ترجمة خاصة|| شعارُ “كردستان مستعمَرة”فكَّكَ الشوفينيةَ الاجتماعية!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 37)
بحثتُ مجدداً عن عمل في إزمير. بدأتُ العمل في المعمل الصغير لتصنيع التين، والذي تعمل فيه الفتيات بالأغلب، ويقع في حيّ “آلسانجاك”. حاولنا حلّ مشاكلنا في منزلنا الجديد أيضاً. اقترحتُ حلاً وسطاً: “لنَبقَ في منزلَين منفصلَين خلال فترة البحث والبتّ في الأمر”. وافقني إيبو الرأي، على عكس متين. لكني قلتُ بكل حميمية: “بشرطِ ألاّ نعكس ذلك على الآخرين. فقد أتينا حديثاً من ديرسم. وعوائلنا حساسة في هذا الأمر. ثم إن هكذا أمور تنتشر بسرعة. ولن يكون هذا جيداً. لنتكتم على الأمر، فهناك رفاق يعلمون به أصلاً”. كنا قد تحدثنا في الموضوع مع حيدر الذي ينتمي لمدينة سروج. هو أيضاً قال: “أنتِ أدرى”، وأكّد أنه سيساعد “باقي” وسيناقش معه مراراً. إنه أفضل قرار. وإلا، فسيظل السجال الانفعالي قائماً.
باتَ كِلانا يذهب في أوقات مختلفة إلى أماكن مختلفة. إذ ما عاد ينفع البقاء في نفس المنزل، لأن ذلك يخدش العلاقات ويُضعِفها كثيراً. وقد قَبِلَ باقي ذلك على مضض في نهاية المآل. لكن، وحسب القرار الذي اتّخَذناه، فإنه علينا الالتقاء بين الحين والآخر، لأن ذلك لن يُعيقَ نقاشاتنا ونشاطاتنا المشتركة إنْ وُجِدَت، بل سيُطَوّرها. مكثتُ عند عائلةٍ من مدينة “وارطو” وتقطن في حيّ “تشيغلي”، وهي من معارف “باقي”. أما باقي، فكان حراً في المكوث في منزل حيدر وآينور، أو مع إيبو وصائمة في منزلنا، أو عند أصدقائه.
كنتُ في العمل ذات يوم، وكنا نفترش الأرضَ في القِسم الذي يُسمّى “غرفة الطعام” في المعمل أثناء استراحة الظهيرة، ونتناول الطعام الذي كنا وضعناه في الأوعية السَّفَريّة. إذ لا طعام في المعمل، وعلينا ابتياع الطعام من المطعم المقابل مباشرةً للمعمل، والذي يَبيع أيضاً الخبز المحمّص والفطائر واللحم بعجين. كما يمكننا أن نشتري الشاي أيضاً من المقهى الخارجي المقابل للمطعم.
كنا بدأنا لتوّنا تناولَ الطعامِ حين أخبرَني رئيس العمال أن زائراً يسأل عني. خمَّنتُ أن يَكون الزائرُ هو باقي، فماطلتُ قليلاً قبل أن أخرج. كنتُ أعقدُ منديلاً حول رأسي، وأرتدي مئزرَ العمل الأخضر. توجّهتُ إلى المطعم المقابل وأنا أنشّف يديّ بالمئزر، بعدَما أخبرَني رئيس العمال بوجود الزائر هناك. ولَمّا اقتربتُ من المطعم، رأيتُ أخي الأكبر مقابلي، فذُهلت. تَحاضَنّا وتبادَلنا القُبَل.
قال أخي بعينَين دامعتَين: “هل كنتِ مضطرةً للعمل هنا؟ ماذا حلّ بك؟ لقد نحفتِ كثيراً”. أجبتُه بذهولٍ مضاعف:
“كان لابد من العمل. فمَن الذي سيَرعانا؟ ثم إن العمل شيء جميل وأحبّه حقاً. كانت هناك أعمال أخرى، لكني لم أرغب بها”.
لقد أعطى “مَتو” عنوانَنا لأخي حيدر، الذي يدرس في كلية الحقوق بجامعة إستنبول، والذي جاء إلى إزمير لقضاء عطلته الدراسية ولزيارتنا في آنٍ معاً. طلبَ أخي الطعام، فتناولناه سويةً وتحادثنا بنحو متقطع. تظاهَرَ أخي بتناول الطعام، لكنه لم يأكل شيئاً يُذكَر. إنه يمضغ اللقمة التي في فمه مدةً طويلة، ويُخرِجُ أصواتاً عجيبةً حينما يبلعها. يبدو جلياً من تصرفاته أن مِزاجَه عَكِر.
تضايقتُ لحاله، لكنّ تصرفات باقي أيضاً فاترة. ما الذي يجري؟ يجيب أخي على أسئلتي بأجوبة قصيرة، ويتحاشى الحديث عن إستنبول والجامعة وغير ذلك. يبدو أن أمراً آخر عالقٌ في ذهنه. إنه ذهبَ إلى منزلنا الذي كنتُ أسكنه مع باقي، والذي يمكث فيه باقي حالياً، قبل أن يأتي إليّ في المعمل. وبالطبع، إنه أَشبَهُ بمنزل الفقراء. إذ فيه سجادة وفَرشَتان عتيقتان وبضعة صحون وأقداح وملاعق، لا غير. من المؤكد أن المنزل الذي يسكنه أخي فخمٌ لدرجةٍ لا تُقاس.
وما الذي كان ينتظره؟ أتُراه كان يتصورني أسكن شقةً فخمةً في بنايةٍ ضخمة وأعيش في وسطٍ لا ينقصه شيء؟ لكني لم أرغب ذلك، ولا أرغبه الآن أيضاً. وهل كان سيَكون ثمة فرقٌ لو أنني سكنتُ منزلاً كهذا؟ أو أنني كنتُ سأكون ربة منزل سعيدة بذلك؟ لا.. لا أبداً. إذ لا معنى لكل ذلك. وأنا مرتاحة البال تماماً في هذا الخصوص. إذ لم أرغب هكذا أشياء، ولم أحلم بها، ولم أبحث عنها. كيف لي أن أشرح ذلك الآن لأخي حيدر؟ قررتُ في نفسي أنه: “من الأفضل ألاّ أفعل شيئاً. فتأثُّرُه أمر طبيعي ومؤقت، وسيفهم الأمر لاحقاً”. لكنه غير مرتاح بتاتاً.
قال حيدر: “استحصلي الإذن كي نذهب سويةً”. أجبتُه بتردد: “حسناً”، ورحتُ أنتهز الفرصة المناسبة للبَتّ في الوجهةِ التي سنذهب إليها. وبينما انشغل أخي بدفعِ تكاليف فاتورة الطعام، سألتُ باقي عن رأيه فأجاب: “إن المنزل الذي تبقى فيه آينور وأخوها مناسب أكثر. وهو ذَهبَ إلى هناك أصلاً”. وافقتُه الرأي. لم أضَع أيَّ احتمالٍ لأنْ يَكون قد قيل أي شيء لأخي حيدر. إلا إنني لم أجزم بَعدُ سببَ ردود فعله. حاولتُ استخلاص وتخمين أسباب استيائه. ثم بدَّدتُ أفكاري قائلةً في نفسي: “على أية حال، سيتفجر غضبه دون بد”.
استقَلّينا سيارةً وذهبنا إلى المرفأ. لكنّ أخي لا يُعطي المجال لأحد منا كي ندفع أية تكاليف. إنه يمنعنا من ذلك دون أن يتفوه بأية كلمة. لكنّ باقي شقّ طريقه بين المحتشدين في المرفأ، وقطَعَ البطاقات. صعدنا سطحَ السفينة. نظرَ أخي إلى باقي، وكأنه يومئ له برغبته في الانفراد بي، ثم وضعَ يده على كتفي، وبدأنا السير لوحدنا. سألني فجأةً: “هل أنتِ سعيدة؟”. دُهشتُ من سؤاله الغريب هذا. فماذا عساه يقصد؟ تظاهرتُ أنني لم أفهم السؤال، وتَمتَمتُ بكلمات مبهمة.
السعادة!
فإذا كان يسألني عنها بمعناها الضيق، أي إذا كان يقصد بها الزواج، فإن جوابي هو: لا! أما بخصوص الحياة، فهي جميلة، حتى وإن كانت بنحوٍ هاوٍ وبالغةِ البساطة والنقصان. فالنضال الثوري يمدني بسعادة عظمى. إنني أعيش سعادةَ قوةِ الحياة. وإلا، فإني سأبقى وحيدةً وبمفردي وسط هكذا جو، إذ أفتقد إلى الضجة والعلاقات الصاخبة التي كانت في ديرسم. وعلى رغم كل شيء، فإني عامرةٌ بالثقة، ولا مكان لدي لليأس أو التشاؤم. فكل لحظة من الحياة هي صراع. وهذا ما يمدني بالقوة، ويحثني على الوقوف على قدمَيّ.
لكن، كيف لي أن أشرح له مشاكل زواجنا؟ فإني لا أستطيع سردها بنحو منفصل! فبينما تمدني حياتي بالقوة من جهة، فإنها تخنقني وتصبح لا تطاق من الجهة الثانية. وإذا ما تخليتُ عن الصراع في هذه النقطة، فسأغدو امرأة قدَرية تماماً، أو مستسلمةً حتى النخاع. لم يطرح أخي هذا السؤال عبثاً. ولا يمكنني أن أكذب عليه. علماً أنه يعرفني جيداً، وسيدرك من حالتي الروحية أنني لا أَصدُقُه القول.
قلتُ له: “سنتحدث مطوّلاً لاحقاً. وضعي جيد. إني أعمل، والعمل أمر رائع. لي علاقاتٌ مع الرفاق أيضاً، فمنهم مَن يدرس في الجامعة، وألتقي بهم هناك. أما الرفاق الذين في أنقرة، فسيتواصلون معي قريباً”.
واضحٌ جلياً أن كلامي لا يشكّل جواباً على سؤاله، بل التفافاً على الموضوع. فيُعيد أخي سؤاله: “لا، لقد سألتُكِ عن علاقتكِ مع باقي. ولا مشكلة بخصوص الأمور الأخرى. فأنتِ قادرة على العثور على الرفاق بكل سهولة”.
– “إننا نناقش. لم تتأسس وحدتُنا الأيديولوجية بَعد. إنك تعلم أنه من كوادر حزب التحرير الشعبي. وهو يزعم أنه يبحث في الأمر منذ عام 1975. وقد ذكر ذلك عندما جاء إلى ديرسم أيضاً. إنه لا يتمتع بالثبات كثيراً في هذا الخصوص. إننا نعمل في مكانَين مختلفَين. وصداقاتنا مختلفة أيضاً. وهذا ما ينعكس بطبيعة الحال على علاقتنا، ويخلق معه المشاكل. لكن، لعلّ لذلك حسناتُه أيضاً. لقد وعدَني أنه سيستفيض في البحث الشامل لحسم الأمر”.
– “حسناً. وهل يشكّل هذا الوضع عائقاً جدياً؟”.
لم أنبس ببنتِ شفة، ما عنى أنني أوافقه الرأي.
– “ألا يُنهِكُكِ العمل؟ لقد أصبحتِ نحيفة. تعالي نذهب سويةً إلى إستنبول لفترة. فالمنزل الذي استأجرتُه مناسب. وستبقين معي، وسنتجول معاً”.
أجبتُه دون تردد: “حسناً”.
– “هل يمكنكِ البتّ في هذا الأمر بمفردك؟ ألن تسألي باقي؟”.
– “ولِمَ لا أبتُّ فيه فوراً؟ أنت أخي. ولا مانع من ذهابي معك. لا داعي لأخذ موافقته”. جاء جوابي هذا سريعاً. فهزّ رأسه قليلاً ولسان حاله يقول: “فهمت”.
انتبهتُ إلى الأمر نوعاً ما. فهو يحاول اختباري كي يفهم وضعي. لذا، ما كان هناك داعٍ لإخفاء بعض الأمور أو عكسِها عليه بنحو مغاير، لأنّ ذلك يزعجه جداً. ولعل انزعاجه نبع من ذلك أصلاً. ومع ذلك، فقد توخّيتُ الحذر. اشترينا بعض لوازم الطعام من لحم وخضروات وفواكه. سِرنا ثلاثتُنا وفي أيدينا أكياس المشتريات. إننا لم نَشترِ هذا الكمّ من اللوازم في أي وقت من الأوقات، إذ نقتصد كثيراً في الصرف.
ذهبنا مباشرةً إلى المنزل الذي تسكن فيه آينور، والذي يتكون من غرفتَين وصالون صغير ومطبخ. إنه منزل متواضع. شمَّرتُ عن ساعدي، وتوجّهتُ إلى المطبخ مباشرةً. وبذلك قطعتُ على أخي إمكانيةَ طرحِ أي سؤال آخر. لقد فعلتُ ذلك عمداً. سألتُ حيدر وآينور: “إن أخي منزعج. فهل تحدثتما إليه، أنتِ وحيدر، حول وضعنا؟”. فأجابا بالنفي.
بعد برهةٍ ناداني أخي، فأدركتُ من شكلِ تَنفُّسِه أنه على وشك الانفجار. قلتُ له: “تفضل. اعذرني، فأنا أطهو الطعام. وأكاد أنتهي منه”. وفور انتهاء جملتي قال: “كفى. كفاكِ تصَنُّعاً يا سكينة. إنك لستِ سكينة التي أعرفها. لقد تغيّرتِ”. وصفعَني كفّاً قوياً، فشعرتُ بشراراتٍ صغيرةٍ تتطاير أمام عيني. وترنّحتُ، لا من شدةِ الصفعة، بل لعدم توقُّعي موقفاً كهذا. فما الذي يجري؟ هل جنَّ حيدر؟ علامَ كل هذا الغيظ والغضب؟ إنه أمر عجيب. ويكرر دون توقف:
“أنتِ لستِ سكينة التي أعرفها. إنك تكذبين عليّ. فهل تظنين أنني لا أدرك ذلك؟ إني أعلم كل شيء. هل كنتِ تعملين في منزل أبيكِ؟ هل أرغمكِ أبي على العمل؟ لكنكِ تعملين في المصنع الآن. فكيف أوقعتِ نفسكِ في هذا الوضع؟ إنكِ لستِ مضطرةً لذلك”.
ويتحدث دون توقفٍ مُجهشاً بالبكاء كالأطفال. أجبتُه: “أجل. لم أَعُد سكينة القديمة. إنكَ تودّ أن تراني الأختَ الكبرى على الدوام. لا يحقُّ لك التصرفُ هكذا. أنا لم أكذب”.
ثم أشرتُ إلى باقي وقلتُ: “هو الكذاب. إنه لم يَفِ بوعده. وعكَسَ الأمرَ عليكم. إني واثقة أنه سرده على هواه، وأنه تظاهَرَ بالألم وطلب المساعدة منكم. ولو أنه تصرَّفَ بصدقٍ منذ البداية، لَما جرى كل ذلك. لقد قال “حسناً” وقال “أبحث في الأمر” فيما يتعلق بنقاط الخلاف، لا لشيء سوى لكي نتزوج. لقد ماطَلَ كثيراً. ومقاربته الآن أيضاً هي عينها كي لا ننفصل. لقد طرحتَ عليّ سؤالاً، وربما عجزتُ عن إعطاء جواب واضح حينها. لكني أقولها الآن: أجل. لستُ سعيدة. وأنتَ أدركتَ ذلك. فأنا متزوجة من شخص يناقضني أيديولوجياً وتنظيمياً. أي أننا نتشاطر السرير فقط ولا شيء غيره. وهذا ما لا أطيقه، ولستُ مجبرة على ذلك. إنه هنا، فليَكُن صادقاً. لكنه تصرَّف بازدواجية وضغطَ عليّ. لم يَعُد ثمة مانع من معرفتك بالأمر، وأنا لم أُخفِ عنك شيئاً. لكني لم أرغب أن تَعلَمَ العائلة والأقارب بالوضع كي لا يحزنوا، إذ لا جدوى من ذلك. لكنكم تعرفون الآن. أجل، إننا نبقى في منزلَين منفصلَين. فكلٌّ منا ينتمي لسياسة مختلفة”. ذكرتُ كل ذلك وأنا أبكي وأصرخ، وسارعتُ للخروج من المنزل، إذ بقي القليل من الوقت على وصول آخر حافلة.
خرج باقي من بعدي وقال: “لا تُجَنّي يا سكينة. ما من حافلةٍ هذا المساء. تعالي. اهدأي”.
لكني لا أسمعه حتى، وأستمرّ في البكاء. الشارع خالٍ. هرولتُ مسرعةً نحو الشارع الرئيسي، ولحقتُ موعدَ الحافلة الأخيرة. إن الحافلة هادئة وغير صاخبة. طلبتُ بطاقةً إلى حيّ “تشيغلي الأكبر”. نظرَ الجابي إلى وجهي وهو يقطع البطاقة لي، وأعاد النظر إليّ ثانيةً عندما أعاد لي فائض المال، ثم هزّ رأسه حزيناً وابتعد. مؤكد أنه ثمة ما لفتَ نظره في وجهي. مَرَرتُ يدي على مكان الصفعة في وجهي. لا، ليس هناك دم. نظرتُ من زجاج الحافلة إلى وجهي، فوجدتُه محمَرّاً. وفكّرتُ أنه ربما هو كذلك من البكاء.
أرغمتُ نفسي في الحافلة على نسيان ما حصل وعدم التفكير فيه، كي أتمكن من السيطرة على دموعي. مشيتُ قليلاً بعد النزول من الحافلة، فارتحتُ قليلاً، وقلتُ في نفسي: “ليت الطريق يطول أكثر”. كان الجميع نياماً عندما وصلتُ المنزل. حملَقَت ربةُ المنزل فيّ باستغراب، فقلتُ لها: “سنتحدث لاحقاً”.
ستقام تظاهرة حاشدة ضد محاكم أمن الدولة في الصباح. لذا، ينبغي عليّ أن أتواجد في ساحة كوناك بحَيّ كامارالتي في تمام الساعة السابعة صباحاً. تواعدنا مع الرفيقَين حيدر وجلال على أن نلتقي في مركز الجمعية التابعة لحزب التحرير الشعبي. يقال أن المجموعات كافة ستشارك في التظاهرة، وستحشد جماهيرها أيضاً. يبدو أنه سيكون حدَثاً عظيماً. وتهدأ أعصابي كلما تذكّرتُ أنني سألتقي الرفاق غداً.
لم يَكُن بكائي المفرط في محله. فهكذا أمور تحصل دوماً. إنه صراع سيستمر ولو بأشكال مختلفة. فأخي ما يزال يرى نفسه أخي الأكبر. إنه لم يَكُن كذلك في المنزل. لا بد أن باقي هو الذي أثاره. يبدو أنّ أخي عَدَّه إنساناً بريئاً وسلِساً ومهتمّاً بالوحدة، وأنه سيدافع عن قضية كردستان، وأنه سيَكون طلسماً يحقق الوحدة الأيديولوجية في نهاية المآل! لعلّ أخي استشاط غيظاً عندما شرح له باقي وبسلاسة هادئة الحقائقَ العامة.
لا، لا. ليس الأمر كذلك. لقد كان مغتاظاً مما عشتُه. لم أكُن أرغب في باقي، فخُطِبتُ لشخص آخر قبل أن أهرب وأعود ثانيةً إلى باقي وأتزوج منه. والآن نتحدث عن الانفصال. هذا ما جعله يحنق هكذا. علاوةً على أنني أعمل في المصنع. حسناً، فما جدوى هكذا زواج؟ هذا ما أَدرَكَه أخي واغتاظ منه. إنني أعرفه جيداً. فهو لا يريدني أن أخطئ. وقد استشاط غضباً بسبب حبه لي وتفكيره بي. فبينما كان يوبّخني فقد عَمدَ إلى توبيخ باقي أيضاً بين الفينة والأخرى بألفاظ أثقل وطأةً:
“لا محل للازدواجية وانعدام الشرف في الروح الثورية. ما الذي تَجِدُه في حزب التحرير الشعبي حتى تنجَرَّ وراءه هكذا؟ جميعكم كذلك. هناك مِن أمثالكم في كليتنا أيضاً، ويُستَخدَمون كالدُّمى. لديكَ وطن، فاذهب إليه ومارس الثورية هناك. أنتَ مَن يُجذّر المشكلة في هذه النقطة. وحبُّكَ لسكينة مزيّف. فما دمتَ تحبّها، فعليكَ أن تحبّ تيارَها السياسي أيضاً. أنا أعرفكَ جيداً. أنتَ متذبذب وتفكّر دوماً فيما سيقوله الآخرون وما سيُروّجه حزبكَ عنك. وما دمتَ تفكر في ذلك، فأين ثوريتكَ إذاً؟ إنكم هكذا عائلياً: إيبو هكذا، ومحمد علي هكذا، وحيدر وجلال أيضاً هكذا. جميعكم مُنجَرّون وراء الشوفينيين الاجتماعيين. انظر، أنا لا أنتمي إلى أي تنظيم. لكنّ رؤيةَ الثوار الوطنيين سديدة. وسوف يصعد نجمهم، شئتم أم أبيتم”.
إنها توصيفات جميلة. لذا، لا أستطيع حتى أن غضب من أخي. بل لقد نسيتُ نفسي وبدأتُ أفكر فيه. وما زال بكاؤه يطنّ في أذني. لقد أجهش في البكاء ذات مرةٍ في ألمانيا أيضاً، عندما رمى أبي منفضة السجائر في وجهه. واضحٌ أنه تأثر كثيراً حينذاك أيضاً. تُرى، هل خرج هو أيضاً من المنزل؟ إلى أين عساه ذهب في منتصف هذه الليلة؟ لم أستطع الخلودَ إلى النومِ حتى الصباح. ولَمّا نهضتُ صباحاً، حملقَ الجميعُ في وجهي. نظرتُ إلى وجهي في المرآة. ثمة احمرارٌ خفيف مكان الصفعة. هذا هو كل شيء. فقلتُ لهم: “لعِبتُ الملاكمةَ مع أخي. وطالما لعبناها سويةً سابقاً. وقد ظنَّ أننا ما نزال في منزلنا، فلَكَمَني وحصل ما حصل”. ضحكَ الجميع. لكن، يبدو أنّ حسن يمعن فيّ بأسىً. فهو يعلم تناقضاتي مع باقي، ويعتقد أنه هو الذي ضربني. لذا، لم يتفوّه بكلمة، لكنه تأوَّه ولسان حاله يقول: “سأُريكَ”، وراح يَكزُّ أسنانه غضباً. تناولنا الفطور سريعاً، وتوجّهنا نحو الشارع الرئيسي. نظرنا في الساعة بين الحين والآخر، لكني قلتُ له: “سنصل في الموعد”. لم نتكلم أبداً. فكِلانا غارق في التفكير.
إنه لا يريد المَساسَ بي كي لا يقطع سلسلة أفكاري. إنه إنسان متفهم جداً. حسن أيضاً إنسان محترم وكادح، ويعمل في “تاريش”، وله ثلاثة أطفال. إنهم أتوا إلى هنا بعد زلزال وارطو. يقوم حزب التحرير الشعبي بتنظيم الناس في حي تشيغلي، فيُدرِجُ كل هؤلاء الناس الطيبين ضمن شبكة علاقاته. وهؤلاء يدفعون اشتراكاتهم الدورية ظناً منهم أن أولئك “ثوريون”، فيستلمون مجلاتهم، بل وانضمّوا إلى لجان الحي أيضاً. إنهم لم يفقدوا خصائصهم القومية، ويُصغون باهتمام لدى النقاش معهم. علاقاتنا معهم طيبة، بل ويزورهم الرفاق أحياناً.