنا أحبه. دعكما من المواضيع التي لا تتفقان عليها، ولا أعتقد أنكما لن تتوافقا مع الزمن. نحن أيضاً نبحث في المسألة القومية. بل وتجَلَّت لدينا رؤيةٌ في هذا السياق. كلنا كردستانيون، ولا نستطيع الذهاب إلى مكان آخر. بالتالي، لا يمكن حصر المشكلة في مجموعة معينة، أو النظر إلى الأمر بهذا المنوال. إن الأخت سكينة مخطئة. إذ لا يمكن لأحد أن ينكر الحقيقة. فهذا مخالف لعلم السياسة”. هكذا حاول إقناعي. لقد كان صادقاً وحميمياً في كلامه. وأنا على ثقة بأن نواياه حسنة وأنه عاطفي للغاية. وهذا ما طغى على مقارباته منذ البداية.
لا وجود للإرغام في وسطٍ تسوده المعايير الثورية والمبادئ والثبات وقوة الإرادة والعزيمة. بل تُحتَرَم الإرادة، ويُعتَمَد العمل الجماعي والنضال المشترك أساساً، ويُراعى خلقُ ذلك وتوحيدُه، مما يُطوّر الرفاقية، ويوفّر إمكانية العمل الحر والمتساوي. أما بالنسبة للوسط الذي نتواجد فيه، وعلى الرغم من تضَمُّنِه روحاً جماعيةً فظةً وديمقراطيةً فظةً في الحياة الاجتماعية، إلا إنّ اختلاف الأيديولوجيات والخصائص الشخصية يُعيقُ بلوغَنا المستوى المأمول من الروح الثورية والمعايير اللازمة في العلاقات الرفاقية. إذ تسود الخصائص الشخصية الواهنة، والتي ما تزال مشحونةً بتأثيرات النظام القائم. فالشباب يتّسمون بالخصائص الإقطاعية أو البورجوازية الصغيرة، وتغلب عليهم مقاربات البنية الأيديولوجية للشوفينية الاجتماعية.
أما بالنسبة لي، فإلى جانب إيماني وارتباطي بأيديولوجيتي، إلا إني ما أزال حديثةً وهاويةً بخصوص التنظيم والممارسة النضالية العامة. هذا بالإضافة إلى بحثي عن علاقات الحب والزواج وتَهرّبي منها في آن، وعدم تجاوزي العادات والتقاليد، وعدم اتّباعي موقفاً ثابتاً طويل الأمد، بل تحرُّكي بمشاعري وعواطفي في هذا الخصوص. بمعنى آخر، إني أنطلق من المنطق الفظّ القائل بأنّ كل شيء هو من أجل النضال. لكني لا أعرف تماماً ماذا وكيف أعيش تنظيمياً، ولا أستطيع مواءمة ذلك مع التصرفات السديدة اللازمة ضمن وحدة متكاملة.
ما هي الأشياء التي يمكن التضحية بها؟ لاشك أنها الروابط القديمة المتخلفة. لكني أضحي بالعديد من الأمورِ دون أن آبهَ بعوامل المكان والزمان والحدود الضرورية لذلك. فمن ناحية، ثمة ارتباط وثيق بالحركة، وإصرار على العمل الثوري، وعناد، بل وجرأة لامحدودة. ومن الناحية الأخرى، ثمة نواقصي ونقاط ضعفي البارزة فيما يتعلق بتكريس الثبات والمبادئ والمعايير التنظيمية في الحياة بدون تنازلات. فالعواطف وردود الأفعال هي التي توجّهني في أغلب الأحيان. لكني اتّخذتُ قراري لأجل هدف معين. أي أنّ ما أدافع عنه وأضحي بكل شيء من أجله واضحٌ تماماً. فتيار التحرر الوطني يُعَدّ قوةً مُلهمةً لي. وأنا متشبثة به دون أي تردد أو التباس. إنه يجذبني بكل جوانبه. لكني لا أستطيع بأي حالٍ من الأحوال أن أتخلص من العراقيل التي تعيقُ توطيد قدمي في تلك الأرضية. فكلما تخلصتُ من عائقٍ ما، وجدتُ عائقاً آخر لا يختلف عن الأول.
أفضى الطموح في تحقيق الانطلاقة إلى مشاكل جديدة. وهذا ما علّمني الكفاح من جهة، وأدى بالآخرين من الجهة الأخرى إلى استخدام أي خطأ صغير أو أي نقص بسيط ضدي، مما ألحَقَ بي الضرر. إنني أخلق ذلك بيدي، لأنني لا أصل بالجهود والكفاح إلى النتيجة المحسومة. بل أسير بها إلى حد معين. ولو أنني تحليتُ بعدَها بالقليل من الصبر والمقاربات المنطقية والسياسية، ولو تحكمتُ بعواطفي وردود أفعالي، فسأنتهي بها إلى نتائج إيجابية ومكاسب ملموسة. لكن هذا لا يحصل. إذ أتسمّر في بعض الأحداث، وأتناول كل شيء انطلاقاً منها، مما يسفر عن خسائر فظيعةٍ عوضاً عن تحقيق الإنجازات. وبإيجاز، إني أبذل جهوداً حثيثة وأنا أسير على درب صراعٍ ضروسٍ لستُ جاهزةً له بَعد. لكني أتعلم كل شيء من خلال معايشتي إياه.
أجل، إني هربت. وقد فسَّر كلٌّ ذلك على هواه، على الرغم من أنه ليس بالأمر العجيب الذي يستحيل حصوله في ظروف تلك الأيام. فأياً يَكُن، فإن هناك فتاةً تهرب من البيت لأنها تتطلع لأن تصبح ثورية! وهذا ليس خسارةً بالنسبة إلى المجموعة أيضاً. ثم إنه بمقدوري الزواج. إذ ما من عائق أمام ذلك. بل على العكس، فكل الظروف تدفعني نحو ذلك. لكني لا أود تقييد نفسي بهكذا علاقة. فقد كنتُ قطعتُ علاقتي بنحو أحادي. وعادةً ما يقرر الرجل من جانبه قطعَ هكذا علاقة، ويقطعها. لكن، أنا التي قطعتُها هذه المرة. إلا إن نفس الروابط تُفرَضُ عليَّ في المكان الذي لجأتُ إليه.
ثمة منطق سائدٌ مفادُه: وكأنّه يستحيل الاستمرار في الحياة بشكل آخر، أو كأنك مضطر حتماً للارتباط بمكان ما، حتى ولو كنتَ تناضل! إذ يُسلَّطُ الضوء على المخاطرِ بالقول: “لا يمكن لفتاةٍ يافعة أن تبقى لوحدها!”. فهل أرفض أنا هذا الحكم كلياً؟ أم أنني أدافع عنه بعقلانية ووعي؟ لا هذا ولا ذاك. إذ ما زلتُ متأثرةً بوجهات النظر التقليدية التي تُوجّهُني. لكني لا أؤمن بصواب حياةٍ منحصرةٍ بامتلاك منزلٍ وأولاد وعائلة، ولا بصواب ممارسة ثورية متوائمة مع تلك الحياة. ولا يجذبني ذلك. إذ لا مكان لهكذا مسار في عالمِ أحلامي وطموحاتي. على العكس، فأنا أهرب من ذلك.
علاقاتي الاجتماعية ليست ضيقة. إذ التقيتُ كثيرين من كل الشرائح تقريباً، وتعرّفتُ على ظروف حياتهم. وبدلاً من الضياع أو الانحلال في معمعة تلك الظروف، وعلى الرغم من التأثر بها أو محاكاتها نوعاً ما، إلا إني فضَّلتُ أو تطلعتُ إلى الحفاظ على خصوصيتي. وما أزالُ هكذا. فأنا ضمن مجموعةٍ خصائصُ كلِّ فردٍ فيها مختلفة. علاوةً على أنني أنفتح على الآخرين دون أن أهابَهم، ودون أن تتحطم جسارتي. كما إني لا أتحركُ وفق هواهم أو إنصافهم. بل لديَّ معاييري التي أفرضها. فلا أحب أن أُهان، ولا أن أُعَدَّ مجرد امرأة. بل أواجهُ تَحَكُّمَهم، وأرفض سيطرتَهم، حتى وإن كانت لديّ نواقص أو نقاط ضعف. إنه صراعٌ يدوم. ولكني مع ذلك أُهزَم.
استمرت العلاقة أغلبَ الأحيانِ بإرغامٍ من طرف واحد. لكني قدّمتُ التنازلات أحياناً، وخضعتُ لها أحياناً أخرى. وعلى الرغم من المغازلة التي برزَت فيها، إلا إنها لم تتحول إلى علاقة زواج. حقاً، إن اختلاف الأيديولوجيات يؤثر في ذلك: الزواج من شخص غريبٍ ميوله السياسية مختلفة! وكيف ستَكون قواسمنا المشتركة؟ وعلى أيّ أساس سيتطور الحب والعشق والارتباط؟ إنّ تَشارُكَ المنزل والسرير فحسب أمرٌ فظيعٌ ويُناقض أيديولوجيتي. أما رؤيةُ الزواجِ في وحدة الحياة، فهي تعني النضال معاً لأجل قضية مشتركة.
لكننا أشخاص يتشاطرون نفس المنزل على الرغم من اختلاف أهدافهم. إذ نتحدث بلغتَين مختلفتَين عندما نذهب إلى مكان ما. لذا، فأحدنا مُرغَمٌ على التحرك وفق أيديولوجيةٍ ترفض الثورة الكردستانية، والآخر وفق أيديولوجيةٍ تخلقُ تلك الثورة وتَصوغُ أخلاقها التنظيمية. ربما لم تتجلَّ الفوارق بيننا بنحوٍ بارز بَعدُ. وقد عَدَّ كثيرون ذلك على أنه “تناقضات داخل اليسار”. لكنّ هذه الأيديولوجيا مختلفة كلياً عن أيديولوجية اليسار التقليدي. ومع ذلك، رأى باقي أنه محالٌ علينا أن نحقق الوحدة الأيديولوجية، وزعمَ أن مقاربتي ضيقة ودوغمائية. وتزوجنا في فترةٍ لم أؤمِنْ خلالها بذلك عن وجهِ حقّ.
فهل يبقى أي معنى إنْ قلتُ أنني تزوجتُ منه دون رغبةٍ مني، بل برغبةٍ منه وبإرغام أحادي الجانب؟ لكن، هذه هي الحقيقة. عقدنا الزواج بحفلة متواضعة حضرَها نفرٌ قليل من الرفاق والأصدقاء. سُرَّ محمد علي كثيراً. وعندما أَنهضوني للرقصِ بكيت. فعَلامَ سأفرح! إذ ثمة علاقةٌ تتأسس رغماً عني، لا لشيءٍ سوى لأن الآخرين يرغبون ذلك، ولأن باقي يودّ ذلك. فلو أنه توفَّرَت ظروف العمل المشترك والنضال المشترك، ولو كان ثمة صدق في هذا المضمار، لَجَرَّبتُ تَحمُّل ذلك. لكنه متردد، إذ لا يتخلى عن الحبيبة، ولا عن خصائصه. ولا علاقة لذلك بمقارباتي الضيقة والعَجولة. فأيُّ صبرٍ سأُبديه؟
ضعفَت ثقتي بذاتي، وحلّ الصمتُ والحزن لديَّ محلّ الصراع في ذاك اليوم. لم أرغب التحدث إلى أي أحد. جبتُ الشوارع طيلة النهار، لأني لم أَعُد أريد دخول ذلك المنزل. الكل يفهمني. أجل، فلكلِّ واحد منهم نصيبُه في حصول ذلك بسبب مقارباته العاطفية. فعلى الرغم من انتمائي إلى سياسة مختلفة، إلا إن الجميع عَدّوني “أختَهم الكبرى”. فعلاقاتنا طبيعية، لاسيما مع إيبو الحميمي والصادق. وقد وبَّخَ باقي عدة مرات قائلاً: “لا يمكنك إرغامها على ذلك. اترك اختَنا على راحتها، كي تقرر هي ذلك طوعاً. لا تطرح الأمر عليها مراراً”. كما كنتُ ناقشتُه أيضاً على انفراد. وقد وجدني على حق. لكنّ مقاربته أيضاً عاطفيةٌ في نهاية المآل. إذ إنه يثق بباقي، ويؤمن بأنّ زواجنا لن يعيق عملنا الثوري المشترك.