ترجمة خاصة|| أول إضراب عن الطعام.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 42)
لقد طُرِدتُ رسمياً من العمل، لكني استقَلَّيتُ الحافلةَ صباح اليوم التالي. استاء بعض موظفي المصنع، إلا إنهم لم يجرؤوا من ذُعرِهم على التدخل. لم أجلس، بل بقيتُ واقفةً وراء السائق مباشرةً. بدأتُ أتحدث مُخاطِبةً العمال، وشرحتُ لهم كل شيء، بدءاً من ظروف العمل في المصنع، وحتى موضوع النقابة والطرد من العمل والاستقواء بالبوليس:
“اليوم دورُنا نحن، وغداً سيواجِه الآخرون الوضع نفسه. إن صاحب المصنع يسعى إلى الربح، ولا يُضيّع حتى دقيقةً واحدة في تشغيلنا. لكن، وعندما نطرح بعض حقوقنا الأساسية، يطردنا من العمل بقوةِ البوليس. لن نقبل ذلك. نحن لسنا عبيداً، بل عمال. وعليه، فمن حقنا اختيار النقابة المناسبة، ومن حقنا انتخاب الممثلين الذين يمثلون إرادتنا. أما تمديد مدة العشرين دقيقة المخصصة للغداء، فهو من أبسط حقوقنا. ثمة اقتطاعات كثيرة من الأجور، ولا يصلنا منها سوى مقداراً بخساً للغاية، لدرجةِ أنه لا يمكن اعتباره عُربوناً حتى، وهو مقابل سدّ الرمق وإشباع البطن. إلى أين تذهب هذه الخصومات المالية؟ لدينا مشاكل كثيرة، ونحن قادرون على حلها بأنفسنا. سنبدأ اليوم بالإضراب”.
علا صوتُ التصفيق. لم يصفّق الجميع طبعاً، وهم ليسوا مجبَرين على ذلك. يبدو أنهم مترددون ولا يودّون خلق المشاكلِ ولسانُ حالهم يقول: “مِن أين ظهر هذا الإضراب؟”. فهؤلاء يذهبون إلى عملهم صامتين وبلا أية ضجة. لكنّ الميول العامة مهمة وتبعث على الثقة.
لن تجتازَ الحافلاتُ البوابةَ الخارجية للمصنع. هكذا كان قرارنا. فالعمال الذين سيَصِلون أولاً سيَسدّون الطريق أمام البوابة متكاتفين. أخبَرْنا السائقَ أن يتوقف. نزلنا من الحافلة، لكنّ البعض لا يودّون النزول، بينما بعضُ الذين نزلوا دخلوا سيراً إلى المصنع، وأغلب هؤلاء من الموظفين. كانت اللافتات قد عُلِّقَت، وبدأنا باستقبال الحافلات الأخرى بترديد الشعارات. ثم وصل الطبل والمزمار ما زادنا حماساً، فنهض البعض للدبكة. وفجأةً أتت حافلة مليئة، إلا إنها مرّت بسرعة واجتازت البوابة، فنزل العمال الذين كانوا فيها داخلَ حرم المصنع. هناك بعضٌ منهم ممّن يودون المشاركة معنا، لكنهم لا يجرؤون على المجيء إلينا.
اجتمع حوالي نصفُ العمال الذين يصل عددهم إلى الثلاثمئة وخمسين عاملاً، وذهب النصف الآخر إلى العمل. وعليه، لا يمكن اعتبار هذا العدد قليلاً بالنسبة إلى اليوم الأول من الإضراب، ومؤكد أن آخرين سيشاركون لاحقاً. إننا متفائلون، ولكننا نضع احتمال حصول العكس أيضاً. فإذا لم نستطع إشراكَ قِسم من العمال الباقين، فقد يظهر من بين المُضرِبين بعضٌ ممّن سيودّون العمل. علينا إصابة العمل بالشلل. فتشغيل حتى بعض الآلات سيزرع الثقة في نفْسِ رب العمل. كيف لنا أن نوجّه الأمر؟ لَمّا حان وقت الغداء، بدأنا بترديد الشعارات كي يسمعها العمال، وتحدَّثنا إليهم، ودعَوناهم للمشاركة في الإضراب.
التقَينا على مسافةٍ بعيدةٍ قليلاً بمجموعةِ العمال الجامعيين، الذين يقومون على حراسة الإضراب، ويتمنطقون بالمسدسات. فنحن واثقون من أن عناصر الشرطة سيتدخلون. لذا، أكَّدنا على ضرورة التحرك جماعياً. فالمنطقة ليست ملائمة كثيراً. إذ ثمة قناة مائية في أحد جوانب المصنع، وجدار عالٍ في الطرف الآخر، في حين أن المصانع الأخرى بعيدةٌ قليلاً. ونحن نقف أمام الجدار العالي على بُعدِ حوالي مئة وخمسين إلى مئتَي مترٍ من مدخل المصنع. وبمقدور البوليس أن يسدوا الطريق علينا من الأمام بكل سهولة. بدأنا بتناول الغداء الذي جلبناه معنا، والذي يتكوَّن من الزيتون والبصل والخبز. تناولناه على شكل مجموعات، وكلٌّ منا يتحدث إلى مجموعته، ويحاول جسّ نبض العمال فيها، ويشرح أهداف الإضراب.
هَمَّ العمال في الداخل بالرجوع إلى أعمالهم بعد فراغهم من تناول الغداء. بدأ البعض منا في تلك الأثناء بالتحدث إليهم ثانيةً، محاوِلين إقناعهم بالمشاركة معنا. إذ لا يفصلنا عنهم سوى حوالي خمسين متراً. تحدّثنا إليهم بصوتٍ عالٍ. كان الجميع محتشِدين أمام الأبواب ذات القضبان الحديدية، عندما أتت حافلة مليئة بعناصر الشرطة ودخلت الساحة مُسرعِةً، تلَتها سيارة ثم باص. طَوَّقَنا عناصرُ البوليس المحَصَّنون، ودخل المدنيون منهم إلى المصنع. وبدؤوا جميعاً بمراقبتنا، في حين شرعَ رب العمل وبعض الموظفين الآخرين بالإشارة إلينا.
جاء بعض الرفاق من العمال المخضرمين وحذّرونا: “من الأفضل أن تكونوا داخل صفوف المضرِبين. انظروا، فالبوليس يشيرون إليكم، وسيَعتَقلونكم أولاً. في حين لن يستطيعوا اعتقالكم بسهولة إذا كنتم بيننا”. أجل، إنهم على حق. ولكن، لن تسير الأمور على مايرام إذا لم نَكُن في المقدمة، وإذا لم نغامر ببعض الأمور. وعلى كل حال، فقد ارتبكَ العمال فور وصول البوليس. فإذا تراجعنا واختبأنا بينهم، فستتزعزع ثقتهم دون بد. كلا، سنتبنى هذه المقاومة مهما كان الثمن، حتى لو تطلَّب الأمرُ التصادم مع البوليس. هكذا سنتغلب على المخاوف.
واظبنا على ترديد الشعارات، غير غافلين -تلقائياً- عن التجمع كتلةً واحدة في الساحة. واستمر هؤلاء في تعريفِ بعضهم بعضاً علينا. وفجأةً هاجمونا. استهدفَني البوليس المدني من بين الفتيات، واستهدفوا علي وأكرم من بين الشبان. إن مخمورة وكلثوم أيضاً في المقدمة، أما عمران، فذهب ولم يَعُد فور بدء المقاومة. تعاركتُ لفترةٍ مع العناصر الممسكين بي. أما الممسكون بأكرم بجانبي، فيَلقَون الصعوبة في ضبطه. اتَّجَه اثنان من الذين يمسكون بي لمساعدتهم، فانتهزتُ الفرصةَ للتملص من ذراع البوليس الثالث الذي بقي ممسكاً بي، وركضتُ بكل ما أوتيتُ من قوة. لكني أدركتُ حينها أن هناك عناصرَ آخرين يطاردون الرفاق أمامي. وبمجرد اتّساع المسافة بيني وبين أولئك الذين يطاردونني، قلتُ في نفسي: “حسناً، لقد نجحتُ في التملص منهم”.
لَمّا هَمَمتُ بالانعطاف من الزاوية، أمسكَ بي أحد عناصر البوليس من الأمام، في حين قال عنصر آخر من الخلف وهو يدنو مني: “أَمسِكْ بقوةٍ بهذه العاهرة. إنها زعيمتهم. وقد ركَلَتنا أيضاً. سأُريكِ الآن”. وهاجمني هذا السافل مسعوراً. إذ أمسكَ عنصران بكِلتا ذراعاي، وراح هو يمسكني من شَعري، ويشد رأسي بإحدى يدَيه إلى الوراء مراتٍ متتاليةٍ مُوجِعاً عنقي حتى شعرتُ وكأنها شُلَّت، وراح يضربُ بيده الأخرى قدماي بالهراوة. يبدو أنه ينتقم من الركلة التي ألحقتُها به.
أتوا بي إلى أمام إحدى الحافلات، فقال أحد رجال الأمن وهو يمسك جهاز اللاسلكي في يده: “هل أتيتم بها؟ حسناً. كفاكم، فقد امتلأت الحافلة”. لم أتمكن من تقويمِ عنقي لبضعة دقائق بعدما أفلَتَ البوليس شَعري. قال أحدهم: “هيا، ادخلي”. على مدخل الحافلة من الداخل يقف عنصر عملاق كالمارد. وما أن وضعتُ قدمي على أول درجات الحافلة حتى انهال بهراوته على ظهري من الخلف وضربني ضربات عنيفة ولمرات عدة. سقطتُ من الضربة الثانية، فتدخَّلَ العنصر الذي يقف في الأعلى: “كفى، اتركها”. ثم قال لي: “هيا انهضي وادخلي”. لكني عجزتُ عن النهوض بمفردي، فأمسكوا بذراعي وأنهضوني. يبدو أن كل الحافلة تعجّ بالعمال بحيث يجلس شخصان على كل مقعد. هناك مَن ينزف الدم من أفواههم، وآخرون ينزفون من أنوفهم، وهناك مَن تورَّمَت عيونهم، وآخرون تشابكَت شعورهم وتبدلت هيئاتهم. تبادلنا الابتسامات عندما رأينا بعضنا بعضاً على هذه الحال. فاغتاظ أحد عناصر الشرطة من ابتساماتنا وقال ساخراً: “ستضحكون بالطبع. إنكم تضحكون من أحوالكم. انظروا كم أصبحتم جميلين”.
أخذونا مباشرةً إلى مخفر آلسانجاك، الذي يقع تماماً على شط البحر. يقارب عددُنا العشرين شخصاً. أصبح الطقس بارداً إلى أن وصلنا هناك، والمناخ في تلك المنطقة بارد أصلاً. ثم إننا كنا قد هَروَلنا هنا وهناك، وتعاركنا مع هذا وذاك، فتَصَبَّبنا عرَقاً، ثم تَحَوَّلَ تَعَرُّقُنا -مع الوقت- إلى شعور بالبرودة. وضَعونا نحن الفتيات في غرفة، وأرسلوا الشباب إلى غرفة أخرى. لقد أخذوا اللافتات المعلَّقة في ميدان الإضراب أيضاً. لم يأتِ أحد إلينا لفترة، فتناقشنا فيما بيننا وقررنا أنه: “لنا حجَجُنا بشأن الإضراب، وسنركِّز مراراً على قولها. لن نجيب على أي سؤال آخر، ولن نعطي أية معلومة تخصّ الآخرين”. كنا قد تهامسنا في هذا الخصوص في الحافلة أيضاً. وبالأصل، فإن البوليس اختارَ مَن سيعتقلهم عمداً، بالتالي، فإن المعتقَلين قاردون على إبداء مواقفهم. لكن، ثمة بعضٌ من العمال الذين لم يَعُوا بَعدُ جوهرَ المشكلة، إلا إنهم جميعاً أناس صادقون، ولن يُدلُوا بأية معلومات إلى البوليس.
كنتُ آخرَ مَن نادوه، وقد استجوَبوني في مكانَين مختلفَين. قرأوا اللافتات أولاً، ثم سألوا: “وماذا تعني؟”، فأجبنا: “معناها واضح”. كانت هوياتنا الشخصية بين أيديهم، إذ كانوا قد استلموها من المصنع. قال أحدهم: “أنا أيضاً عَلَويٌّ ومن تونجلي”. ثم أضاف: “إن قرية عرش الخليل قريبة، وأعتقد أنني أعرف هذه القرية”. وراح يمعن في الرقم الموجود على الهوية، وتظاهرَ بأنه يتذكره. لكنّ عنصراً آخر قال بنبرةٍ أكثر جديةً وصرامةً: “كلّ مَن أدلى بإفادته قال لنا: (إنّ زعيمتنا هي سكينة). هذا واضح من مظهرها. وهل هناك أحد من تونجلي وليس شيوعياً؟”.
تراجَعَ العنصر الذي من تونجلي، ووقفتُ صامتةً غير آبهةٍ بهم. سأل عنصر البوليس: “لماذا بدأتم بالإضراب بنحو غير قانوني وبغير رخصة؟ لماذا حفَّزتِ كلَّ هؤلاء العمال؟ أليس حراماً عليكِ أنْ قطعتِ أرزاقهم؟”. إنه يتكلم دون توقف، فقررتُ ألاّ أجيب على أسئلته إلا إذا سألَها بوضوح. وعندما انتظرَ الإجابةَ مني، شرحتُ له مطالبنا باختصار، وأوضحتُ أن تلبيتها هي من أبسط حقوق العمال، وأن الإضراب وسيلةٌ للتعبير عن هذه المطالب، وأنه حقٌّ من حقوقنا. وفيما يتعلق بسؤال الزعامة قلت: “لكلٍّ إرادته، ولا أحد يتزعم أحداً”. كانت مخمورة قد بدأَت العمل في المصنع قبلي، فحاولوا تأليبنا عى بعضنا بعضاً في هذا الخصوص. فعندما نادوها من بعدي قالوا لها: “أنتِ الزعيمة. وقد قالت عنكِ سكينة أنكِ زعيمتهم”. لكنّ مخمورة على علم بهذه الأساليب، فضحكَت -وهي أصلاً امرأة بشوشة- وقالت لهم: “ثمة إضرابات في كل المصانع. وللعمال ممثلوهم والمشرفون عليهم. وأنتم أيضاً تعلمون ذلك”.
بقينا تلك الليلة في المخفر، وأطلقوا سراحنا جميعاً في صباح اليوم التالي، فذهبنا معاً إلى المصنع، ووجدنا أسماءنا مكتوبةً على لائحة رسمية: لقد طُرِدنا من العمل. انتقلنا إلى مكان آخر كي نتحدث براحة، وتوجَّهَ البعض إلى بيوتهم. اهتمّت مخمورة بترتيب شؤون المنزل. ناقشنا الوضع، فأجمَعنا على ضرورة عكسِ هذا الوضع على الرأي العام للتأثير فيه واستمالتِه. ذلك أن خمسة وسبعين عاملاً طُرِدوا من العمل من دون دفع التعويضات لهم، وهو وضع لا يُستَهان به. وإذا لم نُبدِ الموقف إزاءه أو نفضحه، فستزداد حالات الطرد بلا رحمة، وسيؤثر ذلك سلباً في إمكانية تنظيم العمال. ثم طُرِحَ اقتراحُ البدء بالإضراب عن الطعام، فتناقشناه وتوصلنا إلى نتيجة بشأنه. ذلك أن أغلب المشارِكين في الاجتماع جاهزون لهذا الإضراب، وكلٌّ يقترح نفسَه. وفي المحصلة، قررنا البدء بالإضراب عن الطعام بأربعةِ عاملاتٍ وخمسِ عمال.
بدأنا باستعداداتنا على أمل إنهائها خلال يوم واحد، وذلك كي ننطلق بفعاليتنا حوالي الساعة الخامسة عصراً أمام نَصبِ “حسن تحسين” في ساحة كوناك. انبثقَت هذه الأفكار تلقائياً إلى حد ما، وصُقِلَت حصيلة نقاشاتنا المشتركة. وبالطبع، فإن مقاربات أعضاء حزب التحرير الشعبي غالباً ما تَكُون موَجَّهةً من التنظيم. وعليه، فإن كوادرهم قادرون على صنع القرارات، أو على تحويل مقترَحٍ كانوا قد ناقشوه سابقاً في التنظيم إلى قرار نهائي. وقد رأيتُ ذلك أمراً سديداً، وطرحتُ بالمقابل أفكاري ومقترحاتي الخاصة بي، وشاركتُ في النقاشات بكل ثقةٍ ودون أي خوف من أن أرتكب خطأً. كما لم أفكر حتى في استمالة أحدٍ إلى صفي. فالأحداث تجري بسرعة، واكتفيتُ بقولِ: “هذا صحيح، هذا ضروري وسنقوم به” في كلِّ موضوعٍ آمنتُ بصحته. إني واثقة من نفسي ومن مجموعة رفاقي في هذا الصدد. فمواقفهم إيجابية عموماً، وهم متشبثون بالمقاومة دون تردد. أما أعضاء الحزب الشيوعي التركي أو غيره فهم غير موجودين، إذ توارَوا عن الأنظار أثناء الإضراب، ولم يتبنَّوه.
ذهبتُ إلى المنزل حاملةً معي تعبَ وإرهاقَ يومين أو ثلاثة. جاء باقي ويوسف متين. بدأ الأخيرُ بالكلام بوجهه البَشوش الدافئ الودود الذي طالما عُرِفَ به. وسألني: “هل ضربوكِ كثيراً بالهراوات؟”، مؤكِّداً أن ما حصل لَم يَكُن أمراً اعتيادياً. كنا نناقش معه بحرارةٍ عندما أتينا حديثاً إلى إزمير. وكان الفرقُ واضحاً بين مكانته وآفاقه النظرية وتجاربه العملية من جهة، وبين ضعف خبرتي بالأمور التنظيمية وشحّ تجربتي في الممارسة الثورية من جهة أخرى. ومع ذلك، كنتُ عنيدةً وأستميتُ في الدفاع عن مجموعتي لاقتناعي بصوابها. لم تَكُن مقاربتي تنمُّ عن تعصب كردي ضيق أو فظ، بل كانت ذات مضمون ثوري ووطني. أجل، ربما لم أَكُن قادرة على تمثيل الحركة على جميع المستويات، لكني كنتُ أتطلع إلى الدفاع عنها بكل عزمٍ وإصرار، وإلى فعلِ كلّ ما قد يؤثر إيجاباً فيها. والآن أنا في إزمير، ولا أقتصر على تنظيم الكُردِ فيها، ولا أحصر علاقاتي بهم دون غيرهم. بل على النقيض، فإني أناقش مع الجميع دون استثناء، وأقف إلى جانب العمال برمّتِهم أثناء مقاوماتهم في المصانع.
قال يوسف متين كلاماً ثميناً. إذ أُعجِبَ بموقفي كثيراً، وأعربَ عن رضاه بقرارنا في البدء بالإضراب عن الطعام. وكأن هذا الشخص مختلف بين صفوف حزب التحرير الشعبي. لكنه اغتيل لاحقاً برصاصةِ غدرٍ في رأسه وفي عُقرِ دار التنظيم، تماماً مثلما حلّ بـ”متين يلدريم تورك”. وقد حزنتُ كثيراً عندما وصلني هذا النبأ.
مَن يقضي على مَن داخل حزب التحرير الشعبي؟ ليس جديداً هذا السؤالُ الذي طُرِحَ حينذاك أيضاً. فمَن قُضِيَ عليهم كانوا مِن الذين يؤمنون بالثورة الكردستانية أو ممّن يفرضون اتخاذ المواقف الصحيحة بشأنها. فقد اغتيل إلهان ومحمد علي أيضاً في عينتاب، وبنفس الطريقة. وعليه، فإني على ثقة بأنه ثمة الكثير من الأمور التي ينبغي مساءلتها في تاريخ الثورة التركية. يجب على الثوار التحقيق في ذلك دون بد. كان باقي حزيناً وهو يستشفّ المخاطر المحدقة. فقد أصبحتُ أبتُّ في كل الأمور، وأقتصر فقط على إخباره بالنتائج. وهذا هو أحد الجوانب التي أثرت فيه. أما الجانب الآخر، فهو شروعي في العديد من المجازفات. إنه كان يُسَرُّ بذلك ويشعر بالافتخار، ولكنه بالمقابل لا يستطيع إخفاء مخاوفه أيضاً في هذا الشأن.
لقد خرجت الأمور عن السيطرة، أو لِنَقُل: “انطلق السهم من الوتر”. إذ كنتُ خرجتُ من المنزل كي أناضل. وعليه، ما كان بمقدوري الارتباط بمنزل آخر. ربما لم أَكُن أنشغل به كثيراً، لكنّ الولوج بكل ما أملك في خضم الحياة والصراع أمر مختلف. فحتى لو أخطأت، فإني أصحح أخطائي حالَما أنتبه إليها، ولا أشعر بالقلق الكبير في هذا الخصوص. وفي الحقيقة، بمقدوري فعل أشياء أخرى أيضاً. فلو أن علاقتي مع الرفاق كانت بصورة مباشرة، لَكنتُ رأيتُ أخطائي بنحو أفضل وأسرع، ولَتَلافيتُها فوراً. الأمر الوحيد الذي يُقلقني هو فِعلُ ما قد يُناقض جوهرَ حركتنا. إذ إني أدافع حتى آخر رمقٍ عما تعلمتُه وعمّا أعلم يقيناً أنه يوائم نهجنا. ولكن، ماذا لو أخطأتُ في أمور أجهلها أو أخطأتُ في إدراكها؟ هذا ما يزعجني بين الحين والآخر. فإلى هذا الحد فقط أستطيع رؤية الأحداث، وأستطيع تقييم نفسي ضمنها.
إنه شهر آذار. وقد علَّقنا اللافتات في الجمعية في صباح اليوم التالي. إنها كنايةً عن قطعٍ من الورق المقوّى مكتوب عليها “تسقط الفاشية والفاشية الاجتماعية!” و”يسقط الاستعمار والإمبريالية والرجعية المحلية!” و”تحيا البروليتاريا والأممية!”، هذا عدا عن الشعارات التي تتضمن مطالبنا. وفيما يخص الشعارات التي كنتُ طرحتُها، فقد رفضوها في البداية بحجة أنها لا تندرج في لائحة مطالبنا وأهدافنا. وعندما أصرّيتُ على موقفي، وافقوا وكتبوها.
كنا قررنا أن تتواجد مجموعات خارجية مؤازِرة لنا في ساحة كوناك في تمام الساعة الخامسة عصراً. ذلك أن العمال والموظفين ينصرفون في تلك الساعة، فتعجّ ساحة كوناك بالناس وكأنه يوم القيامة، لاسيما من جهة النَّصب التذكاري. ارتدينا، أنا وكلثوم، ألبسةً تُظهِرنا كعاملتَين عاديتَين. إذ ارتدَت كلُّ واحدة منا قميصاً وتنورةً تحتها بنطال، وعقدَت وشاحاً مزركشاً على رأسها. أما مخمورة وأسماء، فلباسهما عادي. أتت كل واحدة منا من جهة مختلفة باتجاه ميدان حسن تحسين. وكلٌّ معه اللافتات التي سيحملها وحزمة من البيانات لتوزيعها. سيتم شرح كل المستجدات الضرورية مثل: أحداث المصنع وحالات الطرد ومداهمة البوليس والاعتقالات. وقد تقرَّرَ أن أتحدث أنا من الفتيات، وأن يتحدث أكرم من الشباب. صعدنا إلى جانب النصب التذكاري في تمام الساعة الخامسة، ونَصَبنا اللافتات المدعومة بقضبان خشبية في الأرض الترابية المرنة التي تعلوها الأعشاب النضرة. لم يأخذ ذلك من وقتنا سوى بضعة دقائق. وباشرتُ بالتكلم فوراً.
داهمَنا البوليس حتى قبل أن أُتِمَّ الجملة الأولى. أكملنا حديثنا بينما كان البوليس يجرُّنا جرّاً. وفي الأثناء، أُطلِقَت الشعاراتُ بين المتحشدين فهاجمَهم البوليس. الكلُّ واقف يتفرج، المشاةُ منهم والسيارات. وتبدَّلَت حالُ الساحة على حين غرّة. فالناس يتطلعون إلينا بفضول، وثمة مَن يتدافعون للوصول إلى المقدمة ومعرفة ما يحصل. شكَّلَ عناصر البوليس حاجزاً بيننا وبين المحتشدين، وانهالوا علينا بالضرب المبرح وهم يُقحِموننا في الباص. لكن الوضع أصبح مفهوماً إلى حد ما. فقد كنا كتَبنا على إحدى اللافتات “هناك إضراب عن الطعام!”. وكل مَن قرأها قد أدركَ الموضوع، علاوةً على ما كنا نتحدث به جميعاً، ولو بنحوٍ متقطع.
أخذونا ثانيةً إلى مخفر آلسانجاك، فاستقبَلَنا العناصر أنفسهم، وأخذوا إفاداتنا الواحد تلو الآخر. ومن بين كل اللافتات لفَتَت واحدةٌ أنظارَهم بالأكثر، ألا وهي تلك التي كُتِبَ عليها “تسقط الفاشية والفاشية الاجتماعية”. قالوا لي: “هذا من عملكِ بالتأكيد”. لكنّ النقاط على كِلا حرفَي الشين غير موجودة! يبدو أنها لم تُوضَع من العجلة، ولم ينتبه أحد منا إلى ذلك.
ما زلنا مواظبين على إضرابنا عن الطعام. وهم ركَّزوا على ذلك دون سواه: “فهِمنا الإضراب، واستوعبنا الشعارات. ولكن، من أين خرجتم بالإضراب عن الطعام؟ لماذا تؤذون أنفسكم؟”. ثم أصرّوا علينا قائلين: “سوف تأكلون”. ففي حين لم يُطعِمونا في المرة السابقة، فقد أحضروا الطعامَ لنا هذه المرة، برغم يقينهم من أننا لن نتناوله. إنه نوع آخر من الضغط! تحدثنا فوراً مع المحامين. نقلونا مساءَ اليوم التالي إلى سجن بوجا، قائلين بنبرةٍ تدلّ على أنهم اتّخذوا القرار حتى قبل بدء المحاكمة: “أنتم معتقَلون”.