ترجمة خاصة|| اهتديتُ إلى رفاقي عبر إعلان.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٣٥)
استقرت عائلة العم علي أيضاً في حيّ بيراقلي. رأيتُ ابنتَهم آيسال بالصدفة في موقف الباص. كانت آيسال في المرحلة الثانويةِ من الدراسةِ عندما كنتُ في ديرسم. أما أختها يوكسال فكانت في معهد المعلمين. وأمهما هي خالةُ الرفيق مظلوم. لقد حاول مظلوم وشقيقه دليل كسبَ تلك العائلة أيضاً عندما كانا في ديرسم. كانت يوكسال على علاقة معنا، وقد أنهت دراستها في “معهد المعلمين في تونجلي”، وعملَت مُعلّمةً وكيلةً لفترة. أبوها أيضاً كان معلماً قبل أن يحال على التقاعد. وقد أرادوا البقاء في ديرسم. لكنّ هذه هي مقاربة العم علي الذي عاند كثيراً كي يأتوا إلى إزمير، لأنه يعتقد أنه في حال بقائهم في ديرسم، فسوف يخسر أولاده لأنهم سيصبحون ثوريين. أغلب أولاده كانوا بنات، فأراد لهنّ أن يَسِرن على هداه في التعليم. ثم إنه أحد المدافعين عن “الكمالية” ولكنه يُعِدُّ نفسَه ديمقراطياً أيضاً، تماماً مثل خالي حسن. فخالي حسن يبدأ بكَيلِ الشتائم للدولة كلما ثَمل، فيتحول إلى ديمقراطي بامتياز، وينادينا: “يا رفاق”، ثم يكشف عن قناعته الرسمية قائلاً: “اعقلوا، فهذه الدولة لا تترك المرء وشأنَه!”.
في الواقع، إن البُعد عن الوطن والأصدقاء لا يُطاق. لذا، سُررتُ أكثر من الجميع بلقاء يوكسال، وتَحسَّنَ مزاجي. تجوَّلتُ مع يوكسال وتناقشنا مطوّلاً. علِمتُ منها الكثير من المستجدات، وأعطتني عنوان توركان، فأرسلتُ لها رسالةً سردتُ فيها أوضاعي إلى حد ما، وذكرتُ فيها أنني سأنفصل وأعود إلى منزلي إنْ لم تتحققْ وحدتنا الأيديولوجية. وجاءني الرد على رسالتي. كم كانت فرحتي عظيمةً أن أعيد التواصل معهم مجدداً! ذكرَت توركان في رسالتها أنها قرأت رسالتي بمعية الرفاق، وسردَت فيها تقييمات تؤيد موقفي.
ذكرَت يوكسال أيضاً أن أحد أشقاء الرفيق مظلوم يتواجد في بلدة بورنوفا التابعة لمدينة إزمير، مشيرةً إلى أنه من جماعة “طريق الحرية”. بادرتُ للذهاب إليه دون إضاعة الوقت، وتناقشنا بحرارة. إنه شخص متعصب، ويستميت في الدفاع عن “طريق الحرية”، ويرفضنا بشدة. لكننا فضَّلنا تَركَ هذه الأمور للوقت، ولم نَشَأ الضغطَ عليه احتراماً منا للرفيق مظلوم، وأكّدنا على ضرورة الاستمرار بالعلاقة، علّنا نستميله لاحقاً.
كنتُ أبحث عن عمل في تلك الفترة، ما زادَ من إمكانية تجوالي مع يوكسال لزيارة الجمعيات. ذهبنا معاً ذات يوم إلى مركزٍ لأعضاء “الجمعية الثقافية لثوار الشرق” في حيّ كامارالتي. استقبَلَنا شخص يدعى إبراهيم ويعرف يوكسال، فاهتمّ بها أكثر. لكنّ الجميع عموماً رحّبوا بنا وسألونا عن أحوالنا. عندما كنتُ في حوار في جمعيةٍ لأعضاء حزب التحرير الشعبي سابقاً، كانوا قد تحدثوا لي عن التطرف القومي لأعضاء الجمعية الثقافية لثوار الشرق. بل وقالوا حينها أن هؤلاء عَلّقوا على مدخلِ مبنى الجمعية لافتةً مكتوب عليها: “لا يدخل هذه الجمعية إلا الكُرد”. قلتُ حينها رداً على ذلك: “إنه أمر طبيعي بالنسبة لهؤلاء”. وفكرتُ أن هذا أمرٌ متوقَّع، على الرغم من المغالاة فيه. فردّوا قائلين: “أنتم مختلفون. وعلى الرغم من عدم شُهرةِ اسم تنظيمكم، إلا إنه يبدو أنكم حركةٌ ذات جوهر متين”.
على رغمِ نظرةِ الاستصغار التي تضمّنَتها تقييماتهم تلك، إلا إنها تعبّر عن حقيقة واقعة: “إنكم مختلفون!”. أجل. فشكلُ جلوس هؤلاء، وتصرفاتُهم وسلوكياتهم وأحاديثهم، أقربُ ما تَكون إلى سلوكياتِ أغوات القرى. لقد كانوا مثقفين ظاهرياً، وأغلبهم من الطلاب الجامعيين. لكنّ علاقاتهم مشحونةٌ بالطبائع الإقطاعية. أجل، فجميعهم يتحدثون باللغة الكردية، لكنهم لم يُضيّعوا الوقت في سؤالنا عن مسقطِ رأسنا، وهل نحن كُردٌ أم لا. ونظراً لأن الشخص الذي يدعى إبراهيم يعرف يوكسال، فقد وجّه إليّ كلامه مستخدماً ضمير الجمع: “أختنا كرديةٌ بالطبع، ومن ديرسم”، منتظراً موافقتي وكأنه يحسب الحساب لاحتمال خطئه.
أجبتُه باللغة التركية: “أجل. أنا من ديرسم”.
“ألا تعرفين التحدث بالكردية؟”.
“أُجيدُ التحدث باللهجة الزازائية”.
حاوَلوا تَصَنُّع التواضع معنا. فنحن الاثنتان فقط كنا من النساء هناك، قبل أن تأتي فتاة ثالثة سمراء البشرة، وتتحدث هي أيضاً بالكردية. إني أعرفها، إذ رأيتُها أثناء زيارتي إلى بورنوفا، وكذلك في حرَم جامعة إيجة. وقد رأَتني هي بالأغلب بين أعضاء حزب التحرير الشعبي، ويبدو أنها تعتقد أنني من تلك الجماعة. كانت مداهمةُ مساكن الطلاب تحصل مراراً ذات فترة، وكنا نذهب لزيارتهم. كان الحراك منتعشاً في المدارس آنذاك. لكنّ أعضاء “حزب اليسار التركي” و”التحرريين” و”الجمعية الثقافية لثوار الشرق” ظلوا نشازاً. إذ دَفنوا أنفسهم في أُطُر علاقاتهم الضيقة. كذلك كانت حال أعضاء “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية”، الذين اتَّهَموا المجموعات الأخرى بالانتهازية، ولم يشاركوا في أي نشاط بتاتاً، ما جعلهم بعيدين عن كل شيء في علاقاتهم.
لفتَ نظري إعلان معلَّق على الجدار. نهضتُ لأقرأه عن كثب: “سيُعالَج وضعُ شخصَين تَفاعَلا معنا وانخرطا في مختلف أنشطة الجمعية لفترة، لكننا أدركنا مؤخراً أنهما على علاقة مع مجموعة تسمي نفسها “التيار التحرري الوطني”، وأنهما ترَكا صفوفنا. إننا ندعوهما إلى النقاش المفتوح، وإلى تقديم نقدهما الذاتي”.
تمالكتُ نفسي بصعوبة كي لا أصرخَ في لحظة ما، وما كان لِيَهمَّني حينها ما سيقولونه عني، حتى ولو شتموني. فقد عثرتُ على أصدقائي. إذاً، ثمة رفاق لي هنا أيضاً. وهذا هو المهم. طلبتُ من يوكسال أن تقرأ –هي أيضاً- الإعلان. عمِلَ إبراهيم على شرح الأمر قليلاً، فذكَرَ اسمَيهما: “إنهما يدرسان في الجامعة. أحدهما جلال، الذي من مدينة نسيب ، والآخر حيدر الأشقر، الذي من مدينة سروج”. سألتُ عن كيفية اللقاء بهما، فذكَرَ لي الكليتَين اللتَين يدرسان فيهما، وأومأ أنه لا يضع احتمالاً لمجيئهما إلى الجمعية. سررتُ لذلك. فأيُّ حسابٍ سيقدمانه إلى “الجمعية الثقافية لثوار الشرق”؟ في الواقع، من الواضح تماماً أنهم علَّقوا ذلك الإعلان بغرض تشويش العقول وتشويه صورة الرفاق من جهة، وبهدف سد الطريق أمام حالات الانفصال عنهم من جهة أخرى.
إنها الفترة التي شهدت حادثة زلزال ليجة . بدأَت بعض المنظمات بجمع المساعدات تحت مسمّيات مختلفة، ولكنها لا تتعدى أُطُرَ رقابة الدولة. بل إنها ضمن معايير ونوعية المساعدات المادية المحدودة والدعايات التحريضية المعمول بها في كل زلزال كارثي. لكنّ المختلف الآن هو أن الأمر باتَ موضوعَ نقاش لأول مرة في الجمعية الثقافية لثوار الشرق، التي كنا في زيارة لها. إذ ذهبَت أيضاً مجموعاتٌ مختلفة إلى منطقة الزلزال في ليجة، وعادت كي تقدم تقاريرها بشأن أنشطتها هناك. ثمة حراك ملحوظ واستعدادات لعقد اجتماع. تبادلنا النظرات أنا ويوكسال، وتساءلنا: “تُرى، هل سينادوننا للمشاركة في الاجتماع؟”. لقد استنبطنا هذه النتيجة من مواقفهم. فأياً يَكُن، فإنهم يعودون من ليجة، وسيكون حسناً لو استمعنا إلى أحاديثهم. كان الآتون من ليجة يجلسون على الطاولة الجانبية. وقد استرقتُ السمع، دون إرادة مني، إلى بعض أحاديثهم.
إنهم يستخدمون مصطلحَي “التحرريون” و”جيش التحرير الوطني” في أحاديثهم التي تخلَّلَتها توصيفاتٌ بشأنهم مفادها: “إنهم خلقوا البلبلة وزرعوا التناقضات بين الشعب”. وينفد صبري. لا آبَهُ بتلك التوصيفات، حتى ولو استخدموا أبشع الكلمات بحقهم. بل ما يهمني هو أنّ لنا أنشطتنا هناك. تُرى، ما الذي يفعله الرفاق هناك. هذا ما أود معرفته. إذاً، فالجميع يتحدث عن هذه الحركة ويذكر اسمها. هذا هو الجميل والرائع في الأمر. فهذا يعني أن نشاطنا في توسُّع.
واظبَ إبراهيم وآخرون على التحديق فينا. إذ لا يستطيعون سؤالنا عن السياسة التي ننتهجها. لكنّ الفضول يطغى على كل تصرفاتهم معنا. ليتَهم يتحدثون علناً في الاجتماع أيضاً، ويطرحون الاتهامات كما هي، كي يتهيأ الوسط للنقاش. إنهم ينشرون فيما بينهم كماً هائلاً من الأخبار المزيفة والتقييمات الخاطئة. فإلى أي مدى تُعَدُّ هذه المقاربة واقعية؟ إذ لا منفعة لهم في ذلك.
وبدأ الاجتماع الذي يترأسه الآتون من ليجة. باشروا الكلام بالتسلسل. وطرحنا عليهم مقترحاً: “تكلموا بالتركية لو سمحتم. فنحن لا نفهمكم”. بدأوا الكلام بالتركية، ليكرروا ما قالوه قبل قليل في دردشاتهم الثنائية: “تحركنا في البداية كلجنة. لكنّ أعضاء جيش التحرير الوطني انتهجوا الانتهازية عندما طُرِحَ موضوع توزيع المساعدات. فتحركوا لوحدهم، ووزّعوا المواد على هواهم، وميَّزوا بين أبناء الشعب، ما دفع بالشعب إلى التشاجر. لم نستطع ضبط الأمور في البداية، لكننا تدخّلنا فيما بعد. كان نشاطنا إيجابياً، وبرزَ بوضوحٍ إعجاب الشعب بنا. لقد مَيَّزَ شعبنا بين مَن يتحدث باسمه وبلغته ومَن يناضل من أجله. في حين أبدى شعبنا ردود أفعاله تجاه هؤلاء الذين لا يستطيعون حتى التحدث بلغة الشعب، أي بلغتهم الأم؛ وشعر بعدم الثقة تجاههم”.
لم أتمالك نفسي، فأردتُ مقاطعة المتحدث والاستئذان للتكلم. لكنّي فكرتُ أنه لن يَكون حسناً القيامُ بهكذا مبادرة في اليوم الأول للاجتماع، وأنهم -بالتأكيد- سيشوّهون السياسيين والثوار الآخرين، وسيُظهِرونهم بمظهر السيئين. فهذا أمرٌ طبيعيّ وفقاً لطبيعة حركتهم. لكني قلتُ في نفسي: “هذا أفضل. فلتَظهَر نواياهم الحقيقية ولتنكشف مقارباتهم للعلن”. رفعتُ يدي طلباً للكلام فور انتهائهم من السرد.
“اعذروني لأني لا أجيد التكلم بالكردية. سأتحدث بالتركية. جميلٌ نقلُ الأحداث الجارية في الوطن. وقد استمعنا باهتمامٍ وعرفنا جيداً تداعيات زلزال ليجة من خلال هذه السرود. ولا تعليق لي على ذلك، لكنّ الرفيق تعمَّدَ في حديثه تشويهَ واتهامَ الآخرين. هذا سردٌ أحادي الجانب، ومشكوك في مدى موضوعيته. فلو أن أحد هؤلاء الرفاق كان موجوداً هنا، لأدركنا حقيقة المشكلة بنحو أفضل. إنني أنتقد هذا الأمر. ثم إنه يتم إبراز مشكلة اللغة كثيراً، مع أن القدرة على التحدث بالكردية من عدمها ليست مشكلة حيوية. إذ يمكن التعبير عن الممارسات والحقائق الثورية بشتى اللغات. وعليه، ليس صحيحاً جعلُ اللغة معياراً أساسياً، أو ربط المشكلة بهذا الأمر. كما إني لا أصدق أنه تم التمييز بين أبناء الشعب أثناء توزيع المساعدات”. وجلست.
ولَّدَ كلامي صمتاً مريباً لفترة. ثم بادر مدير الاجتماع إلى الكلام بنبرةٍ تدلّ على انزعاجه وسخطه، وقال رداً على كلامي أنّ ذِكرَ الحقائق لا يُمكن أن يُعَدّ اتهاماً أو تشويهاً. ثم أعقَب مخاطِباً إياي ومحدّقاً في عينيّ: “بإمكان الرفيقة أن تتكلم لو أنها تعلم أموراً أخرى. فنحن نستمع إلى آراء أعضاء جيش التحرير الوطني أيضاً”.
أجل، لَم يَعُد هناك داعٍ للإفصاح عن اسم سياستنا التي ننتهجها. فنحن من جيش التحرير الوطني. كنا ننتظر منهم أن يطرحوا وضع هؤلاء الشخصَين للنقاش. لكنهم لم يفعلوا، بل اقتصروا على القول: “تم تأجيل معالجة وضع هذين الشخصَين، نظراً لعدم حضورهما”. غريب! يبدو أننا قلَبنا برنامجهم رأساً على عقب. كم كان سيكون حسناً لو أنهم ناقشوا هذا الموضوع. لكنّ هذا القدر من الأحداث أيضاً كافٍ. بقينا قليلاً بعد الاجتماع، ثم خرجنا وأكدنا لهم أننا سنحضر ثانيةً.
أجابونا: “طبعاً، طبعاً. فجمعيتنا مفتوحة أمام شقيقاتنا الكرديات”. وتصرّفوا وكأنهم سعيدون بحضورنا. ومَن يدري؟ ربما سُعِدوا ببعض الجوانب حقاً. فأياً يَكُن، فقد زارت جمعيتَهم فتاتان كردستانيتان بعيدتان عن وطنهما وتعيشان في المتروبولات! وهم لم يرَوا في جمعيتهم منذ فترة طويلة أحداً كردياً وينتهج سياسة مختلفة. يقال، ولا أدري مدى صحة ذلك، أنهم كانوا قد طردوا الآتين إليهم من أعضاء اليسار التركي.
ذهبتُ لزيارتهم عدة مرات، أحياناً برفقة يوكسال، وأحياناً مع باقي، وأحياناً بمفردي. إنهم يَعرفون باقي. وهو أيضاً يعرفهم جميعاً. لكنّ الفتور المتبادل يطغى على علاقاتهم. بادرنا إلى البحث عن جلال وحيدر، اللذَين ذُكِر اسمهما في ذاك الإعلان المعلّق على جدار الجمعية. وكان باقي وسيطاً في ذلك، إذ سأل عنهما في الجامعة، ونجح في استحصال موعد معهما. التقينا ذات يوم مع جلال في مطعمٍ بحيّ كاديفيكالي . لقد التقينا في المطعم، على الرغم من أن منزله يقع في نفس الحيّ. علِمنا منه أنه متزوج من فتاة جامعية قبرصية. أما هو فإنه من مدينة نسيب. وقد بيَّنَ أنه كان على علاقة محدودة مع الجمعية الثقافية لثوار الشرق، وأنه تعرّف بعد ذلك على الرفاق في مدينة عينتاب، فقطع علاقاته مع الجمعية.
قال لنا: “في الحقيقة ليست لي علاقة عضوية معهم. إنها جمعية كردية، وهؤلاء كردستانيون. كانت علاقاتي معهم حميمة، ولكن، ليست تنظيمية. الرفيق الآخر هو من مدينة سروج”. أعطيناه عنوان منزلنا. اعتقدَ جلال أن كِلَينا من نفس التنظيم، فاستأتُ من ذلك. ثم إنّ باقي قال أثناء تعريفه عليّ: “هذه سكينة، وهي زوجتي في نفس الوقت!”. إن جلال يعلم منذ أيام الدراسة أن باقي عضوٌ في حزب التحرير الشعبي، لأنه –أي باقي- يتعامل معهم بالأكثر. فاختلطَت الأمور على جلال. لكنّي لم أجد الوسط مناسباً للحديث المستفيض. ثم إن البقاء مدة طويلة في المطعم ليس بالأمر الحسن.
سألتُه إنْ كان ثمة رفاق آخرون عدا الرفيق حيدر. فرَدّ قائلاً: “ثمة بعض المناصرين الذين نناقش معهم”. تحدثتُ له عن يوكسال، واقترحتُ عليه مراراً أن نلتقي. فأجابني: “قد لا أتواجد هنا لفترة”. لم أسأله شيئاً في هذا الخصوص، ثم افترقنا. وفي الطريق، تحدّث باقي بنحوٍ سيئ عن جلال، منتقداً نمط حياته في الجامعة: “إنه متعلق بفتاة قبرصية. لم أتصور أبداً أنه سيكون من التحرريين. إذ كان مع أعضاء الجمعية الثقافية لثوار الشرق. وجميع هؤلاء هم أبناء أغوات، وآباؤهم كومبرادوريون. ولا يمكن لهكذا أشخاص أن يمثّلوا أو يدافعوا عن قضية كردستان”.
– “الشقّ المتعلق بالجمعية الثقافية لثوار الشرق صحيح. ولكن، لماذا تُدرِج جلال أيضاً في ذلك؟ ربما أنه تحرَّكَ معهم سابقاً. لكنّ الجميع في نظرك بورجوازيون صغار، في حين أن أعضاء حزب التحرير الشعبي هم ثوار بروليتاريون! إن الحقائق الأيديولوجية هي المهمة، وليس الأشخاص. علماً أن هذا المرء انتقل إلى مجموعتنا حديثاً”. ثم أجّجتُ النقاش مُضيفةً:
“ثم ما خَطبُكَ تُعلِن أننا أزواج في أول تعارف لنا؟ علينا التصرف في هذا الخصوص وفق ما هو مناسب، وليس حسب ما يناسب هوانا. ما كان لهذا لزوم. وليس من الصائب أن تقول ذلك”.
– “لكنها الحقيقة، ولا مانع من ذكرها. ثم لماذا لا يجب أن أقولها؟ هل تخجلين من ذلك؟ أم أنكِ لا تجدينني جديراً بك؟ أم أن الأمر مختلف؟”. ويغضب. وصلنا المنزل ونحن نتشاجر طوال الطريق.
قال: “هل سترمين بنا عندما تجدين أصدقاءك؟ أيّ نوع من المسؤولية الثورية لديكِ؟ إننا مسؤولان وملتزمان تجاه بعضنا بعضاً”.
وانفجرتُ: “كلا. نحن لسنا مرتبطَين. ولا أجد ما يربطنا ببعضنا بعضاً في هكذا اتحاد. فعن أي وحدةٍ أو “زواج” تتحدث في ظل هذا الخلاف التنظيمي الأيديولوجي؟ إنك ومنذ البداية لم تتصرف بصدقٍ تجاهي، بل خدعتَني. إذ قلتَ لي: “إنني أبحث، وأدرس، وأطالع”، لا لشيء سوى لأجل أن تحقق هذا الزواج. لكنّ الأمور لم تتبدل منذ شهور. فعلاقتك التنظيمية مستمرةٌ كما هي مع حزب التحرير الشعبي. وأنت تدافع عنه، بل وتستميت في الدفاع عنه في كل مكان. فأين بحثُك إذاً؟ لن تستمر وحدتنا إنْ بقيتَ على هذه الحال. فهذا ليس قدَراً محتوماً. وهذا الوضع يحزّ فيّ”. واستطردتُ في الحديث كالمجنونة من حدةِ اغتياظي، غير آبهةٍ بما سيؤول إليه الكلام.
ردّ باقي: “يُفهَم من ذلك…” وصَمَتَ. يبدو أنه لا يريد استفزازي أكثر. ثم أضاف: “أهكذا باكراً؟ إنكِ لا تفكرين في ذاتك ولا في غيرك. لا داعٍ لتضخيم التناقضات الصغيرة. وسيَكون من الأفضل أن تفكري بأعصاب باردة وبنحو منطقيّ”. ثم أردف: “كم يختلف الحل الثوري عن الحلول الوسطى!”.
عدنا إلى ديرسم وماتزال علاقتنا ونقاشاتنا في هذا المستوى. لكننا ذهبنا قبل ذلك بيومٍ لزيارة عائلة بلغارية مهاجرة، تسكن في منطقة كارشياكا بإزمير، ولديها ابنتان هما صديقتا باقي في الجامعة، وأعرفهما من خلال زياراتي إلى الجمعية. كنتُ أرتدي قميصاً وبنطالاً لم أُبدِّلهما منذ مجيئي إلى هنا إلا نادراً. ذلك أنّ رواتبنا بالكاد تكفي لتلبية الاحتياجات اليومية. لذا، غالباً ما كنتُ أرتديهما رطبَين بعد غسلهما، ليَنشَفا عليّ. لكنّه من غير الممكن الذهاب إلى ديرسم بهذه الألبسة. لذا، ارتأى باقي أنه من الأفضل استعارة أحد ملابس صديقتَيه. وعليه، بِتنا عندهم ليلة، لنسافر في اليوم الثاني، بعدما استعرتُ منهما بضعة ملابس معقولة.
ذهبنا إلى ديرسم عن طريق أنقرة. ولدى وصولنا توجَّهنا أولاً إلى القرية، ثم زرنا عدة أماكن. ثم زارني مَتو وتوركان، وتبادلنا الأحاديث مطوّلاً. ومن بين المواضيع التي تناولناها كان موضوع الزواج ومقارباتهما السابقة، والنواقص التي برزت، ودورهما في هروبي. ثم سردتُ لهما مضمون الرسالة التي أرسلتُها، وذكرتُ لهما أن المشاكل بيني وبين باقي ما تزال مستمرة. ثم ناقشا مطوّلاً مع باقي، الذي بادلَهما الحديث بمقاربةٍ أكثر مرونةً وسلاسة. كما إنه انتبَهَ نوعاً ما إلى المستجدات الجارية في ديرسم. إذ اتّسع نطاق الحركة تدريجياً، فأصبحَت قوةً بارزةً لدرجةِ أن الجميع يتناقشون حولها. أثّر حديثُ توركان ومَتو معه إيجاباً، إذ ذكرا له انطباعهما، وأكّدا له أنه: “من السهولة جداً استمالتُها”.
مازحَني مَتو بين الحين والآخر قائلاً: “يا أختي، إنه سينخرط في هذه السياسة، حتى ولو لأجل ألاّ ينفصل عنك”. فضحكنا جميعاً. أجل، ثمة نصيبٌ من الحقيقة في مزاحه هذا، لكنّ مقاربة أخي وصديقي الرائع ساذجةٌ للغاية. كي لا ينفصل عني! فأيّ اتحادٍ هذا إذاً؟ إنها وحدة إرغامية، أو صداقة إجبارية تهدف فقط إلى عدم إفشال الاتحاد. وهذا بالذات ما يزعجني ويبدد راحتي.
ذهبنا، أنا وتوركان ومَتو، إلى القرية التي تُدرِّس فيها قيمت. إنها قرية غوليتش (ديريخاك). توجّهنا إليها سيراً على الأقدام، متبادلين أطراف الحديث طيلة الطريق. قالت توركان: “ليت أن باقي أيضاً جاء معنا كي تقنعه قيمت”.
لكني لم أرغب. فهل مقاربةُ الرفاق هي الخطأ، أم مقاربتي؟ إنهم يحلّون كل شيء على عجل! ويتناولون الأمر وكأن شيئاً لم يَكُن. فهل أنا التي أقلق كثيراً؟ لا… بل ينبغي أن أقلق فعلاً. فالزواج ليس حدثاً بسيطاً على الإطلاق. وبالأصل، ثمة الكثير من المقاربات الضيقة والسطحية والمعلولة في هذا الشأن.
طرحَت توركان سؤال: “هل يصحّ الزواج بالتعليمات؟”. ماذا تعني؟ ما الذي حصل في ديرسم منذ غيابي؟ يبدو أنهم تناقشوا الأمر. فقلتُ: “الوحدة الطوعية هي الأساس. ولن ينتعش الحب والعشق، ما لم يرتكزا إلى أرضية التشارك في العمل”. ثم طرحتُ حالتي وزواجي كمثال ملموس.
ردّت توركان: “لو أنهم قالو لي: ستتزوجين الرفيق الفلاني، لرفضتُ فوراً”. فطرحتُ فكرتي هذه المرة متسائلةً: “ما الذي يجري؟ ماذا تعنين؟”. مَن قال أن الأمر كذلك، فلا بد أنها تمزح أو تزوّر الحقيقة. لكني لم أهتم. وعندما رجعَ سياق الحديث إلى هذا الموضوع ثانيةً، قلت: “دعكم من هذا الموضوع رجاءً. فلا أحد يستطيع طرح هكذا أمر كمقترحٍ أو كقرار”.
تحدثنا عن كثير الأمور إلى أن وصلنا قريةَ قيمت. إذ لم يصدّقوا ما سردتُه لهم عن إزمير والعمل فيها. وسألوني ما إذا كان العمل في المصنع ضرورةً أم لا. لكني أرى أنه ضرورة، وأن النضال بين العمال المناضلين والنقابات يجذب انتباهي أيضاً. قلتُ لهم: “العمل شيء جميل. وإلا، فإن هموم المدن الكبرى لا تُطاق بأي حال من الأحوال”. ردّت توركان بروحٍ أنارشية: “سآتي أنا أيضاً”.
ما من شيء لا تتقنه توركان. إذ تعلّمَت قيادة الدرّاجة الهوائية والدرّاجة النارية والسيارة، وتعلّمَت السباحة. كما إن مستواها النظريّ ليس سيئاً. فهي تُطوّر من ذاتها على الدوام نظرياً وفكرياً، ولديها فضولُ التعلم والمعرفة. فضلاً عن ذلك، فهي لا تعرف السكون، إذ تتحرك كلُّ أعضائها عندما تتكلم، ولا تعرف التوقف في مكان ما بأي حال. فحتى عندما تجلس، فإنها تُحرّك قدَمَيها أو يدَيها، أو تُغيّر مكانها، أو تنهض من محلها. إنها غريبة الأطوار، وليست ناضجةً كثيراً، ولم تستقرّ شخصيتُها بَعد. إنها على سجيّتها تماماً، ولا تترك مسافةً أو مستوىً ملحوظاً في تعاملها. بالتالي، فإن العلاقات لا تَكُون رسميةً في الوسط الذي تتواجد فيه. إذ تتعامل بسذاجة وخِفّة وبغير جدية. ولهذا السبب كانت تتلقى الكثير من الانتقادات.
نعمت أيضاً معنا. إنها تعمل في البلدية. لكنها أكثر فضولاً، وتطرح الأسئلة مراراً. في الحقيقة، إنها لا تسأل لأجل التعلم أو التحليل. بل لأجل طرح موضوعٍ واستنباط تفاسير بسيطة ورخيصة. وهذه خاصية بارزة لديها. وقد صُدِمَت من مدى جديةِ نقاشاتي مع باقي. لم أرغب في انتشار هذا الموضوع. فقد عدتُ حديثاً إلى ديرسم، ولن يَكونَ حسناً طرحُ موضوع الانفصال على الفور. علاوةً على أنّ ذلك سيستنزف طاقاتي. لذا، فمن الأفضل نقاشُ هذا الأمر ضمن مجموعة ضيقة من الأصدقاء. ذهبتُ إلى قيمت للنقاش حول هذا الأمر وإيضاح أفكاري بخصوصه.