ترجمة خاصة|| أول أيار في السجن.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة44)
ومرّت الأيام، واقتربت مناسبة الأول من أيار، فقررنا الاحتفال بها داخل السجن، وناقشنا الأمر. وعموماً، من الأنسب والأصح أن نحتفل بها وفق برنامج مشترك. يقال أن الاستعدادات شاملة للغاية في الخارج، وأن احتفالية إستنبول ستكون في “ميدان تقسيم”، وأنه ستشارك فيها كل المجموعات والتيارات. سُررنا جميعاً لذلك، وانتظرنا المناسَبة بكل فضول. ولكن، تُرى كيف سيُحتَفَل بها في كردستان؟ إذ أخمّن ضمناً أن الرفاق سيشاركون في احتفالية ساحة تقسيم من دون بد. إلا إنّ تدخُّلَ عناصر الشرطة مختلف في كردستان. أشعر وكأنه ستحصل اشتباكات هناك.
ارتدينا أنظف وأجمل ملابسنا في الأول من أيار، وأَرسَل الزوّارُ إلينا ورود القرنفل الحمراء، فوضعناها في المَطربانات، وجعلناها على الخزائن. أصبحنا جميعاً أكثر حيويةً. ثم اتّخَذنا شكلاً معيّناً نحو الساعة التاسعة، ووقفنا دقيقةَ صمتٍ في ساحة التهوية، تلاها ترديد الشعارات معاً. صدَحَت هتافاتنا في السجن، ودوَّت عالياً على رغم قلة تعدادنا: “عاش الأول من أيار!”، ثم رددناه باللغة الكردية: “Bijî Yek’ê Gulanê!”.
تابعْنا مشاهدةَ التلفاز بفضول. إذ تسرد الدولة تدابيرها الأمنية، وتبثّ هذه المشاهد بالأكثر، تتخللها أحياناً احتفاليةُ “ميدان تقسيم” والجماهير المتدفقة إليها كالسيل الجارف من كل الشوارع، رافعةً قبضاتها اليسرى إلى أعلى وهي تردد الشعارات. إنه منظر رائع وبهيٌّ يُشعِرُ المرء بحرارة الثورة، وينتابه إيمانٌ بإمكانية إنجاز الثورة بهذه الجماهير. ومن العدل أن أقول أنّ زميلاتي أيضاً متحمسات، يتظاهرن لكلِّ مشهد، ويحللن كل شيء، وحيويات جداً. شعرتُ بمزيد من الغبطة منهنّ ومن الجميع. إنها فرحة عظمى. فإيماني بالطبقة العاملة، وبالشعب التركي والثورة التركية قد وصل ذروته. تحمّستُ فكاد صدري لا يسع قلبي.
وبالمقابل من ذلك، ثمة حنين إلى الوطن يخلق لديّ الكآبة والحزن. ويبقى سؤالُ: تُرى، كيف ستكون الاحتفاليات هناك؟ عالقاً دون جواب. على أية حال، فإن احتفالية “ميدان تقسيم” تجذبني بشدة. كم هي سيئة هذه التكتلات الحزبية. فأحياناً يتّهمون بعضهم بعضاً، بل ويتصارعون على أمور بلا جدوى ولا تخطر على البال. في حين أن النضال المشترك بهذا النحو أجمل بكثير. في روسيا أيضاً لم يَكُن البلاشفة والمناشفة والنارودنكس والأنارشيون قِلّة. فهل من الواجب أن ننظر إلى هذا الكم من المجموعات في تركيا على أنه أمر طبيعي؟ ولكن، ما من قادة طليعيين هنا. فكلٌّ يقول: “نحن أفضل الثوار البروليتاريين”. ولجميعهم جوانب مشتركة على صعيد المقاربة السلبية من القضايا الرئيسية للثورة. ومن حيث المضمون، فما من فرق جوهريّ بين تحليلاتهم حول المصطلحات المعنية بشؤون تركيا وكردستان والاشتراكية. ولو أن الجميع احتفلوا بمناسبة الأول من أيار على أساس هذه المقاربات الخاطئة، فستتفجر التناقضات الثانوية حتماً. هاهي مخمورة تقول: “سيكون حسناً لو لم يلجأ تيار “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” إلى الاستفزاز. كان ينبغي عدم إشراكهم”. لَطالما نفرَ أعضاء حزب التحرير الشعبي من أعضاء الحركة الفكرية البروليتارية الثورية، وتعارَكوا مراراً في إزمير.
وعلى رغم بعض البرامج الأخرى، إلا إن التلفاز عرض مشاهد احتفالية “تقسيم” مطوَّلاً. كم هي مؤثرة هذه المناظر: العمال بملابسهم العمالية ومَرايِلهم وخُوذِهم، وكذلك مُجسَّمات المنجل والمطرقة. ويظهر بين الحين والآخر رئيس اتحاد النقابات العمالية الثورية، عبدالله باش تورك، وكذلك رئيسة الحزب الشيوعي التركي، بهيجة بوران. وأصيغُ السمعَ كلما أُطلِقَت الشعارات، متساءلةً عمّا إذا كان سيُطلَقُ شعار “يسقط الاستعمار!” أم لا. وأمعن في اللافتات جيداً، باحثةً فيها عن توقيعِ “ثوار كردستان”.
وفجأةً تسود الفوضى، فشاهدنا الأحداث كما هي، نظراً لأنها تُنقَل مباشرةً. بدأَت بعض النساء بجانبنا يصرخن، وأخرَيات يتأوهن أو يتأسفن. احتشدَت جميعهنّ أمام التلفاز دون أن يدركن ما يجري. نحن أيضاً لم نفهم تماماً ما يحصل، واكتفينا بالقول: إنه استفزاز. ويصرّح المذيع: “أُطلِقَ نارٌ من الخارج، من على سقفِ فندق شيراتون”. ثم عُرِضَت الأحداث وكأن اشتباكاً حصل بين المجموعات اليسارية. وتظهر المدرعات التي تَلِجُ الساحة، والناس المسحوقون على الأرض. إنها ساحة حرب حقاً! واضح جلياً الارتباكُ والفوضى، وكأن الرصاص يُطلَق من جميع الاتجاهات.
هاهي اللافتات والأعلام والملصقات التي تملأ الساحة، والتي يتطاير بعضها في الهواء. إنه منظر مروِّع، إذ تَحوَّلت الفرحة الكبرى والأمل الصاعد إلى قلق وذعر. إنها مجزرة بكل معنى الكلمة. فعدد الجماهير في الساحة يناهز الخمسمئة ألف شخصاً، والساحة باتت تحت رحمة النيران. ثم رشَّت المدرعاتُ الماءَ المضغوط، ودخان القنابل الدخانية قد غطّى الساحة وأَلبَسَها مظهراً مختلفاً. هاهو صوت الرصاص، وهاهي المدرعات التي تتوجه نحو الناس لتسحقهم علانيةً. أجل، إنها مجزرة حقاً، إنه استفزاز تام. ويصرّح المذيع بين الحين والآخر عن عدد القتلى، فيقول أولاً أنّ هناك عشرين قتيلاً على الأقل، ثم يرتفع العدد إلى الثلاثين، وأخيراً قال المذيع: “هناك ستة وثلاثون من القتلى، وعدد كبير من الجرحى”. والمحتَجَزون، حَدِّثْ ولا حرج! لكن، من بالغ الصعوبة تحديدُ أعدادهم وهوياتهم.
بدأنا بإرسال البرقيات إلى مهجع رفاقنا الشباب، ذكرنا فيها استحالةَ الوقوف مكتوفي الأيدي حيال هذا الوضع، وأردنا معرفة أفكارهم. وأخيراً توصلنا إلى قرار البدء بإضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، وإرسال عرائض احتجاجٍ جماعية. أي أن الإضراب عن الطعام يهدف إلى الاحتجاج على المجزرة الحاصلة. كتبنا عرائضنا في تلك الليلة، وبدأنا إضرابنا صباح اليوم التالي، وردَّدنا الشعارات في ساعات محددة: “حاسِبوا القتَلة الفاشيين!” و”شهداء تقسيم خالدون!” و”ستُحاسَبون على مجزرة الأول من أيار!”. هكذا كان احتجاجنا على مجزرة الأول من أيار.
ساد الصمت بين المعتَقَلات الأخريات في هذه الفترة، فما عُدنَ يتشاجرن أو يتبادلن الألفاظ النابية، بل اكتفَين بالتفرج علينا ليَعرفن كيف يَكون الإضراب عن الطعام. بقينا بالأكثر خارج المهجع، في ساحة التهوية، وليس معنا سوى الماء ومقدار معيّن من السكر لتحليته. نحتسي الماء المُحَلّى الموضوع في أقداح الشاي في ساعات محددة. وهناك مَن يدخّنّ طبعاً. أما الأخريات، فيتناولن طعامهنّ في المهجع، ولا يقتربن منا حينذاك. وحتى عندما نذهب أحياناً إلى المهجع، وتَكون إحداهنّ تتناول شيئاً ما، فإنها تخجل فتعمل على إخفائه أو رفعه. فمثلما يُعَدُّ تناول الطعام أمام الصائمين إثماً، فإنهنّ يَعتَبِرن ذلك إثماً تجاهنا أيضاً.
وعندما يشعرن بالفضول أو الاهتمام، يأتين فيجلسن بجانبنا، ويطرحن الأسئلة علينا، فنجيبهنّ ونشرح لهنّ الأوضاع. وبصورة عامة، فإنّ اهتماماتهنّ مختلفة، لاسيما أنّ هناك ثقافة مغايرة تتشكل في السجن، وتنعكس بنحو مستفيضٍ حتى على الإعلام البورجوازيّ. إذ هناك الإتجار بالنساء، والذي يجري بوساطة موظفي السجون. ويجري تأمين اللقاء بين اللواتي اعتُقِلن لأسباب أخلاقية كالزنا مثلاً، وبين أمثالهنّ من المتّهمين بنفس الجُرم. يجري عقد كل تلك العلاقات أو إيصال الرسائل مقابل المال حتماً. بل وتُدخَلُ حبوب المخدرات والقنّب الهندي أيضاً إلى السجن عبر هؤلاء الموظفين.
هناك بعض الحرّاس الذي امتهنوا ذلك بأفضل الأشكال، فيحصلون بهذه السبل على نقودٍ تَفوق روابتهم التي يتقاضَونها من الدولة بعشرة أضعاف. وتتشكل داخل السجن شبكة مافياوية قوية، فيصبح هناك أغوات من الرجال والنساء، ويعمل المعتَقَلون الآخرون على خدمتهم. تمتد هذه الشبكة من الحراس وحتى مدير السجن بل والمدّعي العام. ليس صعباً معرفة النساء اللواتي على هذه الشاكلة داخل السجن. أما نحن، فركَّزنا بالأغلب على تأمين التزامهنّ بقواعد الحياة المشتركة، وحاولنا بعد ذلك تناول ومعالجة مشاكلهنّ الأخرى.
من المستحيل سد الطريق أمام حصول السلبيات أو أن تُحَلَّ المشاكل بالحظر أو بالتدخل المباشر. بل على النقيض، فإن هذا الأسلوب يؤجج التناقض بين هؤلاء المعتقَلين، الذين يُشكّلون قاعدةً لا يُستَهان بها. وبخاصةٍ أنهم من كافة النماذج المتشكلة وفق الثقافة الرجعية والرعناء والحثالة في المجتمع، ويدافعون عنها كثقافة حياة راسخة. للجميع هنا مشاكله. بل وهناك مَن يحاول الانتحار حتى.
فالفتاة الشقراء الحسناء ذات العينين الزرقاوَين، حُسنية، هي من شعب اللاز، من إحدى القرى النائية في منطقة البحر الأسود، وهي نموذج مثالي عن هؤلاء. فأبوها كان قد باعها مقابل المال لتاجرةِ نساءٍ وهي ماتزال في الرابعة عشر من عمرها. اشتراها رجل باسمِ الزواج، وزعمَ أنه متزوج من امرأة أخرى. ثم بدأ ببيعها لرجال آخرين في عقر داره. نجحَت الفتاةُ بقتل الرجل بالتعاون مع ضرّتها. كِلتاهما الآن في السجن، وعلاقتهما غير حميمة، بل غالباً ما تتشاجران. كثيراً ما اهتمّت هذه الفتاة بنا قائلةً: “اجعلوني أنا أيضاً ثورية”. إنه في الحقيقة مجرد طموح. فالحرّاس أيضاً يهتمون بها كثيراً، ويعملون على استخدامها لأجل كسب المال. إنها امرأة حسناء فاتنة. بل وهناك رجال تقدّموا للزواج منها.
وانطلاقاً من عدة أمثلة ملموسة كهذه، هدَّدنا الحارسات، وحذّرناهنّ، وفضحناهنّ، فكَشَفنا النقاب بذلك عن حالات كانت مجهولة. هكذا أصبحت النساء يخَفنَ، فلجأنَ إلى السرية في ممارسة هكذا أعمال. وأخيراً، نجحَت حسنية في الانتحار بعد عدة محاولات فاشلة. علمتُ بعد فترة طويلة أنها جرعَت مقداراً كبيراً من الأدوية فماتت. حزنتُ جداً عندما قرأتُ هذا النبأ في إحدى الجرائد. وكم هي كثيرةٌ نماذجُ “حُسنية”!
شهد “معهد بوجا التعليمي” أحداثاً ذات يوم، إذ اشتبَكَ الفاشيون والثوريون، وتعاركوا بالسلاسل الحديدية والعصي والسكاكين. قرأنا هذا الخبر في الصحف. وفي منتصف الليلة التالية أتت ثلاث طالبات إلى السجن، فبقين في نفس مهجعنا. لكنّ أشكالهنّ لا تشبه ملامح الثوار. لم نصادف، أنا وكلثوم، مثل هذه النماذج من قبل. فلو أنهنّ كنّ ثوريات، لَكنا رأيناهنّ في مكان ما حتماً. ويزداد احتمال كونهنّ فاشيات، مع أنهنّ قُلن كلما سألناهنّ: “إننا يساريات”. لكن، يبدو أن إدارة السجن حذّرَتهنّ كي يَقُلن ذلك، وإلا “فسيَضربنَكنّ”، فذُعِرن، وقُلن ذلك. إنّ ملامحهنّ تشبه ملامحَ أولئك الذين تَلَقَّوا تدريب الكاراتيه أو التايكوندو. ونحن نعلم أن الفتيات الفاشيات عادةً ما يتلقَّين تدريباتٍ تُقوّي الجسم. تمازحنا فيما بيننا: “لكنهنّ لسن أفضل منا في الكاراتيه”، وحددَت كل واحدة منا هدفاً من بينهنّ. فنحن أيضاً نقوم بالتمارين الرياضية والتدريب على الكاراتيه كل صباح. ذلك أن مخمورة حائزة على الحزام الأسود في الكاراتيه، فبدأَت تُدرِّبنا عليها، فتَطَوَّرنا كثيراً.
كما إن اهتمام أخي الأكبر بالرياضة قد أثّرَ فيّ عندما كنتُ في المنزل. إذ كنتُ أتابع كل نشاطاته الرياضية. وكان قد انتبَهَ إلى التغير الحاصل في عضلاتي، فاغتاظ قائلاً: “من القبيح أن تَكون عضلات الفتيات هكذا. دعكِ من ذلك”، فما عدتُ أفعلُها. مع ذلك، فوضعي لابأس به. فمن الحسن معرفة ذلك، ولا ضير من استخدام هذه الإمكانيات في السجن. إذ طالما راعَينا عدم إفساد جمالية الجسم.
أخذنا الأمر على محمل الجدّ فقلتُ: “ما دامت هذه الفتيات الفاشيات قد ضرَبن الثوار في الخارج وأتَين إلى هنا، فلنَضربْهنّ نحن أيضاً ونُخرجهنّ من مهجعنا”. قَبِلَت الأخريات اقتراحي، مع تأكيدنا على عدم الاكتفاء بالضرب العادي. أخرجنا قضبان السرائر الحديدية، وقررنا شحذ أطرافها بالإسمنت والحجارة. أما أسياخ الصوف، فلم نَجِدها نافعة، ولم نثق بها كثيراً، على الرغم من جودةِ بعضها. فقد لا ننال النتائج المرجوة بها.
أجل، قضبان السرائر أفضل. فعلى الأقل، سننال النتائج عند الضرب بها. لكنّ شحذ أطرافها قد يأخذ منا وقتاً طويلاً فيلفت الأنظار. ونحن نرغب في تحقيق مُرادنا قبل أن يتَّخذن تدابيرهنّ. وقد نضيّع الزمن بالانشغال بشحذ القضبان قبل ضرب رؤوسهنّ بها، ونحن بغنى عن لفت أنظار الآخرين. قررنا أخيراً ضربَهنّ بأسياخ الصوف وبقضبان السرائر وباللكمات، كي يتلقَّين الضرب المبرح: “يجب ضربهنّ جيداً، وتَركُ أثرٍ عليهنّ، حتى ولو لم يَمُتن”.
بدأنا بعملنا. لكنّ الحارسة ذات الوجه الأحمر ماكرة وذات ميول فاشية. فالحيّ الذي تسكن فيه هو حي الفاشيين، ومؤكد أنها ستَحميهنّ. لقد جعلَت سرائرهنّ في أقرب مكان إليها. ثم إن إدارة السجن تُرسِلهنّ معاً إلى الحمّام وبرفقة الحارسة حصراً. إننا لا ننام عادةً إلا في ساعات متأخرة من الليل، فتناوبْنا الحراسةَ فيما بيننا. لذا، لم تنتبه الأخريات إلى مخططنا، ونحن أيضاً لا نود أن يشعر به أحد. لكنّ هذه الليلة مهمة، ولا نريد أن نُفَوِّتَ الفرصة. يبدو أنهن شككن في الأمر، فاتَّفقن على شيء ما في الحمّامات. إذ خرجَت الحارسة ثم عادت بعد برهة، واتّجهَت نحو الفتيات الثلاث. همسَت في آذانهنّ، وأخرجَتهنّ معها من المهجع سريعاً. حصل كل شيء في غمضة عين. لم نُخَمّن أبداً خروجهنّ في منتصف تلك الليلة. تأسفنا جداً على إجراءات الأمر الواقع السرية لهذه المرأة اللعينة. كان علينا أن نخنقَها هي بدلاً منهنّ. اغتظنا جميعاً من تفويت هذه الفرصة!
هجمْنا أربعتُنا على الحارسة عند عودتها، وهدّدناها: “أيتها الفاشستية، إنكِ تَحمين الفاشيين. ألَستِ مجرد حارسة؟ ستَرَين ماذا نحن فاعلات”. ذُعِرَت المرأة، فتوسَّلَت إلينا قائلةً: “لم أرغب في حصول شيء. لقد أدرَكنَ الأمر وقُلن لي: “أخرجينا من هنا. هؤلاء شيوعيات وسيهاجمنَنا”. لقد تَعرَّفن على كلثوم، واشتَبَهن في الأمر. قُلنَ لي في الحمّام: “أخرجينا”. فخِفتُ وأخرجتهنّ. لا تُسِئنَ فهمي. فلا أنا شيوعية، ولا أنا فاشستية. إني مجرد أرملة”. هكذا أرادت إثبات براءتها. ابتعَدنا عنها، وبقَينا غاضباتٍ نتحسَّر من عجزِنا وخَراقتنا طيلةَ يومَين. واضح تماماً أننا عاجزات حتى عن انتهاز الفرصة.
مرَّت الأيام بسرعة مليئةً بالتعقيد والتنوع، إذ لا نسمح بالرَّتابة فيها. استذكَرنا “ليلى قاسم” عندما أشار التقويمُ إلى يوم 13 أيار، وذلك بناءً على اقتراحي وموافقة الأخريات. وفي ذلك اليوم أرسَلَ أورهان باقر إليَّ ورقةً رسَمَ عليها صورةَ ليلى قاسم، والتي كانت قد صُوِّرَت أثناء إعدامها، وكتبَ عليها “ليلى قاسم لا تموت!”. كما كتبَ لي رسالة أخرى، وأرسلها مع الصورةِ إلى السجن باسمي. سُررتُ لذلك كثيراً. إذ كنتُ رسمتُ نفسَ الصورةِ على الجدار فوق سريري مباشرة. ذلك أنه وعندما بدأ الرفاق بالتواصل معنا، أهدَونا الكثير من الصور الجميلة، والتي كُتِبَت تحت كل واحدة منها عبارات رائعة، فكانت صورة ليلى قاسم تلك واحدةً منها. وكنا علَّقنا تلك الصوَر على جدار منزلنا مدةً طويلة. أجل، إنها صورةٌ تدلّ على إعدامِ فتاة كردية. كانت هي المرة الأولى التي أسمعُ بها، فاقشعرّ بدني، وشعرتُ بالألم يسري فيّ من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. لكني تعلمتُ منها بالمقابل إباءَ المرأة وبطولتَها في الصراع والحرب. فالكلماتُ التي تحدّثَت بها إلى جَلاّديها ذاتُ مغزى كبير ومعانٍ نبيلة، وكنا حفظناها عن ظهر قلب.
فمقابل قولِ العدو لها: “سنعفو عنكِ إن اعتذرتِ منا”، بَصَقَت على وجوههم وقالت ما معناه: “كلا! لن أستميحكم العفو أبداً. وإذا كان هناك مَن عليَّ أن أطلب العفو منه، فهو الشعب الكردي فقط، وذلك لأني لم أستطع أن أناضل كفايةً من أجله”. كانت ليلى قاسم أسطورة ملحمية وفتاة باسلة بالنسبة لي، وطالما تأثّرتُ بوقفتِها الأبية تلك وهي ممتشقة سلاحها ومتمنطقة حزامها المعبأ بالرصاص. المرأة والسلاح! المرأة والحرب! المرأة والقتال في سبيل التحرر الوطني! المرأة والموت! إنها ليست أموراً اعتيادية. قد تَكون الخصائصُ الطبقية للقوة التي انتسبَت إليها ليلى متنافرةً مع مكانتها البطولية ومتناقضةً مع وضعِها، ولكنها تُعَبِّر أيضاً عن حقيقة الواقع المُعاش. إذ على المرأة الكردية أن تحارب كي تتغلب على عبوديتها.
إنه تمرد على التواطؤ أيضاً، ولا يمكن إلا أن يَكون مؤثراً. وقد زادت أهميةُ فهمِ ليلى قاسم بالنسبة لي كلما غصتُ في خوض الصراع. إنها تمدّ المرء بالقوة والمعنويات العالية من خلال: طموحها في الحرية، ورؤية حريتها في حرية شعبها، ورغبتها في خوض الصراع ضد كل البنى الرجعية والإقطاعية بمقارباتها المتخلفة إزاء المرأة، واستشهادها على هذه الدرب. لقد قام رفاقنا، “ثوار كردستان”، بإشراك المرأة في أنشطتهم منذ البداية. أفليس هذا تَبَنٍّ ثوريّ للشهيدة ليلى؟ فالمرأة الكردية ستحتل مكانها حتماً وبفعالية في نضال التحرر الوطني. وبذلك فقط يمكنها نيل حريتها. ولعل هذا هو السبيل الحقيقي للتحرر والخلاص. وعليه، لا بد أن تتكاثر نماذج ليلى وتحيا، وأن تُحْيي النضال وتُنعش الصراع.
سردتُ في هذا اليوم كل ما أعرفه عن ليلى قاسم، وقرأتُ عليهم الرسالة التي بعثها الرفاق، وغنَّينا معاً بعض المقاطع التي ماتزال عالقة في أذهاننا، والتي تستذكر ليلى. إن استذكار الشهداء مقاربة ثمينة تُعزز لدى المرء الارتباط بهم، وتشحذ همَّته للمواظبة على التقاليد النضالية. فالوعد المُعطى لـ”ليلى” وللشهداء جميعاً هو دليل الالتزام. وباستذكارهم إنما يُزْكي المرءُ نارَ هذه العواطف النبيلة، ما يُعزز الروابط مع هذه القيم النفيسة، ويحث على تَمَثُّلها والسير على دربها والتحدث عنها، وكأنّ كِلا الأمرَين يشترطان بعضهما بعضاً.
كم أصبح شهر أيار مختلفاً! الأول من أيار، ثم الثالث عشر من أيار، ثم الثامن عشر من أيار. أجل، إذ استذكرنا إبراهيم كايباكايا هذه المرة في الثامن عشر من أيار. ولكن، أنّى لي أن أعرف أن رفيقنا العظيم والعزيز “حقي قرار” قد استشهد في نفس هذا اليوم؟ أجل في نفس اليوم! إن هذه الاستذكارات المشتركة جيدة. إذ لا بد من تبني الشهداء معاً. وبالطبع، فإننا نقدّم نقدنا الذاتي تجاههم أثناء استذكارهم، ونشدد على أن مقاربات “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا” و”اتحاد الشعب” من الشهداء ليست سليمة، وكأنّ كِلا الطرفَين غير قادرَين على تمثيل نهج إبراهيم كايباكايا.
كما أوضحنا أن كايباكايا كان قد طَرحَ المسألة القومية في عهده، وأن شكل طرحه ربما لم يتجاوز نطاق الميثاق المللي، لكن المقاربات التي اتُّبِعَت من بعده كانت رجعية للغاية. قرأنا معاً الرسالةَ التي أرسلها أورهان باقر. وعلى ظرف الرسالة كان قد وضع صورة كايباكايا التي طالما أحببتُها، والتي يعتمر فيها قبّعته. أمضينا هذا اليوم أيضاً بإنشاد الأناشيد الوطنية، وباسترجاع الذكريات المتعلقة بهذه المناسبة، والتي غالباً ما كنا سمعناها من الغير. ركّزنا في استذكاره بصورة خاصة على سرد كيفية اعتقاله في ديرسم وهو جريح، وعلى مواقفه البطولية أثناء التعذيب الذي عاناه في سجن دياربكر.