ترجمة خاصة|| أول مقاومة عمالية.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 41)
سيَشهد حيُّ إنجيرالتي هذا المساء اجتماعاً بين “اتحاد الشباب الثوري” و”حزب التحرير الشعبي” حول موضوع الإمبريالية الاجتماعية، وستشارك فيه كل المجموعات الأخرى. يقال أن مسؤولي كِلا التيارَين أتوا من أنقرة، وأن نقاشاً موسَّعاً سيجري، فذهبنا نحن أيضاً. لم يُحبّذ شاهين ذهابي إلى المصنع، لكنّ ذهني عالق هناك، لأن المقاومة كانت قد بدأت. أجل، لم تَقِف الآلات عن العمل، لكنّ البداية تحققت. إذ جُمِعَت التواقيع لانتخابِ ممثلي العمال، والذين سيُمثّلون نقابة العمال في المصنع. سيَكون للعمالِ ممثلوهم. في الحقيقة، هناك مَن يَقوم بهذا العمل، لكنّ عدم ذهابي سيصبح شبيهاً بتَركِ الأمرِ منتصِفاً، أو بتَركِ ميدان المقاومة. وهذا ما يزعجني. لا أستطيع أن أجزمَ كيف سيؤثر غيابي، لكنّ الجانبَ الأخلاقيّ في الأمر يحزّ فيَّ. كما لا أفهم كثيراً أسباب مساعي شاهين لمنعي بهذه السهولة من الذهاب، إلا إنني أعلم جيداً أن هذه المقاربة ليست صحيحة. ومن الجانب الآخر، فإني مهتمة أيضاً لأمرِ الاجتماع الذي سيُعقَد هذا المساء، ولا أود أن أغيب عنه.
عجَّت ساحةُ إنجيرالتي الفسيحة بالوافدين، وبدأ الاجتماع في الساعة الرابعة بعد الظهر. تحدَّثَ عضوٌ من اتحاد الشباب الثوري أولاً، فشرحَ مطوَّلاً التحريفيةَ المعاصرة، وتطرّق إلى كل المراحل، بدءاً من ثورة 17 أكتوبر وعهد ستالين، وحتى نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف. تذكّرتُ شرحَ الرفيق مظلوم في مساكنِ طلابِ مدرسةِ المعلمين عن الركائز الطبقية للتحريفية المعاصرة، وقولَه أنها ليست سلطةً طبقية، بل انحرافاً عن الماركسية. أما هذا الشاب، فهو لا يميّزُ جيداً بين هذه النقاط، إلا إنه يشرحها بسرودٍ شاملةٍ واقتباسات مستفيضة. في حين أَطلَقَ عضو حزب التحرير الشعبي توصيفَ “الإمبريالية الاجتماعية” على التغيير الحاصل في الاتحاد السوفييتي، وانتقد المتحدثَ الذي سبقه، ورَدَّ على كلامه مستعيناً بملاحظاته التي دوَّنها، ثم قرأ الكثير من الاقتباسات التي تؤيّد صحة تحليله للإمبريالية الاجتماعية. بعدَها استأذنَ الأولُ للحديث ثانيةً، ومرّت الساعات بهذا النحو.
احتدمَ النقاش مع مشاركة الكثيرين فيه على الرغم من انتصافِ الليل. دوَّنتُ، أنا أيضاً، ملاحظاتي. نظرتُ إلى شاهين، وقلتُ في نفسي: “لا بد أنه سيشارك في النقاش”. تَعدَّدَت محاور النقاشِ حتى وصلَت المسألةَ القومية، فسُررتُ لذلك. إذ ثمة حشد غفير من الشبان. وعليه، فإن هذا هو أفضلُ مكانٍ لطرحِ القضية الكردستانية وشرحِ أيديولوجيتنا بنحوٍ شفاف. إنهم يتبادلون الاتهامات، على الرغم من عدم اختلاف تحليلاتهم من حيث الجوهر. فالطرفان يَعتَبِران الميثاقَ الملليَّ شرعيّاً.
ولَمّا نُوقِشَت مصطلحاتُ “الأمة المضطهَدة” و”الشعب” و”الدولة”، قال عضوُ حزب التحرير الشعبي: “عن أيةِ أمةٍ يمكننا الحديث، ما دام أمامنا أربعةُ أجزاءٍ مختلفةٍ لا يتميز أيُّ جزء منها بماهيةِ أمةٍ اكتسبَت خاصياتها المختلفة؟” ثم أضاف: “سيُنَظِّم كلُّ جزءٍ ذاتَه وسيناضل بنحوٍ مشترك مع الأمة التي يتبع لها، وبهذا الشكل سيحقق تحرُّرَه”. أما عضوُ اتحاد الشباب الثوري، فتحدَّثَ بالمقابل عن الاستعمار الحديث، وأوضَحَ أنه لم يَعُد هناك استعمار كلاسيكي في عصرنا، وتطرَّقَ كيفما اتَّفَقَ إلى البورجوازية الكرديةِ ذات الخصائص الكومبرادورية القومية والمندمجة مع ظاهرة الدولة.
أي أن هذا الأخير ينكر، من حيث النتيجة، وجودَ انطلاقةٍ ثورية في كردستان، أو لنَقُل أنه يستصغرها. إذ أردفَ قائلاً: “على الرغم من مزاعم بعض مجموعات البورجوازية الصغيرة بضرورة تشكيل تنظيم مختلف في كردستان، إلا إن ذلك مستحيل على أرض الواقع. ومع ذلك، علينا رصد أحوالها. أي، وبدلاً من اتخاذ الموقف الحاسم والفوري تجاهها، بإمكاننا اعتماد مقاربةٍ تفضح خصائص التعصب القومي لديها”.
أما عضو حزب التحرير الشعبي، واستناداً إلى إحدى مقولات لينين، فقد قال: “يمكننا دعمُها، حتى ولو كانت متعصبةً قومياً”. ياللعجب! وكأنهما يتغازلان أو يتعاندان. فهاهو يقول: “يمكن دعمُها، حتى لو كانت قيادتُها بورجوازيةً قومية”، في حين أنه يرفض تماماً القيادة البروليتارية، ولا يطيقها حتى. يالَغرابة هؤلاء اليساريين. إنهم يستثمرون حتى لينين، في سبيل تأكيد حقّانيّتهم!
إنه الوقت المناسب. قلتُ لشاهين: “من الأفضل أن تنهض وتتحدث. إنهم يعتقدون أنهم بهذا النحو قد ناقشوا المشكلة القومية وحلّوها، في حين ينبغي علينا نحن أساساً أن نتحدث عنها”. لكنّ شاهين لا يُعيرني أيّ اهتمام. ذُهِلتُ ولا أستطيع أن أُصَدِّق ما أراه. أَعَدتُ الكَرَّةَ: “قُم وتحدث. إنه الوقت المناسب. انظر حولك، من المؤكد أن هناك مَن ينتظرون أحداً كي يتدخل ويتكلم. وربما ثمة مَن لا يَودّون أن يتكلم أحدٌ آخر، ليؤكدوا بذلك أنهم حلوا المشكلة القومية بهذا النحو. أجل، هذه هي رغبتهم. وإذا لم نتكلم، فإن هذا يصبُّ في خانتهم”. وافقَني حيدر الرأيَ مذهولاً من موقف شاهين وقال: “سيَكون حسناً لو قُمتَ وتحدثت”. لكنّ شاهين متربِّعٌ على الكرسيّ وكأنه غير آبهٍ بكل كلامنا.
أردتُ حينها لو أقول له: “أبلاكَ اللهُ شرّ بلاء”. ولكنْ لا، لا، إنه لا يستطيع التحدث التزاماً بالسّرّيّة. لكن، مَن يمكنه أن يفعل شيئاً وسطَ هذا الحشد الغفير، حتى لو كان شرطياً مدنياً أو حتى عميلاً؟ ونفَدَ صبري، فاستأذنتُ للحديث ونهضتُ في آنٍ معاً وبِرَدّةِ فعلٍ عصبية، وكأنه ثمة أمور يَغفل عنها الآخرون وأنا التي سأَذكُرُها. تحدثتُ كيفما اتَّفق ودون أن أدري عن ماذا أتحدث. إذ نهضتُ فجأةً، فاتَّجهَت العيون كلها نحوي، وحَملَقَت فيَّ بفضولٍ بارزٍ وكأنها تتساءل: ما الذي ستقوله لنا هذه الفتاة؟ لكني غاضبةٌ منهم ومن شاهين. إلا إن غضبي الأكبر هو على شاهين. لذا، بدأتُ أتحدث بنبرةٍ غاضبة وبصوتٍ عالٍ.
قلتُ حينها أن مقاربةَ كِلا الطرفَين من القضية القومية غير صحيحة، وأنهما ينظران إليها وكأنها مسألة بسيطة أو موضوعٌ مرتبط بإحدى موادِّ برنامجٍ ما، وأنّ رؤيتَيهما إليها لا تتعدَّيان إطار الميثاق المللي، بل وتندرجان في خانة التقييمات التي تُضفِي الشرعيةَ عليه. وأكدتُ في كلامي على أنّ هذه المقاربات تتناقض مع المهامّ الثورية ومع الرؤية الأممية، وأن الشعب الكردستاني سيقرر مصيرَه بنفسه، شاء هؤلاء أم أبَوا، وأن ثوار كردستان سيُنظّمون أنفسهم وفق خصوصيات واقع كردستان وسيُطوّرون ثورتهم.
لم أُطِلْ في كلامي، لكني وجدتُ أنه من المهم القيام والتعبير عن هذه الأفكار ولو ببضعة جُمَل. ارتحتُ حينها، لكنّ شاهين بدا وكأنه جامد من ذهوله: “هل كان لذلك داعٍ حقاً؟ إني لم أتحدث عن قصد. فما الذي يمكن قوله إزاء هؤلاء الرجال؟ إنهم لا يفقهون شيئاً. على أية حال، هيا نذهب”. أما حيدر، فنظر إليّ مبتسماً، وهزّ رأسه وكأنه مسرور بموقفي. لكني ما زلتُ متضايقة. فلماذا لَم يتحدث الكادر المسؤول في التنظيم في المكان الذي وجبَ عليه الكلام؟ علِقَ هذا السؤال في ذهني لأيام، وتَسبَّبَ بفتورِ علاقتي مع شاهين. وبالطبع، فإنّ شاهين أيضاً لم يُعجَبْ كثيراً بموقفي، إذ ماذا يعني أن أنهض للتحدثِ وهو موجود بجانبي؟! أجل، لقد فكرتُ بدايةً في هذا الجانب من الأمر: “لِمَ نتحدث نحن ما دام شاهين موجوداً؟”. لكنه لم يَنهض للتحدث.
فإذا لم تُنجَزْ مَهمّةٌ ما، فإن انتظارَ الآخرين يعني المصادقةَ على عدم إنجازها. لكنّ هذا غير موجود في قاموس الروح الثورية. ذلك أن ثوار كردستان ينجزون ما لم ينجزه الآخرون. ليَكُن. فلْأتحدثْ أنا، ولْيَستهزئْ بي الآخرون. فإنّ الموقف الأصحّ هو التحدث ولو بأسوأ الأشكال، عوضاً عن البقاء بلا موقف تجاه أخطائهم.
انتهى الاجتماع في الساعة الرابعة فجراً، أي أن النقاشات استمرت اثنتَي عشرة ساعة. وعندما بلَغنا المنزلَ كان الوقتُ يشير إلى ساعات الصباح الباكر، وكان قد أتى عاملان إلى منزلنا على عجلٍ قبل أن يذهبا إلى عملهما، وأوضحا أن عدم ذهابي إلى المصنع سيؤثر سلباً على المقاومة، وأن العمال انتخَبوني ممثلةً لهم، وأنه عليَّ أن أذهب دون بد. لكني اضطررتُ للقول أنني لن أستطيع الذهاب لأنني مريضة. كنتُ أعلم أنه من الخطأ عدم الذهاب. إلا إنه عليّ ترجيح أحد الأمرَين، فاخترتُ البقاء للاستماع إلى شاهين دونماز. فهو كادرُ حركتنا وتنظيمنا. أجل، هذا صحيح. كان عليه هو التفكير بذلك. وإلا، فماذا يعني تَركَ العمالِ وحدَهم؟! إن هذه الحالة النفسية تخلق لديَّ شعوراً بالذنب. يا له من سوء طالع! ليتَ أنّ شاهين أتى قَبلاً أو بَعداً. ثم إنه كان علينا أن نجتمع جميعنا في أحد الأماكن المناسبةِ على شطّ البحر في حيّ إنجيرالتي.
إذ عندما كنا في طريقنا إلى الاجتماع، أشار شاهين بيَدِه إلى أحد الأماكن قائلاً: “لنَجتمعْ هنا”. وكنا سنذهب إلى هناك في اليوم التالي. أدخَلتُ العاملَين إلى المنزل، وتحدثتُ إليهما قليلاً. إنهما ثوريان ومن مُنظِّمي المقاومة. قلتُ لهما على مضض: “إنّ لدينا عملاً ضرورياً، وسآتي غداً بالأكثر”. لكنهما أَصَرّا على ذهابي معهما إلى المصنع قائلَين: “والله إن العمال أكدوا علينا أنهم ينتظرون أن تأتي معنا الآن. فالجميعُ يرغبون معرفة وضعك. بل واعتَقدنا أنكِ اعتُقِلتِ”. أعربتُ لهما عن أسفي، وأكدتُ مجدداً أن يَثقا بأنني سآتي، فذهبا مستاءَين. تأسفتُ لِما حصل، وانتقدتُ شاهين: “لولاكَ لَكنتُ ذهبتُ وتوقفتُ على الأمر دون أن يؤثر ذلك في أعمالنا الأخرى. إذ ليس حسناً عدمُ الذهاب عشيةَ انفجار المقاومة. لقد كنتُ في غمرة ذلك العمل شخصياً. والعمال حسّاسون، وينبغي عدم زعزعة ثقتهم”. إلا إنّ شاهين لا يأبه بكل ذلك: “دَعكِ من ذلك. ثم إنكِ تقولين أنكِ ستعودين إلى الوطن. فلْيَقُم الآخرون بتنظيم إضراب العمال إذاً”.
ذهبنا في ذاك اليوم إلى إنجيرالتي، وأخذنا يوكسال معنا. أصبحنا بذلك سبعة أشخاص. بدأَ شاهين الاجتماع بقوله: “إن العدو يُشتِّتُ صفوفنا ويبعثرنا كلاً على حدة. ولكن، انظروا، لقد تَمَكَّنّا من جمع سبعة أشخاص في هذا الاجتماع”. كان هذا أولَ اجتماع رسمي لنا في إزمير على شط البحر. إننا سبعة أشخاص. سُررنا جميعاً. وسردَ شاهين ما كان قد ذكرَه لنا في المنزل، ولكن بصورةٍ أوسع: “ستستمر نشاطاتنا من الآن فصاعداً بهذا الشكل في إزمير وفي المدن الكبرى الأخرى. هناك شريحة واسعة من الشبان الكرد، وعلينا تنظيمهم”.
علِقَ اجتماعُ المساء في ذهني في تلك الأثناء. لم أستطع استساغةَ موقفه هناك بأي حال من الأحوال. فقد كان ذلك الاجتماع من أفضل الأوساط للتأثير في الشبيبة. وتساءلتُ في نفسي عن أسبابِ عدم الإفادة من تلك الفرصة. ثمة صراع صامت بين كِلَينا، وأحاول فهم أسبابه. إذ ثمة بعض الرفاق الذين يشعر المرءُ تجاههم بالودّ والدفء والاحترام والحميمية من أول نظرة. لكني لا أستطيع استشعار ذلك تجاه شاهين، بل وأراه منفِّراً. ثم خجلتُ ضمناً، وكأنني ارتكبتُ خطأً أو اقترفتُ ذنباً خفيّاً، فنبَّهتُ نفسي قائلةً: “لا مكان في الرفاقية لعدم الحبّ أو عدم الحميمية”. وضغطتُ على نفسي بهذا النحو، وإنْ لم أَكُن مقتنعةً تماماً.
طرَحنا عليه الأسئلة، وأردنا معرفة موقفنا إزاء “اليسار الكردي” على وجه الخصوص. ونقلنا له مضمون علاقاتنا ونقاشاتنا مع “الجمعية الثقافية لثوار الشرق”. كما سألناه عن مستوى علاقاتنا مع “طريق الحرية”، وأردنا فهمَ تقييمات هؤلاء الواردة في مجلتهم بنحو أفضل، لا سيما تلك التي تقول أنه: “تتطور الرأسمالية في كردستان وستتطور أكثر”. ثم ذكرَ شاهين أن رفاقاً آخرين سيأتون، وأضاف: “سأنقل ما ذكرتموه إلى الرفاق. سيشرف الرفيق حيدر السروجي عليكم حالياً كممثل لنا، وإنْ بصورةٍ غير رسمية. فقد يرسل الرفاقُ شخصاً آخر فننقلُ الرفيقَ حيدر من هنا”. وفيما يتعلق بي قال: “سنتحدث مع الرفاق ونُخبِركِ”. ثم ذهب من إزمير.
لكنّ باقي حساس ومستاء وغاضب ولم يتفوه بكلمة. ثم قال بعدها: “قد يَكون شاهين من كوادركم المسؤولة، إلا إن أسلوبه مُنفِّر. فقد أجّجَ المشكلة أكثر”. لم أتحمل قوله هذا، فأجبتُه: “كفى، لا داعٍ لاتهامِ الغير. ناقِشْ معي إن كانت لديك أية مشكلة”. وأكدتُ له أن قراري ليس له علاقة بمجيء شاهين، وأنه، أي باقي، يدرك ذلك جيداً. أجل، إنه محق في مخاوفه. فالاعتماد على التنظيم في مساعي حل المشاكل أمر مختلف ومُلزِمٌ بدرجة مهمة. وباقي يدرك جيداً مدى ارتباطي بالتنظيم. فأنا جاهزة للموتِ إن أمَرَتني الحركة بذلك، وجاهزة للذهاب أيضاً في حالِ قالوا لي: “تعالي اليوم فوراً”. إن الأمر هو هكذا من دون أية مغالاة.
وفيتُ بوعدي فذهبتُ في اليوم التالي إلى المصنع. لكنّ باقي أراد المجيء معي، فتأخرتُ قليلاً، ما لفتَ الأنظار إليّ لأن الأوضاع مختلطة في المصنع. يستطيع باقي تخمين موقف العدو في مثل هذه الأمور. إنه متخوف على الرغم من محاولته إخفاء ذلك: “انتبهي ولا تُجادلي الموظف الذي على الباب. حاولي الدخول إلى المصنع”.
وافترَقنا بعدما أكد لي أنه سينتظرني خارج المصنع. دخلتُ من البوابة، فاستوقفَني الحارس ثم دخل غرفةَ المدير. ثمة أماكن مخصصة للموظفين في مدخل المصنع. وهناك سيارة بيضاء على الباب. ناداني الحارسُ بعد بُرهة، فتوجَّهتُ إلى غرفة إدارةِ استقبال العمال، ورأيتُ موظفين ينتظرونني وأمامهم دفتر ولائحة. قلتُ لهم: “كنتُ مريضةً منذ يومين، فلم أستطع المجيء. خرجتُ من المشفى متأخراً، ولذلك لم أستطع الوصول في وقته هذا الصباح…”. ردَّ أحدُهم قبل أن أُكمِلَ كلامي: “حسناً، عُلِم. إنكِ لَم تَعودي عاملةً لدينا. ووثيقةُ إخراجكِ من العمل بين يدي. وبالطبع، لستِ وحدَك، بل هناك عمال آخرون أيضاً. لا علاقةَ لنا بك بعد الآن. تفضلي، بإمكانكِ الذهاب”. وأشارَ بيدِه نحو الباب.
أجبتُه: “كلا، الأمر ليس بهذه البساطة. ما هي الحجّة؟ هل نحن عمّال عندما نشتغل، ولسنا عمالاً عندما نمرض؟ أين صاحب المصنع؟ أود التحدث إليه. فمن أين يستمدّ حقّه في طرد العمال متى شاء؟ لن أذهب إلى أي مكان آخر”. وفورَ انتهاء جملتي رأيتُ ربّ المصنع يدخل. كنتُ أتحدث بصوتٍ عالٍ بالطبع، فاختلط صوتي بصوتِ الآلات. سألَ صاحب المصنع بكل لباقة: “تفضلي أيتها السيدة، هل تودين قول شيء؟”.
– “أجل، إني مريضةٌ منذ يومين. كنتُ في المشفى. وبإمكاني توثيق ذلك إن تطلَّبَ الأمر. وقد أتيتُ الآن إلى المصنع لأعمل، إلا إنهم يطردونني. ما السبب؟ أود معرفة أسبابِ طردي. ثم إني لن أذهب إلى أي مكانٍ من دون تقديم التعويضات لي. وبالأصل، فقد اقتطعتم الكثير من أجورنا، ولم تُبقُوا لنا منها شيئاً. ثم إنني أعمل منذ مدة، ولا يتم تعويضي. فما معنى ذلك؟”. الآن أيضاً أتحدث بصوتٍ عالٍ.
– “اهدأي. لا يمكنكِ تهديدنا. وأنا لستُ مضطراً لتبرير أي شيء. فمَن لا يأتي إلى العمل يُطرَد. كان عليكِ أن تعرفي ذلك”.
– “عليّ أن أرى زملائي. سأنتظرهم هنا، ولن أذهب إلى أي مكان آخر”. قلتُ ذلك بنفس النبرة العالية، محاوِلةً اكتساب الوقت.
خرجَ رب العمل لبرهةٍ ثم عاد وجلس. بعدها قال: “لحظة من فضلك”، وأخذني إلى إحدى الزوايا:
– اسمكِ سكينة بولات. صحيح؟
– أجل. (وترتفع نبرة صوتي كلما انخفضَ صوتُه).
– أنتِ من تونجلي. أليس كذلك؟
– أجل.
– هل أنهيتِ المرحلةَ الثانوية؟
– لا أود سماع ذلك. لماذا تسألني كل هذه الأسئلة؟ كل المعلومات موجودة على هويتي الشخصية. وقد وُثِّقَ كل ما يخصني لديكم لدى قبولي في العمل. فما جدوى أسئلتكم هذه مجدداً؟
– لا أضمر نيةً سيئة. ولكن، لماذا يحبكِ العمالُ إلى هذه الدرجة؟ لِمَ هم مرتبطون بك؟ فأنتِ من مكانٍ وهم من مكانٍ آخر. (قالها بسخرية).
هاقد فُهِمَ الأمر. لقد فَهمتُ سبب طردي من العمل. لكنّ هذا الرجل الأخرق يعاملني وكأني لا أفقه شيئاً. لكن، لا. فهاهو يقول:
– إنكِ فتاة عاقلة وماهرة. ورؤساء الأقسام ممنونون منك ومن إتقانكِ لعملك. فلماذا لا تعملين في مجالات أخرى؟ أليس صعباً عليكِ العمل في المصنع؟
– هذا الأمر يخصني. فأنا قادرة على البتّ في شؤون حياتي.
جميلٌ أن يمر الزمان، ولكني مازلتُ داخل الغرفة في حين يقترب موعد الغداء. ينبغي أن يراني العمال. يجب أن يروني فحسب. فالعاملون في الخارج لا ينظرون إلى ناحيتي، وهناك ستارة متدلية على تلك النافذة، بالتالي، فحتى لو نظر العمال إلى الداخل، فلن يُميِّزوا وجودي. أكاد أنفجر من الغضب. ثم إن أسئلة ذلك الرجل مقصودة وتُوتِّر الأعصاب، وأخمن ما سيقوله في النهاية. إنه يتابع:
“حسناً، نحن أيضاً لا نود طردك. لنُغَيِّرْ طبيعةَ عملك. إذ لديك الشهادة الثانوية، ويمكنكِ أن تكوني سكرتيرة”. وبدأتُ أهدده حتى قبل أن يُتِمّ كلامه: “هاااا، الآن فهمت. تودون شراء ذمتي! كلا، أنا عاملة. اذهبوا واشتروا الذمم أو اعثروا على مَن سيقوم بعمل السكرتاريا من مكان آخر. إني مع زملائي العمال، ولن تستطيعوا عرقلة أي شيء بطردي من العمل. وكل خطوة ستخطونها سوف تُزيد الطينَ بلّة. فالنقابة والتمثيل هما من أبسط حقوقنا الطبيعية، ولن تَحُولوا بيننا وبينها. إذ هناك عدد لا حصر له من العمال، والجميع قادرون على تمثيل أنفسهم. إنكم بطردي ستُضاعِفون عددَ ممثلي العمال دون بد”.
صرختُ قدر ما استطعتُ خارجةً من الغرفة ومتّجهةً نحو المصنع. أَمسَكَ بي ثلاثةُ أو أربعة أشخاص عمالقة. لم يَكُن هؤلاء موجودين هناك حتى ذلك الحين، فأين كانوا ينتظرون؟ لقد قالوا: “نحن بوليس، وسنأخذك إلى السيارة”. فصرخت: “أيها الزعيم الفاشي للمصنع، هل قَبلتَ عملي عن طريق البوليس حتى تطردني بأيديهم؟ اتركوني”. اتّخذتُ وضعيةً تُمكّنني من التسمّر بالأرض بكل ما أوتيتُ من قوة. كم أصبحتُ قويةً في تلك اللحظة! حتى أنا تعجّبتُ من ذاتي. أخذوني إلى أمام السيارة بعد عراكٍ طويل، فأسندتُ إحدى قدمَيّ إلى باب السيارة، ودفعتُهم بذراعي. لقد أَحكَمَ أحدهم قبضتَه من الخلف على مؤخر عنقي، آخِذاً حزمةَ شعري المربوط بين يديه، فأصبح عنقي وكأنه سينكسر. لقد كانوا يهدفون إلى كتم صوتي وإقحامي في السيارة والذهاب من هناك لحظةً قبل أخرى. ذلك أنهم انتبهوا إلى الدقائق القليلة التي تفصلنا عن موعد الغداء. بينما كنتُ في المقابل أحاول كسب الوقت.
تمسكتُ بباب السيارة لآخرِ مرةٍ وبكل قوتي، فلم يستطيعوا زجي فيها. واستمريتُ في الصراخ: “أيها الفاشيون، لن ننسى لكم هذا. اتركوني!”. وفجأةً خرج العمال، فصرختُ بصوتٍ أعلى وأعلى. كل مَن رأَوني بدايةً لم يعرفوا من ذهولهم كيف يتصرفون، ثم اتّجهوا نحوي، مما أَربَكَ ذلك البوليسَ أيضاً. انتهزتُ الفرصةَ فدفعتُهم عني واتّجهتُ راكضةً نحو العمال وأنا أردد الشعارات: “اخرجوا أيها البوليس! الشرطة فاشية!”.
وردد كل العمال تلك الشعارات بصوتٍ واحد. لكنّ صوتَ مجموعةٍ أتى من خارج المصنع وهم يرددون “أيها الشرطة الفاشيون!”. نظرتُ إلى تلك الناحية، فرأيتُ باقي. إذاً، فهو لم يذهب. بل ولَمّا رأى عراكي مع عناصر الشرطة، ذهب إلى جامعة بورنوفا، وأتى مع أربعةٍ أو خمسةٍ من رفاقه. لكنّ جدارَ حديقةِ المصنع عالٍ وتَعلوه الأسلاك الشائكة. أما الطرف الذي هم فيه، ففيه مستنقع، وتمر منه قناة مائية، فلا يستطيعون الاقتراب أكثر. ومع ذلك، فإن دعمهم لنا من هناك أيضاً جيد ويمدّنا بالمعنويات. وبكل الأحوال، فإنهم لم ينتظروا كثيراً كي يأتوا إلى طرفنا. أما نحن، فدخلنا جميعاً إلى غرفة الطعام. صعدتُ إلى إحدى الطاولات وشرحتُ للعمال كيف أراد ربُّ العمل شراء ذمتي. فشجبَه الجميعُ بصوت واحد “يووووووو!”. واستمر ترديد الشعارات وضرب الطاولات بقبضات الأيدي:
“ليدخل العمال في إدارة النقابة!” و”الحق يؤخذ ولا يعطى!” و”النقابة حقنا!”. أَضرَبْنا عن تناول الغداء بقَلبِ صحوننا على الطاولات. وبدأنا ننشد الأناشيد القومية، ونصرخ بالمقابل: “لن نخرج من هنا ما لم يخرج البوليس”.
هكذا بدأت المقاومة فعلياً.
أتى النقابيون. لكنهم جميعاً من مستَخدَمي النقابات الصفراء. أجل، هناك مَن يتبعون لنقابة المنسوجات، لكنّ اللغةَ التي يتحدثون بها لا تختلف! وبدأوا بالثناء على مدى تضحية العامل التركي، وتحدثوا عن حقه في الإضراب. لعلهم يتناسون أنهم أتَوا لقمع الإضراب تحديداً حتى يتحدثوا بهذا الحماس. هاهم يتطرقون إلى الوعي والصراع الطبقيَّين، ويشددون على أنه ما من شيء تخسره البروليتاريا عدا أصفادها! لكنهم يتحدثون بصورة عامة ودوغمائية للغاية، ويبتدئون كلَّ جملة بعبارة “العامل التركي”، ما جعلني أتصور أنهم يشتمون بذلك العاملَ والشعبَين الكردي والتركي على السواء. إنها أحاديث استفزازية وتثير الحنق والغيظ.
كانت مخمورة تقف بجانبي، فالتفتُّ إليها قائلةً: “هل ستقولين شيئاً لأولئك الرجال المتشبّعين بالشوفينية؟ فأنتم تتحدثون عن الشعب الكردي المقهور عندما يحلو لكم. عليكم التطرق إلى ذلك هنا والآن، وعليكِ أن تشرحي إضرابات الطبقة العاملة بصورة سديدة. فهي تهدف إلى أمر واحد فقط: مناصرة الشعب الكردي في حقه بتقرير مصيره! عليكِ التطرق إلى ذلك كي تتحطم قوالب الشوفينية. إنكم تصمتون، وأنا لا أود التحدث الآن. هذه وظيفتكم”. نهضَت مخمورة بعد هنيهة، وألقت كلمةً جدّ مختزلة، تحدثَت فيها عن الدور الريادي للطبقة العاملة، وعن التضامن الأممي، ونوَّهَت بجملة واحدة إلى الأخوّة مع الشعب الكردي المضطهَد. فقلتُ في نفسي: “لا بأس بهذا أيضاً”.
ثم توجَّهنا معاً نحو الداخل، لنستمر بمقاومتنا هناك. الآلات متوقفة، جلسنا عليها، وأنشدنا معاً نشيد العمال الوطني:
“يسير العمال منذ البداية
والمصنع من الجبل والحجر
نحطّم الأصفاد ونكسرها هيه!
وعلى رؤوس الفاشيين نضربها هيه!”
وكلَّما بلَغْنا عبارةَ “على رؤوس الفاشيين نضربها”، يضربُ البعض بقبضاتهم على طاولات الماكينات بوتيرة متناغمة، ما يضاعف حماسنا. ثم بدأنا ننشد نشيد الأول من أيار، يتخلله ترديد الشعارات. اعتَبَرنا ذاك اليومَ بمثابةِ المنَبِّهِ المُسَرِّع لإنضاج ظروف الإضراب. وأوضَحنا ذلك لصاحب المصنع أيضاً. لكنه حذّرَنا وطالبَنا بالتزامِ الصمت: “تعالوا نتناقش”. ثم قال ذاكِراً اسمي تحديداً: “فلتأتِ ممثلتكم كي نناقش ونحلّ الأمر”. لكني بالمقابل ذكَّرتُهم مجدداً بما قاله في الصباح:
“أيها الرفاق، إنه سيجعلني سكرتيرة. أجل، لقد طلب مني أن أصبح سكرتيرة، كي ألتزم الصمت وأتراجع عن المقاومة. إنه أراد شراء ذمتي في الصباح بعَرضِه عمل السكرتاريا عليّ”. ثم استدرتُ نحو رب العمل وقلت:
“ما من شيء نتحدث به إليك. فقد اخترتَ حلَّ المشكلة بالبوليس، وليس بالتحدث إلينا”. فانسحب سريعاً وذهب.
استمر الوضع على هذه الحال إلى أن انتهى وقت العمل مساءً، اجتمعنا أثناءها هنا وهناك لمناقشة ما يجب علينا فعله بعد الآن. إذ هناك المستاءون من بين العمال، وهناك أيضاً مَن لايزالون يعملون في بعض الوحدات الأخرى. حددنا توقيتاً معيناً في المساء للاجتماع والمناقشة ثانيةً ثم افترقنا. قررنا في اجتماع المساء البدءَ بالإضراب! كُلِّفَ البعض بتدوين الشعارات كوظيفة أولى. أما نحن، فسيتحدث كل واحد منا إلى العمال في الحافلة التي سيَستقِلُّها، وسيدعوهم إلى المشاركة في الإضراب بعد شرح أهدافه. طلبنا إلى البعض كتابةَ لائحةٍ بأسماء العمال الذين طُردوا من العمل دون دفع التعويضات لهم. فدَوَّنوا خمسةً وسبعين اسماً، وكان اسمي هو الأول. وأوضَحنا أن هذه اللائحة ستُعلَّق في صباح اليوم التالي على الباب الخارجي للمصنع. إنها تشمل جميع المطرودين، من أقدمهم إلى أحدثهم. أجل، لقد وَضَعَ العمال كل شيء نصب أعينهم، وكأنهم بدأوا بحملة تصفية كاملة.