ترجمة خاصة|| الانقطاع المؤلم وأيام العمل.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 31)
يواصل الديوان نشر الحلقات المسلسلة لسيرة المناضلة الكردية سكينة جانسيز التي نشرتها في كتاب عنونته ب “حياتي كلها صراع” فإلى الحلقة الجديدة من الترجمة
توجّهنا على الفور إلى إزمير، وتَخَلَّفَ إيبو عنا في آخر لحظة قائلاً: “سآتي بعد يومَين، إذ سألتقي بالرفاق”. إنه، بالطبع، يقصد رفاقه في “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”. أما أنا، فذهبتُ دون أن أُخبِرَ رفاقي بأي شيء. فهل سيَعلمون بذلك لاحقاً؟ أكدتُ على محمد علي أن يُخبِرَ مَن يسأل منهم عني بمكاني. تحدثتُ إلى باقي طيلة الطريق. كان شعري المجعّد طويلاً وجميلاً. لكني قصصتُه في الأيام الأخيرة. فسألني: “لماذا قصصتِ شعرك؟”.
يبدو أنه يرغب في الحديث. فانتقل بكلامه إلى الماضي، عندما كنتُ في المرحلة الإعدادية، وكان هو في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. سردَ لي مقارباتي واهتمامه بي في تلك الأيام، وذكرَ أنه يرى في مجيئي إلى عندهم بهذا النحو حظاً سعيداً. ويتبدل مزاجه وتصرفاته مع حديثه، إذ تتلاشى صداقتُه “الثورية” وجديته التي طغَت عليه في الأمس، لتحلَّ محلها مقاربةُ حبيبٍ من حبيبته الشابة. أُصِبتُ بخيبة الأمل، وشعرتُ في تلك اللحظة وكأنني فتاةٌ خُدِعَت ووقعَت بسهولة في فخّ الآخرين. لكن، أنا التي جئتُ وفعلتُ كل هذا، وعليّ ألاّ أتّهم الآخرين. وأغضب من نفسي. فكأن كرامتي انتُهكَت. وأضغطُ على نفسي كي أتسلح بالقوة وأتخلص من حالتي النفسية كإنسانة “مُهانة”. فبقدرِ ما أتخبط في هذه الحالة النفسية، فسأبقى ضعيفة ومنهارة، وسيحاول الآخرون السيطرة عليّ بسهولة.
لم أَعُد ألقى ما أتحدث فيه، فحاولتُ بتصرفاتي عقدَ علاقة جدية ورسمية. وعندما وصلنا إلى إزمير، عبَّر باقي عن رغبته بذهابنا معه إلى المكان الذي يعمل فيه، ولكني لم أرَ ذلك مناسباً. فأرسلني إلى عائلةٍ تقيم في بلدة بورنوفا، ومكثتُ هناك لفترةٍ قاربَت الشهر. كان ابنهم “هارون” أيضاً منتسباً لـ”حزب التحرير الشعبي”، ولديهم ابنتان شابتان، وأمٌّ خفيفة الظل. كان المنزل يعجّ بساكنيه.
بعدما أتى إيبو، حاولنا البحث معاً عن عمل. إذ ما عاد العيش هكذا بين أفراد عائلة ومن دون عمل يروي ظمأي. بل بات يخنقني. بحثنا مع إيبو عن عملٍ في “كوناك” و”آلسانجاك” طيلة اليوم. وعثرنا على عمل لِكِلَينا في أحد المطاعم، لكننا لم نَجِده عملاً مناسباً، علاوةً على أجره البخس. كان باقي يزورنا نهايةَ كل أسبوع. أما إيبو، فسَكَنَ مع حسن، ودأب على زيارة معارفه من الشباب. ثم قررنا في نهاية المطاف أن نستأجر منزلاً. ففعلنا ذلك بمساعدة إحدى العوائل التي يعرفها باقي، والتي تسكن في حيّ “غوموش بالا”. إنه منزل فارغ، يتكون من غرفة وصالون ومطبخ صغير ومَرافق.
أَمّنَ باقي وإيبو الاحتياجاتِ العاجلةَ من معارفهما، إذ جلَبا لوازم قديمة مستعملة: سجّاد قديم، عدة مخدّات وفَرشات إسفنجية وبطانيات، وبضعة صحون وإبريق صغير. كانت حالنا أَشبَه بالأطفال الذين يلعبون لعبة الزواج. تدبّرنا أمرنا بملعقتَين حتى مدة، أو بملعقة واحدة عندما لم نَكُن نعثر على الأخرى. لم يَكفِ المالُ الذي حصلَ عليه باقي لتأمين أجار المنزل والمصاريف اليومية. فباقي يَدرُسُ في كلية الهندسة المعمارية بجامعة إيجة، ويعمل في مطعم سياحي في بلدة “إنجيرالتي”. ما عاد ممكناً أن يعمل هو ونبقى نحن عاطلين عن العمل. عمِلَ إيبو أحياناً في أعمال البناء بأجرٍ يومي، مما ساهم في إيفاء التكاليف.
استمريتُ بعنادٍ في البحث عن عمل، على رغم أنهم لم يُحبّذوا ذلك كثيراً. ثم حاول باقي إقناعي بالعمل في مجالات أخرى، وسعى بوساطة أصدقائه في الجامعة للعثور لي على عملٍ كممرضة أو سكرتيرة. لكني كنتُ أُفضِّل العمل في أحد المصانع التي تعجّ بها المنطقة الصناعية في إزمير. إذ رغبتُ أن أكون عاملةً وأن أناضل في النقابات الصناعية، وأن أتّخذ من عمل أبي مقياساً. ثم إن رواية “حكمتُ عليك بالموت باسم الشعب ” لمؤلفها “ميتكا غريبتشيفا” قد أثرت فيّ كثيراً. علماً أني كنتُ في ديرسم حين قرأتُها، ولم يَكُن لديّ فرصة عمل كهذه، بل لم أكُن أفكر في العمل حينذاك. إلا إن العمل ضروري الآن، إذ لا أريد الارتباط بهم مادياً. هذا ما يضايقني بالأكثر، ولذلك، لم أتراجع قط عن البحث عن عمل.
ذهبنا إلى عائلةٍ من مدينة هاتاي وتسكن في إزمير. هناك الكثير من أصدقاء تلك العائلة يزاولون العمل الثوري. كان الزوج والزوجة يعملان، ولهما ثلاثة أطفالٍ سأعمل مُرَبّيةً لهم حسبما قال لي باقي. لديهم مكتبة غنية جداً بالكتب التي تفحصتُها بفضول. تناقشنا في تلك الليلة حتى ساعة متأخرة. لكنّ كل شيء حولي غريب هناك. فمقارباتهم وعلاقاتهم تتسم كلياً بطابع البورجوازية الصغيرة. بل حتى إن عائلة محمد علي أكثر إيجابيةً مقارنةً بهم. قلتُ بيني وبين نفسي: “لن أبقى هنا ساعةً واحدة.. ولكن، سأستعير بعض الكتب منهم”. وفعلاً، لم أَبقَ هناك، بل عدنا إلى المنزل الذي استأجرناه.
وجدَ إيبو عملاً في الخِراطة، فبقيتُ الوحيدة بلا عمل، على الرغم من سؤالنا وبحثنا. هناك معمل السكاكر ومعمل الشوكولاتة على طريق حيّ “تشيغلي”. وهناك عدة معامل أخرى هناك، وتَعود مُلكيتها لنفس العائلة. بدأتُ العمل في معمل “بانار” للشوكولاتة، والذي يقع داخل بستان رائع الجمال وسط سهلٍ فسيح. أغلب العاملين فيه كانوا من النساء، ونسبةٌ كبيرة منهنّ، بمَن فيهم أنا، يأتين من الطرف السفلي للحي (تشيغلي السفلي). أما الأخريات، فهنّ مهاجرات بلغاريات.
فرِحتُ لعثوري على عمل. لم أكُن أملك ساعةَ يد، وينبغي أن أستيقظ حوالي الساعة الثالثة والنصف حتى الرابعة فجراً، كي ألحقَ الحافلة التي تُقِلّنا إلى العمل. عملتُ على تكييف نفسي، وبدأتُ الاستيقاظ فعلاً في نفس التوقيت، كي أصل بشقّ الأنفس إلى الحافلة. كنت أتناول وجبات الغداء في المصنع، لأعود مساءً إلى المنزل. كانت هناك نساء يعملن في المساء أيضاً. ولو أن المرء كان يجهل طبيعة ذاك المبنى ولا يعرف أنه معمل، فسيَخالُ الفتياتِ العاملات هناك وكأنهن آتياتٍ إلى عُرسٍ أو مناسبة خاصة. بل وكأن بعضهنّ يخرجن من بيوت الموضة! لقد كنّ مثل عارضات الأزياء. فجميعهنّ يرتدين ألبسة مختلفةً يومياً، ويضعن المكياج، وشعورهنّ مستعارة، ومتبرّجات للغاية، وحيويات جداً.
هناك امرأة تعمل في قسم المراجل في المعمل، وتُدعى “فاطمة الكردية”. وهي سمراء البشرة ومنهكة البنية، قصيرة وبدينة قليلاً. إنها تعمل بدأب. فقِسم المراجل هو من أصعب الأقسام. فحَمل تلك المراجل حتى وهي فارغة كان صعباً للغاية. وكأن المصنع يعود للنساء، إذ لا يوجد سوى بضعة رجال. أما الأب “بانار” فهو الرئيس الأكبر، ويعمل خمسة من أبنائه رؤساءَ أقسامٍ في معمله. حاورتُ أحدَهم قليلاً عندما بدأتُ العمل. إذ لفتَ نظرَه مكانُ ولادتي (ديرسم) على هويتي الشخصية، وأراد معرفة أسباب لجوئي إلى العمل. ذلك إنني أختلف عن الفتيات الأخريات. أو على الأقل، فإن لباسي المتواضع لفتَ انتباهه.
ذكرتُ له أنني أتيت إلى أقاربي في العطلة الدراسية، وأنني بدأتُ العمل لأسباب اقتصادية. يبدو أنني لم أملأ عينه! فرؤساء الأقسامِ حذرون عادةً في قبول العمال لديهم. ولَمّا ذكرتُ له أنني تركتُ الدراسة في المرحلة الثانوية، لم يثِق بي كثيراً. ذلك أن الطلاب الجامعيين غالباً ما يُظهِرون أنفسهم وكأنهم تركوا الدراسة في المرحلة الإعدادية أو الثانوية، كي لا يشكّ بهم أحد. لكن، ومع تَطوُّر التكتلات التنظيمية بين العمال في بعض المصانع، انكشفَ أمر أغلب العمال الجامعيين، ما حدا بأرباب العمل إلى طردهم بكل سهولة. كما أصبحت بعض المصانع تُخبِرُ بعضَها بعضاً في هذا الشأن، بل وتتبادل سجلات المطرودين من العمل أيضاً.
لم تلفت هذه الأمورُ الأنظارَ في البداية. لكنّ المصانع بدأت بهكذا تدابير مع تطوُّرِ نشاطات العمال. حتى إنهم حذّروني أيضاً، وقالوا لي أن المبادرة إلى تنظيم العمال مباشرةً ستُسرّع من احتمال طردي. لكني عندما رأيتُ حال المصنع، أدركتُ منذ البداية أن الحوار مع العاملات هنا لن يكون سهلاً.
ركّزتُ بدايةً على كسبِ الثقة في إتقان عملي. سيما وأنني أتعلم كل شيء بسرعة، وأطمح في عدم التقصير في عملي. دأبتُ على العمل بنحو مذهل، لأنني ما أزالُ في فترة الاختبار، ولا أملك عملاً ثابتاً، وهذا ما يصبّ في صالحي. ذلك أنني أجوبُ كل الوحدات والأقسام، وأتعرف إلى كل العاملات، وأعقد علاقات حميمة معهنّ، وأحاول معرفة ما يلفت انتباههنّ. كما أركّزُ بالأكثر على الاستماع إليهنّ، لأعرف بذلك متى بدأت كل واحدة منهنّ العملَ عموماً، ومتى بدأته هناك خصوصاً. أما المهاجرات البلغاريات بصورة خاصة، فكنتُ أسألهنّ عن نظام العمل لديهنّ.
أتذكر أن الطائرة التي استقلّيتُها عندما ذهبتُ إلى ألمانيا عام 1973، كانت قد هبطَت في صوفيا للتزوّد بالوقود. لكني بالغتُ في الأمر، وقلتُ لهنّ أنني زرتُ صوفيا، ساعيةً بذلك إلى إيجاد طريقةٍ بهذا الشكل أو ذاك لعقد علاقة حميمة معهنّ. لقد كنّ جميعاً على وجه التقريب من الهاربات من أجواء الانقلاب هناك. أما الآتيات بعد الانقلاب، فهُنّ قلّة. لكنّ الخاصية المشتركة لديهنّ جميعاً هي أنهنّ يرَين العمل وسيلةً أو حاجةً ماسّة لمساعدة الأسرة اقتصادياً، أو لتأمين احتياجاتهنّ الشخصية كجهاز العرس أو اقتناء أدوات الزينة أو ما شابه.
حقاً، يتميز حيُّ “تشيغلي السفلي” بمستوى عالٍ من رفاهية الحياة. وقد بنَت فيه الدولةُ مساكن خاصة للمهاجرين البلغار على شكل فيلاّت لها حدائقها. إنه حيٌّ جميل ونظيف. ولا أحد فيه عاطل عن العمل. الكل بدأوا بالعمل منذ مجيئهم، أكان في مؤسسات الدولة أم بافتتاح أماكن خاصة للعمل. كما إن العوائل هناك ليست كبيرة بتعدادها. وعليه، فقد فضّلَت المصانعُ المجاورة استخدام هؤلاء في العمل دون غيرهم. فثقافة الأتراك البلغار مختلفة بشأن العمل. وأكثر ما يُحبَّذ فيهم هو إتقانهم لأعمالهم وعدم انخراطهم بسهولة في “أمور أخرى”.
وفيما عدا أولئك المهاجرات، فالعاملات الأخريات كنّ كُرديات عموماً، على الرغم من تخصيص فاطمة فقط بلقب “الكردية”. يبدو أن معايير الهوية الكردية مختلفة هنا، ومن أهمها: عدم إتقان اللغة التركية، والسلوك الفظ. لذا، عَبَّرَ الجميع عن صدمتهم عندما علموا أنني كردية، فقالوا: “إنكِ لا تشبهينهم!”. لعلّ إتقاني اللغة التركية أثّر في ذلك. تحطَّمَت هذه المعايير مع الوقت، وبدأ الآخرون يحبون الكرد مع ازدياد حميمية علاقاتنا. لقد نجحتُ في جذب الأنظارِ لدرجة أن الكثير من العاملات كنّ يأتين تلقائياً ويسردن لي مشاكلهنّ، أو يسألن عمّا يثير فضولهنّ. وأُسَرُّ بذلك ضمناً. ثم إنّ كسبَ ودّ رؤساء الأقسام أيضاً مهم! ذلك أنهم الأقرب إلى أرباب العمل. والمعلومات التي يعطونها حول العلاقات بين العاملات مهمة ومصيرية.
تعلّمتُ أموراً جديدة في كل يوم، وعرفتُ أسباب تبرّج العاملات واهتمامهنّ إلى هذه الدرجة بظهورهنّ كعارضات أزياء. إذ أشارت فاطمة في أوقات العمل المسائية إلى عدة فتيات هامسةً لي: “هذه الفتاة تتلاعب بالابن الفلاني من أبناء صاحب المصنع. وتلك تتأخر دوماً في الخروج من المصنع بحجة العمل المسائي. اعذريني لو قلتُ لكِ أن أغلبهنّ بائعات هوى. قد يَبدين لكِ على عكس ذلك. ولكن، احذريهنّ”.
لم أَكُن أعرف ذلك، لكني كنتُ أشعر بأحاسيس مختلفة. فعلاقاتهنّ مع الشباب حميمة، ويلتقين بهم للحديث إليهم كلما سنحت لهنّ الفرصة. إنها لم تَكُن علاقات أو أحاديث طبيعية.
كنتُ أتحدثُ إليهنّ جميعاً، ولم أرَ أية غرابةٍ فيهنّ في هذا المضمار. ثم إن بعض الرجال كبيرون في السنّ، ويبدو أنهم يعملون منذ سنين طويلة. لذا، لعلّ من الأسهل المبادرة إلى التحدث إليهم رويداً رويداً، والنقاش معهم حول ظروف العمل بصورةٍ خاصة وحول نظام حياتهم بصورة عامة. أعتقد أنهم سوف يُصغون إليّ. فعلاقاتي العلنية والطبيعية معهم تفضحُ سريعاً تلك النظرات الخاطفة السرية إليهم، وتكشف أيضاً غنج الفتيات معهم. وهذا ما شكّلَ ضغطاً طبيعياً عليهم جميعاً. ثم بادرَت بعض الفتيات العاملات إلى مرافقتي للذهاب إليهم، أو إلى المشاركة في أحاديثي معهم.
تتناول العاملات التي تتشابه خصائصهنّ الطعامَ معاً أثناء استراحة الغداء. والطبّاخون أيضاً يُميِّزون بين العاملات أثناء توزيع الطعام. إذ ينظرون إلى العاملة التي أمامهم، وحسب ذلك يحددون كمية الطعام التي سيملأونها بالمِغرفة. إنهم يتغازلون حتى أثناء التوزيع. فذلك الغزل يؤدي إلى زيادة كمية الطعام، سيما إذا كان الطعام لحماً مطهياً، أو إذا كان هناك فواكه. كل ذلك يجري في غمضة عين، ولا يشكل سوى جزءاً صغيراً من طبيعة الحياة هناك. فمغازلة رؤساء الأقسام وأرباب العمل تمتد لتطال السائقين، بل والعاملين في الجنائن أيضاً.
هناك فقدان فظيع للشخصية. ولكن، كم كانت العمالة عموماً ومفردتا “العامل” و”البروليتاريا” خصوصاً مصطلحاتٍ مقدسة! حقاً، كنتُ أصرُّ قائلةً: “أود أن أصبح عاملةً ولن أعمل في مجالات أخرى”، مُعبِّرةً بذلك عن اهتمامي العظيم واحترامي الكبير للعمالة. كنتُ أتخيل مقاومات العمال وتنظيماتهم وتصدياتهم. لكنّ ما عايشتُه في المصنع مختلف تماماً. الآن أفهم كتابَ “ميتكا” بنحو أفضل. وأحاول التحلي بالصبرِ كلما خطرَت ببالي ظروفُ العمل الرديئة والمشاكل التي تعاني منها الفتياتُ اللواتي تمّ جمعهنّ من القرى، وكلما تذكّرتُ النشاطات التنظيمية الحذِرة التي تحدث عنها “ميتكا” في كتابه.
نعمل عموماً ثماني ساعات في اليوم. ويبقى مَن يودّ العملَ في المناوبة المسائية أيضاً. وهناك، بالطبع، مَن يتحجج بالعمل المسائي. يُكافَأ عمال المصنع مرةً في السنة، أو عندما ينتجون بإتقان، بإرسالهم في عطلة إلى ساحل البحر أو إلى معرض جماعي. وتستمرّ العطلة أسبوعاً أو ثلاثة أيام. تؤدي مقاربة رؤساء الأقسام هذه إلى ربط العمال بهم أكثر فأكثر، فلا يعترضون بذلك على شروط الحياة الرديئة. فمدةُ استراحة الغداء نصف ساعة، واستراحة الشاي ربع ساعة. بالتالي، يسرِعُ الجميع في تناول الطعام، ولا يأبهون بمدى جُودة الأكل، ولا بغيابِ الضمان أو النقابة أو حقوق العمال أو التنظيم الذاتي للعمال.
أما صندوق الشوكولاته أو السكاكر الذي يتلقّاه كل عامل أيامَ الأعياد أو في المناسبات الخاصة، فيكفي لإنعاش الغبطة والسرور لديه! لقد كان شنيعاً جداً التنافسُ على التودد إلى رب العمل الذي يحاول أن يَكون أباً للجميع، وكذلك التسابق إلى كسب ودّ أبنائه المحبوبين والمتغزّلين. ياللأسف، علامَ تتسابق كل هذه الفتيات اليافعات؟ تأثرتُ بذلك كثيراً، وازددتُ حنقاً. لاسيما أن أماكن العمل الصغيرة كهذا المصنع كانت تُحَوَّل إلى بؤرٍ للانحطاط والسفالة. كانت العمالةُ تُجرَّد من جوهرها بانتشار اليد العاملة الرخيصة، وبتفشي العلاقات البعيدة عن المشاكل الذاتية الحقيقية، وبتدنّي المستوى الثقافي.
بدأتُ الذهاب إلى منازل بعض العاملات في المصنع. ذلك أن حيّ “تشيغلي السفلي” مهم لاحتوائه على المهاجرات. وقد أردتُ التعرف عليهنّ عن كثب. كانت بضعة فتيات منهنّ منفتحات على الحوار، وكنّ مستاءات من ظروف المعمل ومن مقاربات رؤساء الأقسام. لذا، بالمقدور تنظيمهنّ انطلاقاً من هذا الاستياء. فمثلاً، لا توجد نقابة للعمال، وليس هناك ضمان أيضاً. وثمة عدة فتيات بُتِرَت أطرافهنّ أو علقَت شعورهنّ بالآلة، فقضَين نَحبَهنّ، علاوةً على مَن أُصِبن بجروحٍ بليغة جعلَتهنّ مشوّهات. بالتالي، ما من ضمان لهنّ! ولا تُدفَع لهنّ التعويضات، ولا تُؤخَذ أية تدابير وقائية أخرى. وعليه، يغدو الأمر مرهوناً بالصدفة والحظ، وتصبح هكذا حالات أمراً طبيعياً.
بدأنا نناقش رويداً رويداً حول عدم وجود فارق ملحوظ في أجور اللواتي يعملن مساءً أيضاً، وكأنه “عمل طوعي” يُتاجَر فيه بجسد المرأة وبعملها. لقد كانت شخصيات أولئك الفتيات أكثر نضوجاً واستقراراً. لذا، ناقشنا ذلك بسهولة أكبر. لكنهنّ لا يؤمِنّ بالاشتراكية. وبالمقابل، يرَين أنفسهنّ على حقّ بهروبهنّ من بلغاريا. أما رؤية أنفسهنّ على أنهنّ تركيات، وأن تركيا هي وطنهم، فتُضاعف من عصبيتهنّ: “لقد تَبَنّتنا الجمهورية التركية، ومَدّتنا بالعمل والسكن، واحتضَنَتنا. لذا، علينا ألاّ ننكر جميلَها هذا”. أي أن منطق غض النظر عن كل شيء، وعدم التسبب بالمآزق، هو الطاغي لديهنّ.
لذا، من الصعب شرحُ واقع الكُرد وكردستان وجذب أنظار أمثال هؤلاء. لكنني حاولتُ أن أسرد لهنّ بنحو مترابط ومتناسق أسبابَ مجيئي من ديرسم، وواقعَ الأسرة المشتتة، ومجزرةَ ديرسم لعام 1938. لكنهنّ يكتفين بالإصغاء إلى الجوانب المثيرة في الأمر. واظبتُ على هذه الزيارات عدة مرات، ما انعكس ذلك على أجواء المصنع. إذ بِتنا نجلس سويةً في استراحات الغداء والشاي. وهذا ما أثّر في الفتيات الأخريات أيضاً. وازداد أملي، فقلتُ لنفسي: “إذاً، لو تحلّيتُ بالصبر في مقاربتي منهنّ، فستتكَوّن مجموعة صغيرة من الفتيات القادرات على رؤية المشاكل الموجودة في المصنع بأقل تقدير. وسنتمكّن معاً من إيجاد حلول لها”. إلا إنّ دورَ هكذا معامل صغيرة ليس مصيرياً. ولا يمكنها التأثر والتفاعل، إلا في حال حصول مقاومات العمال. وحتى هذا يبدو صعباً للغاية.
يجري التفتيش بشناعة بالغة أثناء الخروج من المعمل. فالمرأة البدينة المتملقة، التي تُدعى “خيرية” وتشبه حرّاس السجون، تفتّش الحقائب والأكياس بصورة فظة. لذا، عادةً ما أذهب من دون حقيبة. ومع ذلك، أستاء جداً من أسلوب التفتيش. وحين يأتي دوري، تقول لي خيرية: “أنتَ اعبُرْ يا بُنيّ!”. ذلك أن شعري بات قصيراً للغاية. وسببُ التفتيش هو منعُ أخذ الشوكولاتة أو السكاكر من المعمل. إني أستغرب حتى من تناول العمال للشوكولاتة أو السكاكر داخل المعمل. فطريقةُ الصنع جعلَتني أتقزز منهما، فلم أستطع تناولهما بعد ذلك مدةً طويلة. إذ ليس هناك مراعاة للنظافة. بل تُجمَع المواد من الأرض، وتوضَع في المراجل أو الآلات، ما يدعو إلى الاشمئزاز والقرَف. لقد رأيتُ بأمّ عينيّ كيفية غسلِ المراجل، ومدى الاهتمام بالتغليف والمظهر، دون مراعاة سلامة التصنيع.
ثم إن قطع القماش التي تُمسَح بها الطاولات التي توضَع عليها عجائن السكاكر والشوكولاتة، تبعث على الغثيان. والأنكى من ذلك هي مزاعمُ مراعاة هذا المصنع لأمور الدقة والنظافة دون غيره من المصانع! فسكاكرُ وشوكولاتة “بانار” مشهورة! وأضحكُ بيني وبين نفسي. إذاً، هذه هي حالُ جميع المصانع والورشات. فالنظافة والجودة ليستا مهمتَين. أما مُراكمة رأس المال والربح والمزيد من الإنتاج، فهي أمور لا غنى لربّ العمل عنها. أما العمال، فلا يَعنيهم سوى استلام رواتبهم اليومية. أي أن صحة الشعب ليست مهمة، بل إن المهم هو ثراء رب العمل وربحه.
العمل مُرهِق حقاً. فالاستعجال في الاستراحات، والعمل الدؤوب في ساعات العمل لأجل مزيد من الإنتاج، يُنهكني جسدياً. وعادةً ما أكون على عجلة من أمري كل صباح، كي ألحق الذهاب إلى العمل من دون تناول طعام الفطور. أما الركض في الطريق، فبات كنايةً عن رياضة صباحية طبيعية. وعادةً ما أصلُ إلى محطة الحافلات ركضاً، فيما عدا بعض الأيام التي أتأخر فيها، فأضطر لركوب حافلة أخرى ولشراء تذكرةٍ بقيمة مئة وخمسين قرشاً. إنه مبلغ مهم.
عمدتُ أحياناً إلى استوقاف السيارات في الطريق، كي لا أدفع مالاً. لكنّ “استوقاف السيارات أمر خطير!”. فقد يتاجر بعض السائقين بالنساء. كما إنّ هناك نساء يستوقفن السيارات ويتاجرن بأبدانهنّ أيضاً. لذا، لا يُرَحَّبُ عموماً بأولئك اللواتي ينتظرن وحيدات في الشوارع، ويستوقفن السيارات الخاصة. اتّخذتُ الحيطة بعدما علمتُ بكل ذلك. لكني لم آبه في بعض الأحايين، مقتنعةً في قرارةِ نفسي بأنّ: “موقفك هو الذي يحسم الأمر في هكذا حالات. فسلوكياتك تحدد تصرُّف الآخر. فحتى لو كان الآخرُ خبيثاً أو لئيماً، فإن وقفتك الجدية ستلجمه عن فعل السوء”. ولدى العودة من العمل، أجلس مرةً أو مرتَين على المدرّجات إلى أن أنتهي من حيّ “غوموش بالا”. إذ لا أستقلّ السيارة بعد النزول من الحافلة. لكنّ الطريق منحدر ومُتعِب. بالتالي، فإن السير فيه بعد العمل وقوفاً طيلة اليوم، أمرٌ مرهِق حقاً.