ترجمة خاصة|| أول سجن.. من مذكرات سكينة جانسيز ( الحلقة ٤٣)
كنا سمعنا سابقاً عن الأحداث التي حصلت في تلك الفترة في سجن بوجا. بل حتى إن أنباءً انتشرَت سابقاً ومفادها أن المعتقلين تمردوا وحرقوا السجن، علاوةً على ما قيل حول التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون هناك، لدرجةِ أنّ هذا السجن أصبح مَضرَباً للمَثَل. ومن بين ما قيل حينها أنهم يضعون السجين وقِطّاً وحشياً معاً في كيسٍ ثم يربطونه. وكلما ضربوا بالعصا كلما خاف القطُّ وخَربَشَ السجين فغرقَ في دمائه. وقد نُشِرَت أنباء مصوَّرة حينها تحت عنوان “تمردٌ في السجن”. هكذا سمعنا باسمِ سجن بوجا. كنتُ زرتُ إيبو في سجن ديرسم مرةً أو مرتَين قديماً، ولم أَرَ أي سجن آخر قط إلا في الأفلام التي تُصوِّر مهاجع السجناء الجنائيين. إن مهاجع النساء المعتقلات خصيصاً غريبة حقاً في الأفلام.
إن سيارة السجن مغلقة وأقرب ما تَكُون إلى سيارة نقل الموتى. طلبنا إيقاف السيارة لابتياع بعض المأكولات كالحليب والبسكويت وغيرها. فقد قررنا إنهاء الإضراب عن الطعام. لم يتعلق هذا القرار باعتقالنا، بل بوصول الإضراب إلى أهدافه: ففي اليوم التالي، نَشَرَت كل الصحف المحلية وبعض الجرائد اليومية الأخرى أخباراً على صفحاتها الأولى عن نشاطنا هذا. وكنا قد حصلنا على كل الجرائد والصحف. حتى صورتنا التي نتلقى فيها الضربَ كانت منشورة.
يشبه هذا السجنُ من الخارج مصنعاً كبيراً. إنه مختلف جداً عن السجن الذي في ديرسم. انعطفنا يساراً مِن أول قسم، وبدأوا بالإجراءات المتعلقة بنا. الأوساط مليئة بالعساكر والضباط. يُعنى العساكر بالأمن الخارجي بالتشارك مع الإدارة المدنية التي تُدير شؤونه. إنهم يحاولون إبداء المزيد من الاحترام إزاءنا، ولو ظاهرياً، بعدما تَلَت المحكمةُ أسبابَ اعتقالنا. قال رئيس الحراس البدين: “لنُلقِ نظرة على الجرائد”. فأعطاه الرفاق إياها. ناقشنا فيما بيننا في ما إذا كانت ستَكون هناك إمكانيةُ اللقاء بالآخرين أم لا، إذ لا نعلم بذلك. ثم قال أحد الرفاق الشباب: “يمكننا اللقاء بالأقارب وبالمعتقَلين من نفس الدعوى”. ثم أضاف: “بإمكاننا ترتيب ذلك”.
كنا نعلم أن هناك معتقَلين سياسيين داخل السجن. لكنّ عدد النساء قليل، بل ولسنا متأكدات حتى من أمرِ وجودهن. نادَوا على إحدى الحارسات، فأتت حارسة بدينة حمراء البشَرة، وقالت لنا: “ليُنقِذكنّ الرب”. ثم مشَت أمامنا، فمررنا بعدد من الممرات، وافتُتِحَت العديد من الأبواب الحديدية الكبيرة ذات الأقفال الحديدية الضخمة. وأخيراً رأينا قِسماً مكتوب عليه “مهجع النساء”، فدخلناه.
داهمَتنا أصوات التصفيق والقهقهات من الطابق السفلي بمجرد أن فُتِح الباب. فتبادلنا النظرات وكأننا نتساءل: “أين نحن؟”. ركضَت الحارسة البدينة بضخامتها هذه إلى أسفل، وحذّرَت: “أيتها الفتيات، لقد أتت السياسيات”. ولكن، لا أحد يسمعها. وإلى أن استطاعت جذبَ أنظارهنّ، كنا وصلنا إلى أسفل. ذُهِلنا من المظهر الذي تجلّى أمامنا. فعلى الطاولة امرأة ترقص ولا ترتدي سوى حمّالة الصدر من الأعلى وتنورةً مزخرفة عُقِدَ طرفٌ منها تحت مطاط الخصر بحيث يظهر لباسها الداخلي السفلي. والأخريات شَكَّلن حلقةً حولها ويصفّقن، والبعض منهنّ يغنّين مُصدِراتٍ أصواتاً غريبة متناغمة فيما بينها.
قالت مخمورة: “وصلنا إلى مشفى المجانين أيتها الرفيقات”. أعادت الحارسة البدينة صراخَها مُفرِّقةً النساء، وممسكةً تنورةَ الراقصة التي على الطاولة تهزّها بيدَيها، وتُخفِض تنورتها طالبةً منها النزول. قالت كلّ سجينةٍ رأَتنا: “أف.. أف..” لتَلتزمَ بعدها الصمت. أما التي على الطاولة، فلم تأبه لنا بدايةً، ثم نزلت، وأعقبَ نزولَها صمتٌ مفاجئ. ثم بدأن يتساءلن: “مَن هؤلاء؟”. فأجابَت اللواتي علِمن بأمرنا: “إنهنّ فتيات سياسيات”. أجل، يكفينا تعبيرُ “سياسيات”. سلّمنا عليهنّ “مساء الخير”، وجلسنا في أحد الأطراف.
يُستَخدَم الطابق السفلي كمهجع وكغرفة طعام في آنٍ معاً. فتحنا الجرائد أولاً لنطَّلع على الأنباء والتحليلات: “عمال المصنع في إضراب عن الطعام” و”هراوات البوليس تضرب العمال المضربين عن الطعام”. وهناك صورة يظهر فيها البوليس وهو يجرّنا ويضربنا بالهراوات، وتحتها كُتِبَت العبارة التالية: “طُرِدَ خمسة وسبعون عاملاً من العمل بدون تعويضات!”. وهكذا دواليك.
كل التحليلات إيجابية، فاغتبَطنا وقلنا: “لقد بلغ الإضراب عن الطعام هدفه”. وبالطبع، فقد أَفسَدَ اعتقالُنا الأمر، سيما أن هناك أربعةَ أو خمسة طلاب جامعيين اعتُقِلوا معنا، وهم من المجموعةِ المناصِرة التي رددت الشعارات. ومجموعُنا كمعتقَلين هو اثنا عشر شخصاً.
تأكدنا من أمرِ “التمرد” الماضي في السجن، وأن المعتقَلة السياسية الوحيدة في مهجع النساء قد نُقِلَت قبل مدة إلى سجن مانيسا. أرسلَ المعتقَل “أورهان باقر” من معهج الشباب برقيةً إلينا بوساطة الحارسة، يسألنا فيها عن احتياجاتنا. وأورهان باقر هذا معروف بأنه من كوادر “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”. إنه من مدينة “قره قوتشان” وأرمني الأصل، وقد سمعتُ باسمه سابقاً. سُررنا ببرقيته هذه، والتقيتُ به في اليوم التالي بناءً على طلب منه. فقد عَلِمَ أنني لستُ من “حزب التحرير الشعبي”، وأني من “ثوار كردستان”، فانتابه الفضول للتعرف عليّ. ناقشنا المسألة القومية في ذلك اللقاء القصير.
طالما تلازَمَ اسمُ أورهان باقر بالنسبة لي -قبل أن أعرفه- مع الروح الثورية، وطالما احترمتُه ووددتُ التعرف إليه. فهكذا نمط من الثوريين، طالما أَعتَبِرهم من السائرين على هدى إبراهيم كايباكايا والمجسِّدين لمقاومته في شخصياتهم. وقد وَلَّدَ أصلُه الأرمنيُّ لديّ شعوراً بقُربِه من القلب دون أن أدري لماذا. أعتقد أن هذا الشعورَ ينبع من كوننا ننتمي إلى الشعوب المضطهَدة والمتعرضة للإبادة. وإلا، فماذا عساه يكون السبب؟
أغلَب السجينات اعتُقِلن بتهمة السرقة أو الزنا أو القتل. أما الغجريات “صاحبات الصُّرّات”، فشِجاراتهنّ النهارية لا تُطاق بتاتاً! وأحياناً يبدأن بشدّ الشُّعور، وتتطاير الطناجر والصحون في الهواء، ويتبادلن الشتائم النابية، ليَجلسن بعدها على نفس المائدة ويتناولن الطعام معاً! إنهنّ صاحباتُ شبكاتٍ مافياوية كبيرةٍ لا تلجأ أبداً إلى السرقات الصغيرة. بل تُمكّنهنّ سرقاتُهنّ من شراء الكثير من السيارات أو المنازل أو سبائك الذهب التي تكفي لإعالتهنّ -هنّ وعوائلهنّ- طيلةَ مدة بقائهنّ في السجن. ولهذا السبب، يضطرّ رجالهنّ إلى إحضار الوفير من الطعام إليهنّ في السجن. هكذا، كانت تأتيهنّ أكثر الفواكه والخضار الموسمية نضوجاً ونضارةً، بالإضافة إلى اللحوم والفراريج الكثيرة. لذا، فقد كُنّ “آغوات” المهجع، وتعمل الحارسات من جهة والسجينات البائسات من جهة أخرى على مسايرتهنّ والتملق لهنّ، فلا يتدخّلن في شجاراتهنّ، ولا يتّخذن موقفاً ضدّهنّ.
حاولَت أولئك اللاتي ارتكَبن جناية القتل بسبب الأرض أو العرض أن يتوددن إلينا، في حين شكَّلَت المرتكِبات للزنا مجموعةً مختلفة. وفي المحصلة، فإننا نعيش في مكان واحد، وعلينا ترسيخ نظام معين، وإلا، فلا يُطاق العيش في السجن حتى ولو ساعةً واحدة. وبواقع الحال، فإننا مضطرّات لتنظيم حياتنا قبل كل شيء. لحِقَت بنا “سما” أيضاً بعد فترة. إنها من قضاء أدرميت، وقد عملنا معاً في مصنع باسمانه وطُرِدنا منه معاً. بل وكنا ذهبنا إلى قريتها أيضاً. فهي وأخوها وزوجة أخيها، كلهم من حزب التحرير الشعبي. إنها صادقةٌ وحميدةُ الخصال ووقورةٌ وتعتني بمَن حولها. ثم لحقَت بنا “سونا” التي تنتسب إلى اتحاد الشباب الثوري. وبذلك أصبحنا ستة معتقَلات سياسيات. ومع ازدياد عدد “السياسيات”، تبدَّلَ الجوّ في المهجع أيضاً.
أصبح لنا كومينُنا المشترك. ثم انضمّت إلينا بضعة نساء من أولئك اللاتي اعتُقِلن بجناية القتل. وضعنا لأنفسنا برنامجاً يبدأ من ساعة الاستيقاظ وحتى النوم. إذ نمارس الرياضة صباحاً، ونقوم بأعمالنا جماعياً، ونطالع الكتب، ونكتب، ونشاهد معاً -وبصمتٍ تامّ- نشرات الأخبار من التلفاز. قد لا يأتي زوار لرؤيتنا جميعاً، ولكنّ الجمعية ترسل كل المستلزمات باسمنا جميعاً، وتُودِعُ الأموال أيضاً باسمنا جميعاً. لم أنزعج من ذلك، بل على العكس، رأيتُه أنه ما ينبغي أن يكون. لكنّ الفتيات بدأن بالكتابة إلى الجرائد، وسألنَني إنْ كنتُ أودّ -أنا أيضاً- أن أوقّع عليها أم لا.
عندما باشرن بالكتابة بدأن يستَشِرنني بالأفكار، فكنتُ أقول أنه لن تَكون هناك مشكلة في حال كَتَبن الأحداث كما هي. أي، وبدلاً من إيضاح المشكلة من حيث الكم، فمن الضروري أن ينوِّهنَ إلى أنني من “ثوار كردستان”، حتى ولو كنتُ شخصاً واحداً. وإلا، فلا أرى من الصواب أن يُكتَبَ اسمي. وأكّدتُ لهنّ أنّ الاسمَ بِحدِّ ذاته لا يُعبِّر عن شيء، بل ينبغي الإشارة إلى ما أمثله، وإلى الهويةِ التي شاركتُ بها فعلياً في المقاومة.
وبعد أن ينتهين من كتاباتهنّ، نقرأها معاً، فأشير أحياناً إلى تحفّظي وانتقاداتي بشأن بعض النقاط، فيؤكّدن أنهنّ سيَقُمن بالتصحيح. فقد أبرَزن شخصيتي في بعض الأماكن، وذكرنَ أنني قمتُ بالريادة. ولكن، لا تتّضح في كتاباتهنّ معالمُ الروح السياسية التي أمثّلها، ولا باسمِ مَن أو بأيةِ هويةٍ قمتُ بذلك. بل إنهنّ يعكِسنَ ذلك وكأنني إحدى رفيقاتهنّ. بل وقُلن لي فيما يخصّ جريدتهنّ “تحرير الشعب”: “أنتِ أيضاً بإمكانكِ الكتابة، وسوف ننشرها في جريدتنا”. لكني ذكرتُ لهنّ أنه لا داعٍ لذلك.
ثم نُشِرَت كتاباتٌ أُلحِقَ اسمي أيضاً بها، في العددَين الحادي عشر والثاني عشر من جريدة “تحرير الشعب”. لقد نُشِرَت الكتابات وكأنني موَقِّعةٌ عليها. طلبتُ العددَين المذكورَين وانتقدتهنّ. أعتقد أنهنّ قد عكَسن الوضع ضمن إطار مختلف في العدد الثالث عشر، إذ ذكَرن فيه أنني ثورية كردية، وأنني شاركتُ بفعالية في الإضراب.
إننا في نفس الكومين، ولكننا في نقاش مستمرّ يتحول أحياناً إلى مشادّاتٍ كلامية تصل حدّ تبادل الشتائم السياسية. فهنّ يَتَّهِمنَنا بنزعة البورجوازية الصغيرة وبالتعصب القومي. أما أنا، فأتهمهنّ بنزعة الشوفينية الاجتماعية. لكنّ توصيفي ليس اتهاماً أبداً، لأن تيارهنّ متأثر حقاً بتداعيات العصبية الشوفينية. وأخص بالذكر أن كلثوم، المعروفة بـ”الفتاة السوداء”، والتي هي من مدينة مانيسا، تتسم بالعصبية الشوفينية الشديدة. في حين أن مخمورة وأسمهان هما أكثر اعتدالاً، وبمقدور المرء أن يناقشهما. وقد ساعدَت التقييماتُ التي في المجلة على المثابرة في نقاشاتنا.
زارني أخَواي، مَتو وحيدر، ثم أتى باقي وإيبو وآخرون من الأقارب للزيارة. أتى تشاتين غونغور (سمير) ذات يوم، فذُهِلتُ لزيارته -تماماً مثلما ذُهلتُ سابقاً لمجيء شاهين- وسُررتُ جداً وكأنني أطير فرَحاً. فأياً يَكُن، فإن الرابط التنظيمي أمر مختلف تماماً. لقد أتى تشاتين مع حيدر السروجي، فسَرَدا لي الكثير من المستجدات، وذَكَرا أن شاهين أخبرَهما برغبتي في العودة إلى الوطن. شرحتُ لهما تلك المرحلة، وأكدتُ أنني كنتُ قد جهّزتُ حقيبتي أيضاً، ثم أردفتُ: “لكني سآتي فور خروجي من هنا. سأستقِلُّ سيارةً وسآتي، حتى لو لم يأخذني أحد”. تكلمتُ لهما عن وضع المهجع، فضحكا كثيراً. لقد رأَياني في حالٍ جيدة وبمعنويات عالية. قلتُ لهما: “ما من جديد فيما يخص المحكمة. لكننا سنقول لهم أننا عمال، وأننا بدأنا الإضراب عن الطعام بهدف إيصال أوضاعنا إلى الرأي العام. وأننا سنتبنى ذلك النشاط”. وعندما لم يَبقَ ما نقوله قال تشاتين غونغور: “سنعود لرؤيتك”.
تحدَّدَ موعد المحاكمة، فحضر أخي حيدر والرفيق حيدر السروجي في الجلسة الأولى. ازداد حبي لأخي. فكم هو جميلٌ أن يَكون مهتماً بحضور الجلسة الأولى من المحاكمة. لقد وعدني بعد شجارنا الأول. إن اتحادنا هذا جميل جداً وتعبير عن الوفاء بالوعد. قلتُ في نفسي: “يبدو أن حيدر لن ينقطع عنا بعد الآن”.
ذهبنا، أنا وكلثوم، إلى المحكمة وقد ارتدت كلٌّ منا سروالاً فضفاضاً وعقدت على رأسها وشاحاً مزركشاً. ذلك أن ملابس السجن مختلفة عن ملابس المحكمة. استغربَت المعتقَلات الأخريات وموظفو السجن من حالنا. أما الآخرون، فخمَّنوا أنني ارتديتُ ملابسي الكردية عمداً ولهدف رمزيّ. بدأَت الشعارات والأناشيد الوطنية تصدح فورَ تَحَرُّكِ سيارة السجن، فلفَتَ ذلك أنظارَ الجميع على طول الطريق. ذلك أن أعضاء حزب التحرير الشعبي كانوا قد قرروا الحضور كمجموعة. وبما أنه سيَكون هناك وافدون من الخارج إلى المحكمة، فإنهم يرغبون في تحويل قاعة المحكمة إلى ساحة للاستعراض السياسي. وقد رأيتُ ذلك صواباً.
أَنشدنا الأناشيد الوطنية معاً. أما بالنسبة إلى الشعارات، فقد ردّدن هنّ شعاراتهنّ، وردّدتُ أنا شعاراتنا الخاصة بنا. وبالتأكيد، لم يَكُن بالأمر الجيد أن يُطلِقَ شخص لوحده الشعارات. ومع ذلك، فقد أَطْلَقتُها كلما رأيتُ الحاجة إلى ذلك. عجَّت الساحة أمام مبنى المحكمة بالمحتشدين. إنهم من مؤيدينا، وقد شاركونا ترديد الشعارات.. فهتفتُ: “يسقط الاستعمار!”، ودوّت هتافاتُ المؤيدين بهذا الشعار. ذهلتُ من المنظر، ونظرتُ إليهم، هاهو أخي حيدر، وحيدر السروجي، وبضعة أشخاص آخرين. سررتُ كثيراً. إذاً، أنا لستُ لوحدي.
جعلونا ننتظر في الطابق السفلي قبل بدء الجلسة، فباشرنا بغناء النشيد الوطني بدلاً من ترديد الشعارات. لم يتدخل العسكر. لكنّ الفضول بدأ ينتاب العاملين في المحكمة وآخرين ممن لديهم أعمال فيها، فنزلوا إلى طابقنا السفلي وحدّقوا فينا، إلا إنّ الحارس راح يمنعهم. استمرّت الجلسةُ فترة قصيرة. إذ سجّلوا بياناتنا الشخصية، وأخذوا إفاداتنا، وقرأوا لائحة الاتهام، ثم تأجلت المحاكمة، ورُفِضَ طلب المحامين بإخلاء سبيلنا. فنحن متّهَمات بالتظاهر غير المرخَّص وبالتصدي لعناصر الشرطة.
لقد وضّح المحامون أن الإضراب قانوني، وأن الهدف من الإضراب عن الطعام هو الإعلان عن حالات الطرد من العمل ظلماً وبهتاناً، وأن عناصر الشرطة وعلى عكس ما ذُكِرَ في لائحة الاتهام هم الذين مارسوا القمع، وأن آثار الضرب موجودة على أبدان موكِّليهم. أجل، ما تزال آثار الضرب موجودةً على أجسادنا بالرغم من مرور كل هذه المدة. لكنّ المحكمة لم تأبه بذلك، بل اتَّخذت موقفاً سياسياً، وركّزَت بصورة خاصة على الداعمين الخارجيين للإضراب.
إنها المرة الأولى التي أَمثُل فيها أمام المحكمة بهذا النحو: أن أُعَدَّ “مجرمة”، وأن “أُحاكَم”. ولكن، مَن الذي يُحاكَم؟ ومَن الذي ينبغي أن يُحكَمَ عليه؟ كنتُ قرأتُ سابقاً مقاطع عن جلساتِ محاكمة دنيز ورفاقه، وطالعتُ الكتبَ التي تتناول أوضاع المحتجَزين أثناء فترة انقلاب 12 آذار وتشرح ما عانوه من تعذيب. لكنّ كل ما قرأتُه حينها بقي مجرَّداً للغاية. أجل، كنتُ تأثرتُ عاطفياً بجوانب المقاومة والبطولة، إلا إن معايشة ذلك والتعلُّم منه أمر جد مختلف. إذ تتم مواجهتك بظواهر الدولة وقوانينها وقُضاتها وحقوقها. إذاً، فمعنى عبارة “العدل أساس المُلك” المكتوبة بالأحرف الكبيرة، ليس سوى تطبيق لكل ذلك من أجل منفعة الدولة. البعض من السجينات كنّ يَعرِفن المدّعي العام فحَلّلن الوضع أثناء العودة: “إنه فاشي بامتياز”. ولكن، هل الآخرون مختلفون عنه يا تُرى؟ يبدو أن الحياة تُعَلِّمنا هذا التمييز بنحو أفضل.
ردّدنا الشعارات لدى خروجنا من المحكمة أيضاً. كان صوت الحيدرَين جهوراً وحميمياً لدرجةِ أن الجميع تأثر بهما، فشاركَهما البعض من التيارات الأخرى أيضاً في ترديد الشعارات. أجل، كانا يرددان: “يسقط الاستعمار!”، في قلب إزمير، بل وأمام مبنى المحكمة. اغتبطتُ لذلك كثيراً. أما الآخرون، فردّدوا شعارَهم الذي يؤمنون بمضمونه الأممي: “لِتَكُن الأممُ حرةً والشعوب متّحدة!”، فردّدنا وراءهم: “نعم للوحدة الطوعية!”.
في الحقيقة، لم نتبارز في ترديد الشعارات. ربما لم نُطلِق الشعارات نفسَها، بل وشعرنا بالاستياء بنحو متبادل، لكننا تصرّفنا باحترام متبادل، وترَفَّعنا عن عكس هذا التناقض على مَن هم في الخارج، وراعَينا عدم اتّخاذ المواقف غير المناسبة. وعليه، فإن مواقفنا لم تستفزّهم. وبالمقابل، وعلى رغم عصبيتهم الشوفينية، فقد راعوا -هم أيضاً- إبداءَ التحمل والصبر في مثل هذه الحالات.
لَمّا عدنا إلى السجن، حاول موظّفو السجن أن يتعاملوا معنا بحذر أكبر وباحترام أكثر. فالحرّاس الذين رافقونا إلى المحكمة أتوا وباشروا فوراً بنقل الأحداث إلى زملائهم، وسردوا لهم تصرفاتنا والجماهير المحتشدة المؤازِرة لنا. وعليه، فكّرَ كثيرون منهم أنه “يجب الحذر منهنّ، فقد رددن الشعارات حتى في قاعة المحكمة”. ولعلّ تبدُّلَ مواقفهم إزاءنا، ولو قليلاً، يتأتى من ذلك. فهم يَعتقدون أننا نتحدى الدولة. وبالتالي، فإنهم يحتاطون لذلك، فيدققون أكثر في زوّارنا وفي أحاديثنا معهم، وكذلك في اللوازم الآتية إلينا.
تتحول كابينات اللقاء إلى يوم المحشر في أيام الزيارة. فالكابينات زجاجية. بالتالي، يصبح من العسير إيصال الصوت إلى الطرف الآخر بسهولة. فيضطر المرء إلى رفع رأسه حتى مستوى الثقب العُلويّ من الواجهة، والتحدث بأعلى صوتٍ لإسماع زائره. وبالطبع، تغدو تلك المحادثات مفهومةً تماماً من طرف الحراس. لذا، كنا نكتب الأمور السرية التي لا ينبغي أن يسمعها أحد على الورق كي يقرأها الطرف المقابل.