ترجمة خاصة|| روح الاشتراكية تئن!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 40)
أجل، لقد أنضجَتني التناقضاتُ والصراعات التي عشتُها في إزمير، وزادَت من حِدّتي. فعلى الرغم من بُعدي عن وطني وانقطاع أواصري مع التنظيم، إلا إني أصبحتُ أدافع عنه في كل الظروف والشروط، وآمنتُ بأني غدوتُ جزءاً لا يتجزأ منه، فاهتممتُ بكل شيء معنيّ به. وبذلك أصبحتُ ألتقي ببعضٍ ممّن “شكَّلوا تكتلاً داخل الحزب” في حزب التحرير الشعبي، فنجلس في حيّ “إنجيرالتي” أو أي مكان آخر مناسبٍ لمطالعةِ الكتبِ سويةً والنقاش حولها. وكان أغلب هؤلاء ممّن ينتمون إلى مدينة ديرسم. صارت تلك اللقاءات أفضل وسيلة للتدريب بالنسبة لي، وساهمَت تلك المطالعاتُ والبحوث والنقاشات في تحويل المعارف الأيديولوجية إلى نسَقٍ رتيب منتظم. لكنّ كل ذلك لَم يَكُن كافياً بَعدُ لتسخيره في خدمة الحركة والوصول به إلى نتيجة ملموسة.
وأخيراً، صدرَ المنشورُ المعنيّ بالمسألة القومية، ونُشِرَ في مجلةِ “تحرير الشعب” بعدما طالَ الترويجُ له. في الحقيقة، كان باقي قد أطلَعَني على كُرّاسهم السري. وعليه، فإن ما نُشِرَ في المجلة كان على نطاقٍ أضيق. لقد تم الإجماع على ألّا تُخاضَ النقاشات، بل الاقتصار على طرح الأفكار أو الانتقادات الملموسة. من الواضح جلياً أنه ما كان بمقدورِ حزب التحرير الشعبي، الذي طرحَ حلَّ المسألة القوميةِ بالاستفتاء، أن يؤثرَ كثيراً بتحليلاته الجامدة تلك. ذلك أن كلّ ما فعله هو أنه أفتى بوجودِ “كردستانٍ مَيّتة” انطلاقاً من المثال السويدي-النرويجي الذي أشار إليه. كم ستَكُون الحقيقةُ مقلوبةً رأساً على عقب، إنْ أنتَ سألتَ شعباً يرى في العبوديةِ قَدَراً محتوماً إذا ما كان يودّ الانفصال أم لا، أو أنْ تعترفَ بحُرّيتِه أو بحقّه في تقرير مصيره!
كانت روح الاشتراكية تئنّ! إذ يبدو أن سِجِلَّ الشوفينيةِ الاجتماعيةِ قد سُلِّمَ إلى ثوارِ الأمة الحاكمة . وطالما نوقِشَ هذا الأمر في الجمعيات والمنازل والجامعات. بدأَ باقي في هذه الفترةِ باتخاذ مواقفه لصالح شرفِ الهويةِ الكردية، بالتزامن مع استمرار النقاشات فيما بينهم. كما واظب على جسِّ نبضِ حميميتي فيما يتعلق باستمرار علاقتنا، وزعَمَ أنه يؤمن بإمكانية الوصول إلى نتيجة سليمة بالتعامل الكثيب مع بعضنا بعضاً. لم تَنتَهِ الفترةُ التي حدّدناها بعد. لكننا أصبحنا نبيتُ في نفس المنزل، ويأتي كلٌّ من عمي ومحمد علي وإيبو ومَتو إلى زيارتنا. فقد استأجرنا غرفتَين من منزلِ إحدى العوائل التي تنتمي إلى مدينة أوفاجك، والتي تقطن في حيّ نرجس بمدينة إزمير. إذ يبقى الآخرون في إحدى هاتين الغرفتَين، ونستخدم الأماكن الأخرى جماعياً. بذلك كنا نقتصد في ثمن الإيجار (فاستئجار منزل منفصل يُكَلّفُ غالياً)، بالإضافة إلى أنّ هذا الوضعَ لا يلفت الأنظار. لم يَكُن المنزل يضجّ باللوازم داخلياً، لكنّ مظهره من الخارج كان فخماً.
يتكون أفراد العائلة من فتاتَين، سكينة وزاهدة، وأخٍ لهما. أما الوالدان، فهما في ألمانيا. وبالنسبة إلى زاهدة، فإنها توالي جماعةَ “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا” مذ كانت في مدينة أوفاجك. لذا، فإن مقاربتها من إيبو أقرب ما تَكون إلى اعتباره فرداً من أفرادِ عشيرتها. أما الفتاة الصغيرة سكينة، فلم تَكُن تهتمّ بهكذا أمور. وقد عمِلنا سويةً لفترةٍ جدّ قصيرة في معمل العنب، الذي كان من العسير خلقُ تنظيمٍ فيه كونه معملاً صغيراً. لكني مُصّمِّمةٌ على تنظيمِ مقاومةٍ عمالية أَرودُها شخصياً. بدأتُ أبحث عن مكانِ عملٍ يناسب طموحي هذا الذي يمدني بعنفوان مختلف.
وأخيراً بدأتُ العمل في مصنعٍ على طريق بورنوفا، وذهبتُ إليه مع كلثوم المنتسبة إلى حزب التحرير الشعبي. فأياً يَكُن، فإن باقي هو الذي يحدد المكان الذي يمكننا العمل فيه، لأنه ضمن المجموعات التي تَعلَم -بحُكمِ عملها- بالمصانع التي تبحث عن عمّال، وبتلك التي تتوفر فيها أرضيةُ العمل التنظيمي. إنه “مصنع سليب”، الذي تَعودُ مُلكِيتُه إلى شركةٍ ألمانية-تركية. ويتكون داخلياً من عدةِ مراكز، ويعجّ بالعمال، ويتميز بمدرائه المميزين وبنظامِ عملٍ دقيقٍ يفرضُ الالتزامَ بكل الآليات اللازمة، بدءاً من مدخله الرئيسي وحتى قاعته الداخلية. لكلِّ عاملٍ خزانةٌ فولاذيةٌ خاصةٌ به في غرفة تبديل الملابس، تحتوي على المئزر الأبيض والقبّعة البيضاء، اللذَين ينبغي ارتداؤهما قبل الدخول إلى مكان العمل. وهناك استراحاتُ الشاي لمدة عشرين دقيقة، بالإضافة إلى استراحة الغداء لمدة خمس وعشرين دقيقة. لذا، عليكَ الركضَ سريعاً وقتَ الغداء، كي تأخذ دورك وتتناول طعامك بأقصى سرعة. وبالطبع، فمَن يتخلف عن وقته، لن يتمكن من إنهاء وجبته أبداً، ولن يشبع بطبيعة الحال. كل العمال يتناولون طعامهم في نفس المكان، بخلاف المصانع الأخرى التي عملتُ فيها، والتي كنا نجهل فيها أينَ وماذا يأكل المدراء ورؤساء الأقسام وأرباب المصانع.
بدأتُ أعرفُ تدريجياً مَن مِن العمال ينتمي إلى أية مجموعة. إذ هناك كوادر من الحزب الشيوعي التركي، ومن جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا، لكنّ أغلب العمال كانوا من كوادر حزب التحرير الشعبي. إنه مصنع يختلط فيه الشباب والفتيات في العمل. علينا أن نستخلص الدروس من المصانع الأخرى. وقد نَبَّهْنا بعضَنا بعضاً حول ذلك، لأنّ مدراء هذا المصنع يشدّدون الرقابة على كل شيء.
كنتُ أركض كل صباح من منزلنا في حي نرجس وحتى الشارع الرئيسي، كي لا يفوت عليّ موعد الحافلة. إن عملي هذا يمدني بالمتعة الكبرى أكثر من أي عمل آخر، لأنني أهدف إلى تنظيم المقاومة دون بد. هذا هو الجانب المشترك بيني وبين العديد من العمال الثوريين مثل: عمران وكلستان ومخمورة وغيرهم. إن مخمورة من المهاجِرات البلغاريات. وهي فتاة شقراء ذات عينين زرقاوَين، وتتّسم بجمال أخّاذ، هذا عدا عن مهاراتها. وقد بدأَت العملَ هنا قبلَنا، فزرعَت الثقة في نفوس المدراء، وأصبحَت رئيسةَ العمال في قِسمها. ولهذا الأمرِ حسناتُه طبعاً. إذ بإمكان العمال أن يقوموا بأعمالهم الأخرى لمدة طويلة دون أن ينكشف أمرهم، بشرطِ أن يتحلَّوا بالحذر. لَم تَكُن علاقةُ هذه المجموعة طيبةً مع أعضاء الحزب الشيوعي التركي. لاسيما وأن نسرين التي من ذاك الحزب الأخير ليست راديكالية، بل ويتجلى مفهوم النضال النقابي في مقارباتها وسلوكياتها. مع ذلك، فإنها لم تَعكس ذلك علناً، إلا إنّ المشكلة الأساسية تكمن في منطق مقاربتها من المقاومة العمالية.
تُخاطُ القطع القماشية كلاً على حِدة في وحدةِ عملنا، لتأخذ بَعدَ ذلك شكلَها النهائيَّ ثم تُغَلَّفُ وتصبح جاهزة. لكل قِسمٍ رئيسه الذي يراقب العمال باستمرار. وبالأصل، فالنظام المتوطد لا يَسمح للمرء التوقفَ ولو دقيقةً واحدة. فعلى الماكينة الأولى تُخاطُ قطعةٌ ما، لتُترَكَ على الطاولة المجاورة. ثم تُضاف إليها قطعةٌ أخرى على الماكينة المجاورة، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي القطع فتصبح القطعة الأصلية جاهزة. وحسب ذلك، فإن العامل يستلم أجرَ الساعات الثمانية التي يعمل فيها. أما مَن يعمل ساعاتٍ إضافية، فيستلم أجراً إضافياً. لكن، وبعد فترة، بدأَ كل عامل يأخذ الأجر حسب عدد القطع التي يُخيطُها. أجَّجَ نظامُ العمل هذا المنافسةَ بين العمال. فبدأ كل عامل يبذل جهوداً مذهلة كي ينتج المزيد من القطع الجاهزة. وإلى جانب ذلك، فإن النوعية أيضاً تصبح مهمة. فمَن لا يخيطُ بنحو دقيقٍ يُقتَطَع من أجره. كانت الأجور تُدفَعُ أسبوعياً، فتَبلغ حوالي مئتَين وخمسين أو مئتَين وسبعين أو ثلاثمائة ليرة تركية كحد أقصى.
كان العمالُ أعضاءً في نقابة “تكسيف” التابعة لاتحاد نقابات العمال “تورك – إيش”. وعليه، يُقتَطَع من الأجر عشرُ ليرات على الأقل. وإذا حسَبنا أيضاً ما يذهب إلى النقابة والضمان، وإلى الأكل والشرب، فإن مقداراً زهيداً من مال العُربون هو الذي يبقى للعامل. هناك عمال يشتغلون هنا منذ عشرِ أو اثنتَي عشرة سنة، وجميعهم منزعجون من هذا الأمر، علاوةً على ظروف العمل الصعبة. ففترةُ استراحةِ الغداء لا تصل إلى نصفِ ساعةٍ حتى. والكل يركضُ ليحصل على وجبة الطعام. وما من رابح في كل ذلك سوى رب العمل. أما رؤساء الأقسام، فيُعطَون أجوراً أعلى قليلاً. ومثلما هي حالُهم في المعامل الأخرى، فهنا أيضاً يلعبون دور “رب/ة العمل الصغير/ة”. ولكن، هناك رؤساء أقسامٍ يعملون هنا منذ مدة طويلة، ويقومون على تنظيم العمال أيضاً. يمكننا معرفة ذلك أثناء استراحات الشاي أو الغداء القصيرة جداً. وكلُّ مَن يعرفهم يقوم بتعريفهم عليّ.
على الرغم من أن بعض العمال لا يهتمون لشيء، إلا إن أغلبهم منفتحون على السياسة، وقادرون على رؤية المشاكل، ومتأثرون بالمقاومات العمالية. لذا، لم نَلقَ صعوبةً تُذكَر في التواصل والتحاور معهم. بل ونظّمَ كلُّ واحد منا عدداً لابأس به خلال فترة وجيزة. وعملنا على الإكثار من كلِّ ما يلفت الأنظار. فقليلون جداً أولئك الذين كانوا سمعوا باسمِ الكُرد أو كردستان.
بَيَّنتُ بكل شفافيةٍ للكوادر القائمين على التنظيم أنني أعمل كثورية كردستانية، وأنني مستعدةٌ لعملِ كل ما يلزم لأجل تنظيم مقاومات العمال في المصانع، وأنني أرى في ذلك واجباً نبيلاً. لكني، وبدلاً من تنظيم العمال باسمِ ثوارِ كردستان، هدفتُ إلى تنظيمهم على أساس معالجةِ قضاياهم الذاتية، وتوجيه غضبهم نحو السلطات، وتحقيق تعرُّفِهم على واقع الشعب الكردستاني، وإفهامهم معنى التضامن معه، وتوعيتهم وإثارة يقظتهم في هذا الخصوص، وأقول لهم: “لنَقُمْ بهذا العمل معاً بناءً على هذه المبادئ الأساسية”. أي أني هَدَفتُ من تواصلي معهم إلى تحطيم التأثيرات الشوفينية لديهم، وإلى تذكيرهم بمهامّهم. وبطبيعة الحال، فإن الجميع يعتمدون وجهةَ نظرِ مجموعاتهم أساساً. لكنّ مقاربتي تُذهِلهم من جهة، وتحثّهم على التضامن فيما بينهم، وتدفعهم لعملِ بعض الأمور المشتركة من جهة ثانية.
لقد نضجَت ظروفُ تنظيمِ الإضراب تماماً. لكنّ توجيهَه بسدادٍ وتعظيمَ تأثيرِه أمرٌ مهمّ أيضاً. إذ يُشتَرَطُ أن يمثِّلَ مصالحَ كل العمال، أو أن يَلمَسَ فيه أغلبيتُهم الماهيةَ القادرةَ على إقناعهم بأقل تقدير. ففي بعض المصانع يتم إحباط الإضرابات بكل سهولة، ومن دون أن تبلغَ أهدافها السياسية. وللخصائص الطبقية والرؤيةِ إلى النضال النقابيّ ومقاومات العمالِ لدى تلك المجموعات دورُها الرئيسي في ذلك.
انعكسَت تناقضات المجموعات اليسارية كما هي على المصانع وعلى مواقفِها تجاه بعضها بعضاً من قبيلِ: الرفضِ والتشويه المتبادَلَين بدلاً من إيجاد القواسم المشتركة، وتجذير التناقضات، وتأجيج الفوارق، وإبراز نقاط الخلاف. وهذا ما يَقسِم قوةَ العمال طبيعياً، أكان كمّاً أم نوعاً، ويتسبب بانعدام الثقة فيما بينهم. فبدلاً من إنهاضِ الجماهير العمالية وتنظيمها وتفعيلها على أساس مشاكلها الذاتية، ارتأَت تلك المجموعاتُ إبرازَ بعض المطالب الاقتصادية، واقتصرَت في أهدافها السياسية على إطلاق الشعارات الطنانة، فمارست نشاطاتٍ ضيقة. بل والمثير هو أنها تبارزَت فيما بينها على زيادة “عددِ الرؤوسِ” المُناصِرة لها. لقد برزَت خصائصُها هذه بنحو فاقع. لكنّ أساليبَهم هذه لم تنفع تجاهي. فقد سحبتُ من يدهم هذه الورقةَ منذ البداية، لاعتمادي على التعاون والتضامن والنضال المشترك أساساً. فشاركتُ في كل ما رأيتُه صائباً بشغفٍ وحماسٍ يَزيدان عمّا لديهم منهما. وهذا ما لجَمَ مقارباتهم المتطرفة، وضاعَفَ من حبهم لي.
التقينا أحياناً في نهايات الأسبوع للنقاش. فعلى رغمِ عدم مشاركتي في اجتماعاتهم، إلا إنهم بدأوا يتناقشون ويتحدثون معي ضمن الإطار نفسه، بل وباتوا أحياناً لا يرَون مانعاً من مشاركتي في اجتماعاتهم. هكذا أصبحنا نُقَيِّمُ نشاطنا في المصنع، ونَصوغ معاً برنامجاً مشتركاً. ركَّزنا أولاً على تسجيل أنفسنا في نقابة المنسوجات التابعة لاتحاد النقابات العمالية الثورية “ديسك”، وعلى خلقِ الظروف الملائمةِ كي نَنتَخبَ ممثلينا بأنفسِنا. ثم بدأنا بالدعاية لذلك، وبجَسِّ النبض العام، وبتحديد الميول الموجودة. وبما أنه هناك كوادر تابعة لتلك المجموعاتِ ضمن النقابة، فقد كنا ننسِّقُ معهم في هذا الشأن.
جاءني زائرٌ غير متوقَّع في هذه الفترة. كنتُ أنتظرُ أن يتواصلَ الرفاق معي، لكني لم أخمّن مجيء “شاهين دونماز” لهذا الغرض. كان ينتظرني مع حيدر السروجي خارج المصنع، عندما كنتُ أمام البوابةِ أَجمَعُ التواقيعَ لتسجيل أنفسنا في نقابة المنسوجات. فذكَرَ لي أحد العمال أن لديّ زوّار غير بعيدين. فحَصتُ المحيط بعيني. أجل، إنهما شاهين دونمار وحيدر. سَلَّمتُ الورقةَ والقلم لرفيق آخر وذهبت.
انعكسَت فرحتي على كل تصرفاتي. فالرفاق قد أتَوا من الوطن، وهذا ما يعني بدءَ التواصل المباشر. استقلَّينا حافلةً وذهبنا إلى منزلنا في حيّ نرجس. عندما رأى شاهين المنزلَ من الخارجِ علَّقَ قائلاً: “إنه فخم جداً”، لكنه أصيبَ بالإحباط عندما دخله. يبدو أنه تصوَّرَه شقةً مفروشة. ولكن، ثمة سجاد عتيق على الأرض لا غير. وهو سجاد مهترئ قد سقطَ عنه وبَرُه، وفعلَت فيه الحروقُ ثقوباً، بل حتى إن حصيرَتَنا تصبح بهيةً مقابله. وفيما عدا ذلك، هناك عدة مِخدّاتٍ وفَرشاتٍ بلا أغطية. فعلَّقَ شاهين هذه المرة قائلاً: “إنه تماماً مثل بيت العمال أو العُزّاب”. وبذلك يَكُون قد سحبَ كلامَه الأول.
كان حيدر قد سردَ له نشاطاتنا وعلاقاتنا. وقد أومأَ شاهين إلى اطّلاعه على ذلك خلال حديثه، فنَقَلَ لنا المستجدات الأخيرة في الوطن، وأكد أن عدد المنخرطين في الحركة في تزايد يومياً، وأن الرفاق يُسيّرون نشاطاتهم في مدنِ عينتاب وباطمان وأورفا وماردين وديرسم وقارس ودياربكر، وأن شريحة الشباب تنقطع سريعاً عن المجموعات الأخرى لتنخرط في مجموعتنا. شرحتُ له التناقضات السائدة بين أعضاء حزب التحرير الشعبي، وأوضحتُ أنه في حال التحدث إليهم فسيزداد احتمالِ انتقالِ بعضهم إلينا، وأعطيتُ اسمَ هاشم وغيره مثالاً.
لكنّ عائلةَ “ديمير” من كوادرِ الرعيل الأول في حزب التحرير الشعبي. وقد تحدَّثَ شاهين عن عليشان ديمير وحسين ديمير، اللذَين أعرفهما منذ أيام مساكن الموظفين. فأضفتُ: “بمقدورنا التأثير في تلك العائلة، في حال انتقل هاشم إلى مجموعتنا”. إنني أتحدث عن شقيقِ معلِّمِ الرفيق مظلوم، أي عن عائلة “يوكسال”. ولكني لم أتطرق إلى تناقضاتنا العائلية. إلا إنّ شاهين سأل باقي: “ماذا يفعل إبراهيم؟ ويبدو أنك ما تزال منجَرّاً وراء حزب التحرير الشعبي يا باقي؟”. غَمغَمَ باقي قائلاً: “لا أوافق على تهمة الانجرار والتبعية. إننا نناقش الوضع. وقد تناقشتُ مع سكينة كثيراً. في الحقيقة، ثمة نقاطٌ مشتركة بيننا، ولا يعيقنا اختلاف الانتماء التنظيمي. بإمكاننا النقاش أكثر”.
لم أرغب التطرق إلى هذا الموضوع. ذلك أن باقي سيُكرر الأمور عينَها، وسيعَلّق شاهين بشأنه قائلاً: “يمكننا كسبُه”، وسيتوصل بذلك إلى حُكمٍ معيّنٍ قبل أن يدرك جوهر المشكلة. لكنّ شاهين قال بعدَها: “أودّ الاستفاضة في النقاش”، فتَعَكَّر مزاجُ باقي، وعَقَّبَ أثناء طهوِ الطعامِ مُبيِّناً أنه لم يَستَسِغ شاهين، وأن أحاديثه استفزازية، وأنه متأكد من أن مقاربته من مشكلتنا لن تَكون موضوعية. ثم أضاف: “لنَثِقْ بأنفسنا قليلاً، ولِنَحلّ مشاكلنا بأنفسنا دون إشراكِ الآخرين فيها، لأنهم لا يُوحّدوننا”. فغضبتُ من كلامه وقلت: “لا يمكنك المقاربة بأحكامٍ مسبَقةٍ من رفاقي. أنت أيضاً أتيتَ بالعديد من رفاقك، وناقشنا معهم هذا الموضوع. وأنا أيضاً أودّ مناقشةَ كل التفاصيل مع رفاقي كي يَعرفوا. إذ لا توجد، ولا يمكن أن توجد مشاكل أخرى بيننا!”. فعَقَّبَ قائلاً: “أنتِ أدرى”، وأعرَبَ بكل تصرفاته عن مخاوفه واستيائه.
تحدثتُ إلى شاهين على انفراد، وسردتُ له المرحلة التي مررتُ بها بكل تفاصيلها بدءاً من فترةِ ديرسم، وسمحتُ له بتغيير الموضوع كما يشاء بين الفينة والأخرى. قلتُ له: “اسمعني، أودّ سردَ كل شيء لك، كي يعرفَ الرفاق كيف مررتُ بهذه المرحلة. لقد أَبلَيتَ بلاءً حسناً بمجيئك، فقد قرّرتُ العودةَ إلى الوطن، وكنتُ سآتي إليكم حتى لو أنكَ لم تأتِ. بل وحقيبتي جاهزةٌ أيضاً، وكنتُ أنتظر الفرصةَ السانحة لآتي إليكم بنحوٍ مناسب. لكن، هناك موضوع العمل في المصنع. ومن جهةٍ ثانية، فإني لا أعرف إلى أين سأذهب كأول خطوة. كنتُ أفكر في الذهاب أولاً إلى أنقرة، لأذهب بعدها إلى الوطن عن طريق الرفاق الذين هناك. كفى! لقد تَعِبتُ وأُنهِكتُ من معاناة المشاكل نفسها بعد الإيمان في كل مرةٍ بأن المشكلة قد حُلَّت أو أنها ستُحَلّ!”.
اعتَرَفَ شاهين بذهوله، وأكّدَ أنه لم يَكُن يعلم بالتناقضات التي عشتُها وبرغبتي في الذهاب إلى الوطن، وأنه يوافقني الرأي على مواقفي بصورة عامة. لكنه أضاف: “إلا إنه بالإمكان كَسبُ باقي”. لم يَقُلْ ذلك بثقةٍ تامة، بل أشارَ على مضضٍ إلى ضرورةِ “النقاش مجدداً”، ولسانُ حاله يدل على الرغبة في عدم “إفسادِ البَين”. تصوَّرتُ أنّ هذه المقاربة تعني المماطلة، فتساءلتُ: “تُرى، ألَم يَجِدْ ما قُلتُه منطقياً؟”. فحجّتي في الانفصال واضحة: الانفصال بسبب الخلاف الأيديولوجي! يبدو أنّ هذا أمر غير مألوف. تَحَدّثَ في صباح اليوم التالي مع باقي، الذي شرح بدوره مخاوفه. فرَدّ شاهين: “كلا. إننا لا نفصلُ أحداً عن الآخر. الرفيقة موجودة. وهي التي ستقرر. وعلى العكس من ذلك، فنحن نريد كسبَ الآخرين”.