تقارير وتحليلات
ترجمة خاصة|| حمداً لله أن كل أبنائي تحرريون وطنيون..من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 26)
كنا ذات يوم في منزلِ “مدينة”، الابنة الكبرى لعمتي التي نناديها بلقبِ “بيبي”. وزوجها “خضر” يُعَدُّ من أقارب أبي وابن قريته. لا تُناصِرُ “مدينة” وزوجها أيَّ تنظيم. وأولادهما ما يزالون صغاراً. لكنهما يَريان في الجميع ثوريين، ويحبانهم، ويدعمانهم مادياً بكل ودّ. كما كان منزلهما مفتوحاً لنا في كل الأوقات. كنا الوحيدين من ضمن الوسط العائلي، ممّن يؤازر الأيديولوجية التحررية الوطنية، وعلى صِلةٍ مع هذه العائلة. أما الآخرون، فينتسب أغلبهم إلى المجموعات اليسارية التركية. لذا، فإن النقاشات الحامية والمواقف القاسية بين صفوف الشبيبة، كانت تؤثر فيهما سلباً، على غرار العوائل الأخرى. وكانا يُعَبّران عن أسفِهما بالقول: “ليتَكم كنتم جميعاً من نفس التنظيم. فمن أين جاءت كل هذه التنظيمات المختلفة؟”. بل وكان السخط يتضاعف عندما ينتسب أفراد العائلة الواحدة إلى أكثر من تيار سياسي. وقد عبّرَت أمي عن حُسن حظها إزاء هذا الوضع قائلةً: “حمداً لله أن أبنائي جميعهم تحرريون وطنيون. فلو انتسبوا إلى أكثر من حزب، لَنَهشوا بلحوم بعضهم بعضاً دون بد!”. أُعجِبتُ بكلامها هذا.
أنا و”آينور” ابنة “بيبي”، و”جلال” ابن عمي مصطفى، كنا نحتسي الشاي معاً في المطبخ، ونتجادل. والمنزل يعجّ بالضيوف، ومن بينهم أمي. دار النقاش بالأكثر بيني وبين جلال، الذي يُعَدّ من الكوادر البارزين في “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية PDA”. أما آينور، فلم تحسم صفّها بعد. فأحياناً تَميل إلى “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا TİKKO”، وأحياناً إلى “حزب التحرير الشعبي HK”. أما في ذاك اليوم، فتبَيَّنَ وكأنها من “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية”، إذ تتدخل مراراً في النقاش وتخلط الأمور. استعصى نقاشنا حول أنه “لا وجود لظاهرةِ مستعمَرة المستعمَرة”. فكأن جماعة اليسار التركي حفظوا هذا التوصيف عن ظهر قلب، فيتناولونه بصورة دوغمائية وبنحو بعيد عن واقع كردستان وتركيا. إنهم يستميتون في الدفاع عن هذه الأطروحة، لاسيما المتحجرون منهم، والذين يقدّمون طرحهم هذا مُنَمَّقاً ببعض الثرثرة والديماغوجية الاصطلاحية.
حاول جلال أيضاً حصر النقاش ضمن هذا الإطار. ثم لجأ إلى أسلوب التشويه والإشهار، فاستهدف بعض الأشخاص بذريعة أنه يُقَيّمهم وينتقدهم. كان “زلفو أوزكان” أيضاً أحد أصدقائنا. فتمسّكَ جلال بهذا الاسم بالأكثر، ليُكيل بحقه الاتهامات. كان “زلفو” أرعناً حقاً، ومعروفاً بيننا بمشاكله. لكنه شقّ طريقه إلينا، فسعَت المجموعة بكل إيمان وإصرار إلى إكسابه شخصية مستقرة. أجل، ربما له مساوئه، بل وقد يكون إنساناً سيئاً. لكنّ إطراء التغيير عليه أمر ممكن. وهدف مجموعتنا هو إنقاذ الأشخاص، وتحديث شخصياتهم، وجعلهم أصحاب شخصية مستقرة وإرادة صلبة. وأياً يَكُن، فإن “زلفو” رفيق لنا، وما كان ممكناً قبول أي توصيف يحط من شأنه. لقد ذكر جلال أن مواقفه في النقاشات استفزازية.
هذا صحيح. فهو يستفز الطرف الآخر بنحو فظيع في النقاشات. لكنّ هذا يتعلق بمستواه النظري والأيديولوجي. علاوةً على أن شخصيته أيضاً غير مستقرة. لكني لم أتحمل أن تَذكر “آينور” اسمه واسم بعض الرفاق الآخرين، وأن تُكيل الشتائم والمسبّات بحقهم مراراً. فنهضتُ من مكاني، ووجّهتُ لها اللكمات المتتالية. ولمّا أراد جلال التدخل، صرختُ في وجهه ومنعتُه من التدخل قائلةً: “لا تتدخل، وإلا، فسأضربك أنت أيضاً. التزِموا الاحترام. وناقشوا كأناس وقورين. لا يمكنكم احتقار الآخرين أو شتمهم”. أصيب جلال بالذهول، ولم يدرك سبب غضبي الجامح. ومع ذلك، حاول تهدئتي. فصرخَت آينور باكيةً وهي تقول ما معناه: “أيها القومجيون، إنكم تماماً مثل التوركيشيين: تمارسون ثوريتكم بضربِ أياديكم على الطاولات، وباستخدام قبضاتكم في اللكم. لن ننسى لكِ هذا”. أتت أمي والآخرون إلى المطبخ على وقعِ صراخنا. لكني خرجتُ من المنزل وأنا أقول: “إذا استمروا بمقاربتهم هذه، فسوف يُضرَبون!”.
لكنّ أعصاب آينور لم تهدأ، فخرجَت إلى الشرفة وصرخت: “أيها القومجيون. أيها التوركيشيون. تعتقدون أنكم تفعلون شيئاً بصَلافتكم هذه وتَبَجّحكم هذا؟ لن ندعَ لكم هذا الأمر!”. لم يفهم الجيران لماذا تصرخ هكذا، فنظروا إليّ في استغراب. بقيَت البقع الزرقاء لفترة على وجه آينور، التي ظلت حاقدةً مدةً طويلة. يقطن أعضاء “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” بالأغلب في حي ديميرولوك، وفي جوار حي المستشفى. لذا، حذّرَني الرفاق كي لا أتجول هناك، لأنهم حاقدون، وقد يضربونني. لكني لم أُصغِ إليهم، فكنتُ أذهب.
في الحقيقة، ربما كانت تلك التوصيفات فظة للغاية، ولكنها تُعَبّر عن حقيقة ما. فبمجرد ذكر اسم تيار “الوطنيين”، كان الصراع والعنف يخطران على البال. فجميعهم يتشاركون روح الصراع هذه، بدءاً من مُناصريهم ومؤيديهم وحتى كوادرهم. إنها روح الصراع الثوري. ذلك أن الإيمان بالأيديولوجية التحررية الوطنية، والثقة بها، ومزاولة نشاطها الثوري، قد تحوّل إلى نار ملتهبة تتَّقد في أفئدتنا.
وهذا ما وطّد ارتباطنا المتين بهذه الأيديولوجيا. فهي تُعلّمنا كيف ندافع عنها مهما كلّفنا الثمن، وكيف نتصدى لأي هجوم يستهدفها. لم يَقُل لنا أحدٌ: “آمنوا بها إلى الدرجة الفلانية، أو ثِقوا بها بالقدر الفلاني، أو تَبَنّوها بالمستوى الفلاني”. كلا. لم تُفرَضْ علينا أية كلمة ولا أية قاعدة صارمة. بل كنا جميعاً نخجل من عدم قدرتنا على تبنّي الوطن حتى ذاك اليوم، ومن بُعدنا واغترابنا عن هويتنا. فكلما تحوَّلَ ذاك الخجل إلى وعيٍ واضح، وكلما شعرنا به من الأعماق، واهتزّت أفئدتنا لذلك في الصميم؛ كلما تجلّى الحب والارتباط بها، وتطوّرت لدينا روح التضحية بكل ما نملك، وبرزت ردود أفعالنا بموجب ذلك. هذه هي خصائص ظهور الأيديولوجيا إلى الميدان. لذا، ما كان بمستطاع أيٍّ كان أن يصبح من تيار “الوطنيين”.
وتطوّرَت بين صفوف الشعب تدريجياً القدرةُ على ملاحظة هذه الفروقات، والإعجاب بتلك السلوكيات واستساغتها. لكنّ إبعادَهم لأطفالهم عن هذه “المخاطر”، أو شعورهم الدائم بالقلق إزاءهم إذا كانوا بيننا، برَزَ بالمقابل في مقارباتهم. في الواقع، إنها مقاربات طبيعية وتحوي بين طياتها أموراً إيجابية للغاية. أي أنها تُعَبّر عن حقيقة التطور الحاصل، على الرغم من تجلّيها وكأنها متناقضة مع الواقع. هكذا، كانت ظواهر الإيمان والثقة ستتطور مع مرور الوقت. وإلا، بِمَ سيتم الوثوق أو الإيمان في الظروف السائدة؟
فظاهرتا الكرد وكردستان تُذكّرانهم بالمجازر والويلات، وبالنفي والخيانة. إنهم لم ينسوا كل ذلك. بل إنه معشش في ذاكرتهم الجمعية. ولكن، كان لا بد من شقّ ذاك الجرح لأجل تضميده. فقد بات وضعنا أَشبَه بجثّةٍ دُفِنَت آلامُها في الصمت القاتل. ومع ذلك، فإن كل مفردةٍ تُعبّر عن العودة إلى الذات، وكل خطوة تدل على الإيمان بالمستقبل الواعد، كانت تؤثر فيهم وتهزّهم من الأعماق، وكأنها وميض أمل. أجل، لقد وُلدَ وميضُ الأمل من وسط العتمة ومن رحمِ الخوف الكبير بسبب البُعد والاغتراب عن الذات.
كان الصراعُ مع الخوف والظلام والاغتراب يتجلى في الفرد أولاً. فكلما أدرك الفردُ واقعَه وأمسكَ بأحد أطرافه، كلما احتدّ ذاك الصراع في الوسط العائلي أولاً، لينتشر منه إلى المدرسة، فالشارع، فالحي، فالمقهى. ثم تتحول ممارسة العنف ضد مؤسسات الدولة إلى ظاهرة ملموسة بالتدريج. وهذا ما كان يؤدي إلى وضوح الهدف وشفافية الغاية.
إنها جميعاً مراحل متداخلة مع بعضها بعضاً، لكنّ لكل مرحلة منها خصوصياتها ومشقّاتها وخصائصها المختلفة. وكلها تقتضي التحلي بالوعي والإيمان والعزيمة والإرادة المتكاملة. وكان لا بد من عيشها. ذلك أن الأرضية التي تأسست عليها كل أشكال العلاقات القائمة وخصائص الحياة السائدة، كانت تنطلق من رفض هذا الواقع، وتُناقِضه، بل وتُعاديه.
كان كل نظام أو نسق قائم يختل، وتختل معه مصالحه. وعليه، فإن التخلص من الروح الفردية في الشخص والعائلة، ومن الاغتراب عن الهوية والبُعد عن الروح القومية، ومن طوق العبودية والأواصر البدائية والعلاقات الضيقة التي لا تَعِدُ بأي مستقبل، والتي تشد الجميع إلى الوراء؛ إن التخلص من كل ذلك، و”لفظَ المفردات التي تُخرِجُنا من هكذا أرضية، وعقد العزم على ذلك، وخطو الخطوات العملية على هذه الدرب؛ كل ذلك كان ثورةً بحدّ ذاتها”.
ترجمة: بشرى علي
الوسوم
مذكرات سكينة جانسيز