ترجمة خاصة|| سنناضل حتى النهاية ضد العصبية القومية.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 39)
تركتُ عملي في آلسانجاك، وبدأتُ بعدها بفترة قصيرة بالعمل في مصنع العنب الكائن على طريق بورنوفا. فالعطالةُ تؤثر مباشرةً على الحياة لدرجةٍ لا نملك فيها أحياناً حتى ثمن تذاكر الحافلات. ذهبنا في اليوم التالي إلى مركز الجمعية التابعة لحزب التحرير الشعبي. وبدأ الاجتماع بإيضاحٍ تمهيدي من خالد، مفاده: “سيتناول الاجتماعُ الشؤون الخارجية ثم الشؤون الداخلية”. ثم أردف خالد قائلاً:
“كما يعلم الرفاق، فقد نُظِّمَت فعاليةٌ شاركت فيها كل التيارات والمجموعات، عدا الجمعية الثقافية لثوار الشرق والحزب الشيوعي التركي والتحرريون. وقد كانت مسيرةً جماهيرية طويلةً وعلنيةً ومفتوحةً على كل القوى المناهضة للفاشية، واستعراضاً مناهِضاً للفاشية ضَمَّ آلاف الأشخاص. وكانت تهديداً للسلطة الفاشية، إذ فَضحَت أعمالَ “محاكم أمن الدولة” الفاشية. لا ريب أن القضيةَ الثورية للشعبَين الكردي والتركي هي التي تُقاضى في هذه المحاكم متمثلةً في شخوص أبنائهما. فالدولةُ تطبّق ظلماً قومياً على الكُرد. ولا يمكن لأية حركة تتغاضى عن ذلك ولا تتناوله في برنامجها أن تَكون حركةً ثورية. ونحن كحزب التحرير الشعبي، تناولنا هذه المسألة القومية في برنامجنا، وطرحناها للنقاش المكثف. وقريباً سوف تُنشَرُ آراؤنا في هذا الخصوصِ مجتمِعةً. وبمقدورنا النقاش في هذا الشأن أيضاً مع الرفاق (إنه يقصدنا هنا). يمكننا فعل ذلك هنا في الجمعية وعلى نطاق أضيق. كان هناك لجنة تنظيم التظاهرة، والتي تتألف من ممثلي المجموعات المشارِكة فيها. وقد عَكسَت هذه اللجنةُ إرادتَها على كل تصرفاتها. إذ كان ثمة شعارات تم تحديدها بنحو مشترك. علاوةً على أن المجموعات ردَّدَت شعاراتها الرئيسية أيضاً”.
وفي سياقِ حديثه، صَرَّحَ عن مضمون مقاربتهم منا، مستخدِماً تعبيرَ “بعض الرفاق الكُرد”، لا من باب جهله لاسم مجموعتنا، بل لعدم رفعنا إلى مستوى المخاطَب الرسمي كحركة. إذ قال:
“وفي تلك الأثناء، ردَّد بعض الرفاق الكُرد شعاراتٍ مختلفة. إن شعار “يسقط الاستعمار” ليس غلطاً، بل هو شعار عام. وسأقولها صراحةً، فإن رفاقنا في أنقرة أيضاً ردّدوا هذا الشعار. لكننا هنا لم نَكُن قد قررنا ذلك بعد. أي أن القرار المركزي لم يَكُن قد بلغَنا بعدُ، فلم نردده. وهذا هو السلوك الصحيح على صعيد الآليات التنظيمية. إلا إن بعض الرفاق تصرّفوا بنحو عاطفي، وكأنهم أسسوا تنظيماً داخل التنظيم. وسنُوجّه انتقاداتنا إلى أولئك الرفاق في أوساط مختلفة، وسنُصرّح هناك عن موقفنا تجاههم. لكنّ الموقف تجاه الرفاق الكُرد لم يَكُن سليماً. إذ كان على الرفاق الناظمين للموكب أن يتصرفوا بنحوٍ أكثر نضجاً ورُشداً. ونعتقد أن هناك رفاق من المجموعات الأخرى أيضاً ممّن أبدَوا ردود أفعالهم. إننا نعتذر منهم باسم رفاقنا”. وبذلك كانوا قد حددوا المحور الأول لاجتماعهم.
تَحدَّثَ كِلانا أيضاً، إذ ذكّرناهم بمهامّ ثوار الأمة المضطهِدة (الحاكمة)، وعبَّرنا عن آمالنا في هذا الشأن وعن رغبتنا في التضامن. كما انتقدنا عدم مشاركة أعضاء الجمعية الثقافية لثوار الشرق في هكذا فعالية، وشرحنا خصائصهم الطبقية، وأكّدنا على أنهم ليسوا ممثلي ثورةِ كردستان، وأننا سنناضل حتى النهاية ضد العصبية القومية للبورجوازية الصغيرة. ولم يحصل أي سوء بعدها. فقَيَّمنا الأمر فيما بيننا، وبَيَّنّا أنه أياً كان الهدف الذي عُقِدَ لأجله هذا الاجتماع، وأياً كانت حساباتهم، فقد كان اجتماعاً إيجابياً. لكنّ باقي قام هناك بتصرف غريب، إذ قال:
“أنا أيضاً أنتقد الموقف المتَّبَع تجاه الرفاق في تيار الوطنيين. وعليه، فإن هذا الاجتماع جيد، وما من شيء آخر أضيفه. أما فيما يتعلق بموقفنا، فهو بالتأكيد ردّة فعل عاطفية تماماً، ودلّ موضوعياً على تشكيل مجموعةٍ داخل مجموعة. وفي الفترة التي تُناقَشُ فيها المسألةُ القومية، فإن ترديد شعار “يسقط الاستعمار” قبل البتّ في ذلك يخالف النظام الداخلي. إني لا أرى الشعارَ بِحدِّ ذاتِه خطأً. وكلي أمل أن يصدر قرار إيجابي في هذا الخصوص”.
هل كان باقي مضطراً لهكذا إيضاح؟ ثم إنه قِيلَ في بداية الاجتماع أنه سيتم النقاش مع تلك المجموعة. فأيُّ شرفٍ ذاك الذي يحاول باقي إنقاذه؟ أغضَبَني تصرّفه ذلك كثيراً. فما الذي يرمي إليه حقاً؟ ثم إنه قال أننا “تَصَرّفنا بعاطفية فردَّدنا الشعار”. كم هو غريب! فهل هؤلاء ملتزمون حقاً وإلى هذه الدرجة بالنظام الداخلي للحزب؟ هل هذه هي المعايير الأخلاقية في السياسة؟ إنهم بعيدون عن واقع الشعب وكأنهم أداروا له ظهورهم في مسيرتهم، ولا يدرون إلى أين هم متّجهون. ومع ذلك فإن هذا يُعَدّ أخلاقاً فاضلةً وروحاً ثوريةً لديهم! في حين أنهم يرون في التعبيرِ عن تَبَنّي حقيقة عظيمةٍ وفي التشبثِ بها في المكان والزمان المناسبَين على أنه اللاأخلاق!
لا يمكن البتةَ قبول خصائص ثوار الأمة المضطهِدة، والتي تشكلت على أرضية الشوفينية الاجتماعية. ولا يمكن أيضاً قبول حالاتهم الروحية هذه ولا ردود أفعالهم تلك. ما الذي سيخسره هؤلاء؟ هل سيخسرون مناصبَهم؟ كلا، إذ يبدو أنهم أكثر الحمّالين كدحاً في هذا الشأن. إنهم أكثر مَن يُشَغَّلون ويُستخدَمون بمقاربات براغماتية وتحريضية، ويركضون هنا وهناك للعمل. بالتالي، فإنهم لا يتطلعون إلى المناصب! والحال هذه، فعَلامَ كل هذا القدر من الانسحاق والانكماش والتردد والمخاوف؟
وخرجنا لأنه لا جدوى من البقاء أكثر والاستماع إلى هكذا تُرّهات. تحدّثنا إلى حيدر قبل الخروج، وأكّدنا أن ما جرى كان إيجابياً. فعلى الأقل قد جرى النقاش وتغيَّرَت أجنداتهم. وهذا في الحقيقة أمر حسن. علاوةً على أن تناقضاتهم الداخلية كثيرة، ولكنهم لا يودّون عكسَها على الخارج. وهذا أمر مفهوم. كما يبدو أن باقي أيضاً ينتظر مقاربتهم من المسألة القومية، والتي ستُنشَر قريباً.
قال حيدر: “قد يحصل انشقاق جماعي. ومقاربةُ باقي كانت سياسية”. لم أوافقه الرأي لأني أعرفهم ولو قليلاً. ومع ذلك، أَجمَعنا على “ضرورة مواصلة العلاقة مع تلك المجموعة”. وشدّدتُ على أنه مهما حاولوا التكتم على تناقضاتهم، إلا إن المشاكل ستظهر ثانيةً عندما يعجزون عن إقناع بعضهم بعضاً. واستذكرتُ الشيوعيين الفرنسيين ثانيةً بتقديرٍ واحترام وسرور. إذ يقولون للعم هوشي منه: “اذهب وأَنجزِ ثورة فييتنام”. وهكذا تتصاعد هذه الثورة بالنضال التحرري الوطني في المستعمَرات الأفريقية من جهة، وبتحفيزِ ثوارِ الأمة المضطهِدة من جهة ثانية. فيتلقّى الكوادر الطليعيون الدعمَ المعنوي اللازم. ويبدو أن وضعنا كان سيكون مختلفاً، لو أن دنيز وماهر وأمثالهما ما زالوا أحياء الآن.
سأفتح قوسَين فاصلَين هنا أيضاً:
اليوم هو الثامن من آذار! الجو ممطر منذ ليلة أمس. وقد هطل الثلجُ أيضاً على القمم الشاهقة. إن شتاء منطقة الزاب غريب. إذ كنا نقول أننا نكاد لم نَرَ الشتاء هذه السنة، فإذا بالمناخ يتبدل فجأة. بالتالي، فإن الرفاق لن يحتفلوا بمناسبة 8 آذار في جوّ ربيعيّ مشمس. لقد جهّزوا لهذه الاحتفالية منذ مدة. لا أدري ما هو برنامج الحفل، ولكنّ المهم هو بدءُ مرحلة جديدة في نضال تحرر المرأة. فالاستعراضات والمراسيم والاحتفاليات جميعها لن تجِدَ معناها الحقيقيّ إلا إذا كانت عامرةً بمضمون سديد.
إن حركتنا، وعلى مستوى قيادتها، قد أسَّسَت حركة المرأة، وعقدَت أواصرَها المباشرة مع الثورة، وشَرَّبَتها بروح الاشتراكية والحرية، ووثَّقَت بينها وبين كافة جوانب الحياة نظرياً وفكرياً، وصَيَّرَتها شكلاً من أشكال الحياة. إلا إن ذلك لم يتوطّد تماماً في القاعدة الشعبية. وأخص بالذكر أن مقاربة المرأة بالذات من حركة المرأة الثورية مليئة بالأخطاء والضلال، ولم تطمح إلى تحقيق هذا الهدف في شخصيتها. كما إنه لم تتطور حتى وقتٍ قريبٍ أيةُ حركة أو فعالية نسائية تتسم بخصائص طبقية مختلفة في كردستان. بالتالي، فقد أصبحت ظاهرةُ المرأة طيّ النسيان، وأضحَت المرأة الخاسرَ الأكبر. ولهذا السبب بالذات، كان لا بد من تطوُّرِها بالطراز الثوري. وفي الحقيقة، فإن هذا يُشكّل أهم مزايا الثورة الكردستانية. وهذه الحقيقة التي وجدَت تعبيرَها النبيل في مقولةِ “ثورة كردستان هي ثورة المرأة”، تُعَدّ في الوقتِ عينِه تطوراً عظيماً على درب الحرية، ومن أهم جوانبها التي ستحقق النصر المؤزر.
تُرى كم من الرفيقات يفكّرن في ذلك بعمق وبجدية في هذا اليوم؟ لا يهمني أن أعرف. ولكني أعلم وأدرك بأسف أننا ما نزال بعيدين جداً عنها. هناك مجموعات نسائية غفيرة على رؤوس الجبال، وكلها تنضوي في نظام الجيش. وهذا ما يدعو إلى الافتخار. فالقوة القتالية المسلّحة مضطرةٌ لنيل الحرية بخوض حرب شرسة إلى هذه الدرجة. ولكن، ثمة ابتعاد فظيع عن الحرية أيضاً. إذ هناك تشبُّثٌ بنمطِ حياةٍ يحصر الحرية والتحرر في إطار القتال الفظ. وما من طليعة ملموسة. لقد حاولت المرأة فعل ذلك بالاسترجال، ففشلَت وتسبَّبَت بأضرار جسيمة. إن هذا الجيش يُوجَّهُ اليوم بمداخلات القائد. لكنّ المرأةَ مضطرةٌ لأن تدرك جيداً إلى أين هي ذاهبة وكيف عليها المسير؟
في بدايات القرن العشرين، وجدَت النساءُ الخلاصَ في النضال المشترك وفي روح التضامن الكبير. أي أنهنّ اعتمدن خوض الصراع المشترك أساساً بوصفهنّ جنساً مسحوقاً! وعليه، لا يمكن الاحتفال بمناسبة الثامن من آذار، إلا بعد معرفةِ وإدراك معنى ذلك، والتشبث بقوةٍ بلوازمه ومتطلباته. هذه هي الخاصية الأساسية لهذه المناسبة، والتي ما تزال حيةً حتى يومنا. أجل، إن رفيقاتي يجتمِعن الآن، ويشكّلن مظهراً رائعاً. لكنهنّ يفتقرن إلى جمالية الروح المشتركة، وإلى الوحدة المنيعة الثابتة، وإلى روح المسؤولية لأجل تحرير المرأة. إنهنّ ما يزلن ضعيفات جداً في هذا المضمار. إننا نخسر في هذه النقطة، بل ونُلحقُ الأضرار بصراعنا بصورة عامة.
تحدثنا ضمن مجموعة نسائية صغيرة عن الرفيقتَين بريتان وعزيمة وعن غيرهما من الشهيدات، واستذكرناهنّ. كم هي جميلةٌ خصال بريتان: الحماس والمبادرة والعنفوان والتطور والطموح لجني النتائج. إذ يسود الحبّ والودّ في المكان الذي تتواجد فيه بريتان، ويصبح خطابها جسراً يوحّد القواسمَ الجميلة المشتركة ويفجّرها. أما ذكاؤها ومهاراتها وكدحها، وقراءتها العميقة للمستجدات التي تتابعها باستمرار، والعواطف التي تعبِّر عن جوهرها، وحيويتها التي لا تنضب؛ كل ذلك قد جعلها محبوبة الجميع. إنها فتاة ثورية. إنها بريتانُ كلِّ الشابات والشبان الرائعين!
ربما شعرَت الرفيقة عزيمة (أي: المعلمة مهريبان) أنها أُبقِيَت أو بَقيَت وحيدةً أحياناً خلال سنوات تواجُدِها على ذرى الجبال. لكنها، وعلى رغمِ كل جوانبها الناقصة، ظلّت قياديةً مناضلةً ومقاتِلةً صامدة، وحاربَت ببسالة. إنها شخصية ملتزمةٌ بالتنظيم. وبالرغم من بعض الخصائص المتناقضة جداً بيني وبينها، إلا إنني طالما ثمَّنتُ فيها روحها القتالية، ووثقتُ بروحِها التنظيمية. إن المرء قادرٌ دوماً على متابعة المسير مع هكذا أصدقاء، وعلى تحمُّلِ أعباء القضايا سويةً، حتى ولو تخللَ الصراعُ والتناقضُ هذه المسيرةَ والصداقة.
لم أنتظر اليومَ أن يجلبَ لي أحدٌ “باقات زهر النرجس”. لكني بحثتُ عن الأوساط الجميلة والدافئة، وحننتُ إلى الأجواء الحميمة، وشعرتُ حتى النخاع بروحِ النضال والوحدةِ الكامنة في مغزى يوم المرأة العالمي. فاستذكرتُ كلارا وروزا، وحيَّيتُ في الصميم وبحرارةِ الصراعِ المحتدمِ المناضلةَ ليلى قاسم، التي أثّرَت كثيراً في رسم مسار حياتي.