تحقيق جديد يكشف ملابسات مقتل “المسعفة الفلسطينية”
في الأول من يونيو 2018، لقت المسعفة رزان النجار (21 عاما) مصرعها خلال قيامها بواحدة من أنبل المهمات الإنسانية، وهي مساعدة المتظاهرين الجرحى ومحاولة إخراجهم من البؤر الساخنة، حيث يشتبك المتظاهرون الفلسطينيون مع الجيش الإسرائيلي.
فمنذ مارس 2018، يتجمع محتجون في المنطقة الحدودية بين قطاع غزة وإسرائيل، للمطالبة بحق اللاجئين في العودة، ولفك الحصار المفروض على القطاع.
وعادة ما تكون هذه المظاهرات سلمية، وفي بعض الأحيان يقوم محتجون برمي الحجارة أو القنابل الحارقة على الجانب الإسرائيلي، أو الاقتراب من الشريط الحدودي، ليرد الجنود الإسرائيليون بإطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع أو الرصاص باتجاه المتظاهرين.
وفي إطار تحقيق دقيق، قامت صحيفة “نيويورك تايمز”، بتحليل أكثر من ألف مقطع فيديو وصورة تم التقاطها في موقع التظاهرات قرب الشريط الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل، خلال الأول من يونيو، وهو اليوم الذي قتلت فيه النجار.
وكونت الصحيفة صورا جوية للموقع، تظهر مناطق التظاهرات ومدى قرب المتظاهرين من الشريط الحدودي في الأوقات المختلفة من اليوم، كما تم تكوين نموذج ثلاثي الأبعاد للموقع وللموجودين فيه، بمساعدة خبير جنائي.
كذلك قامت الصحيفة بتحليل الأدلة الجنائية، ونتائج تقرير تشريح جثة النجار، وأجرى مراسلوها حوارات مع أكثر من 30 شاهد عيان كانوا موجودين في الموقع وقت مقتل النجار، والاطلاع على مقاطع الفيديو التي التقطوها.
جميع هذه الأدلة، أظهرت بدقة كيف لقيت النجار مصرعها، وكيفية استخدام الجيش الإسرائيلي للقوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين.
شرح مفصل للموقع الحدودي
في تقرير “نيويورك تايمز”، قامت الصحيفة باستخدام تقنية الغرافيكس لشرح طبيعة الموقع الحدودي بين القطاع وإسرائيل، موضحة أن هناك شريطا حدوديا، يقع خلفه على الجانب الإسرائيلي، الجنود والقناصة داخل سيارات “الجيب” أو خلف سواتر ترابية.
ثم على بعد 40 ياردة على الجانب الفلسطيني يوجد سلك شائك، وخلال ذلك اليوم تواجد معظم المتظاهرين والمتفرجين على بعد 100 ياردة من الشريط الحدودي، وذلك بفضل الغاز المسيل للدموع.
ومع قيام مجموعة من المتظاهرين بالاقتراب من السلك الشائك ومحاولة قص أجزاء منه، وإلقاء قنابل حارقة فوق السياج، رد الجيش بالقنابل المسيلة للدموع بصورة مكثفة، ثم تصاعد استخدام الجيش للعنف.
وفي موقع آخر، قام بعض المتظاهرين بربط حبل في السلك الشائك وجره، وقام الجيش بالرد بالغاز، ثم نجح المتظاهرون في سحب سلك صغير وركضوا مبتعدين، وابتعد معهم معظم الموجودين، بمن فيهم المسعفتين لمياء ورزان، باتجاه أراضي القطاع.
ومع ابتعادهم، انتهت مظاهر العنف، خاصة بعد الإطلاق المكثف للغاز المسيل للدموع.
وفي تمام الساعة 6:31 مساء، سُمع دوي إطلاق نار بشكل مفاجئ، وسقط 3 مسعفين، هم محمد ورامي ورزان، التي تم نقلها للمستشفى وإعلان وفاتها في تمام الساعة 7:10 مساء.
حقيقة ما حدث.. لقطة بلقطة
وقامت “نيويورك تايمز” بتحليل مقطع فيديو للحظة إطلاق النار، وتجميد الصورة، وتوضيح أن 8 مسعفين كانوا في المكان المستهدف، ثم حولت المشهد لنموذج ثلاثي الأبعاد لاستيضاح حقيقة ما جرى.
ولمعرفة مصدر الرصاصة، تم رسم خط بين رزان ورامي، الذي كان أمامها، وكان الاثنان في مرمى الرصاصة كونهما أصيبا بشكل مباشر، ليصل الخط المستقيم إلى جنود إسرائيليين كانوا وراء ساتر ترابي خلف السياج الفاصل.
ولكن كيف أصابت رصاصة واحدة مسعفين اثنين بصورة مباشرة، وأصابت ثالثا بجروح؟.. السبب هو أن الجنود كانوا يصوبون بالقرب من الأرض ويستخدمون رصاصة كبيرة خاصة بالمعارك.
وأوضح خبراء جنائيون، أنه بإمكان رصاصة مثل هذه أن ترتد عن الأرض وتكمل مسيرتها، تماما كما يحدث عند إلقاء حجر على سطح الماء بطريقة معينة، ليرتد عن السطح أكثر من مرة.
وهذا هو ما حدث بالفعل، إذ خدشت الرصاصة فخذ رامي، فيما أصيب محمد الذي كان على مقربة منه، بشظايا الرصاصة في صدره، قبل أن تصل الرصاصة أخيرا إلى النجار وتخترق صدرها.
وشدد تقرير “نيويورك تايمز” على أن الرصاصة جاءت من على بعد 120 ياردة، مما ينفي وجود أي من المتظاهرين على مقربة من الشريط الحدودي، أو تشكيلهم “أي تهديد” للجانب الإسرائيلي.
تناقض في الرواية الإسرائيلية
وقال التقرير الذي صدر عن أحداث ذلك اليوم في الجيش الإسرائيلي، إن الجنود استهدفوا 4 أشخاص وأصابوهم جميعا، خاصة وأن قوانين الاشتباك، “تفيد بأن الجنود الإسرائيليين لا يطلقون النار إلا في حال وجود خطر، كرمي المتظاهرين القنابل الحارقة، أو محاولتهم قص السياج”.
إلا أن مسؤولا في الجيش الإسرائيلي اعترف في تحقيق “نيويورك تايمز” بأن قتل النجار كان “غير مقصود”.
كما أن “نيويورك تايمز” نجحت في تحديد الضحايا الثلاث في الفيديوهات، وكانوا جميعا قد أصيبوا في الساق تماما كما جاء في الرواية الإسرائيلية، إلا أنها لم تفلح في العثور على الشخص الرابع (وهو الضحية رقم 2 في الرواية الإسرائيلية)، خاصة وأن توقيت وفاته في الرواية الإسرائيلية يتطابق مع زمن وفاة النجار.
وقال الجيش إن الجنود “أرادوا استهداف رجلا كان يرتدي قميصا أصفر اللون، وكان يلقي الحجارة ويحاول شد السلك الشائك”، إلا أن الشخص الوحيد الذي كان يرتدي قميصا أصفر في أقرب نقطة من السلك، لم يكن يفعل شيئا، بحسب ما أظهرت مقاطع الفيديو التي نشرتها الصحيفة الأميركية.
وأضافت الصحيفة أن الشخص كان يقف بالقرب من 8 مسعفين، وكانوا جميعا على بعد 120 ياردة من الشريط الحدودي “ولا يفعلون شيئا”.
وبيّنت: “حتى إذا كان الشخص المستهدف يشكل خطرا، فإننا أجرينا لقاءات مع قناصة في الجيش الأميركي وقناصة سابقين في الجيش الإسرائيلي، وجميعهم أجمعوا على أنه في مثل هذه الحالة لا يجب إطلاق النار على الهدف لأنه يقف على مقربة كبيرة من المسعفين”.
وتابعت: “خاصة وأن إطلاق النار الذي قد يضع شخصا آخر غير الهدف في خطر، يعد بمثابة (قتل متهور) مما قد يمثل جريمة حرب”.
من جانبه، قال البروفيسور ريان غودمان، الخبير في جامعة نيويورك في قوانين الحرب، والذي كان مستشارا خاصا للبنتاغون بشأن جرائم الحرب وقواعد الاستهداف، قال إن ما يحدد ما إذا كانت الجريمة هي بالفعل جريمة حرب أم لا، هو ما إذا كان القناص “يدرك أن طلقته قد تضع المدنيين في خطر كبير أم لا”.
المزيد من الضحايا.. وقواعد اشتباك ثابتة
وأشار تقرير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى تصريح أدلى به قائد إسرائيلي كبير “للتايمز” في أغسطس، قال فيه إن ما بين 60 إلى 70 متظاهرا في غزة “قُتلوا دون قصد”، أي ما يعادل نصف العدد الإجمالي للقتلى في تلك المرحلة، ومع ذلك، فإن قواعد الاشتباك في الجيش الإسرائيلي لم تتغير، كما يقول.
واعتبر تقرير “نيويورك تايمز” أن هذا وحده “قد يشكل انتهاكا للقانون الإنساني الدولي”، فيما دعا خبراء إلى ضرورة تغيير قواعد الاشتباك في الجيش الإسرائيلي.