تجربة الفنان التشكيلي قيصر مقداد.. تجريد الواقع بكثافة رمزية ومحاكاة تتداخل مع اللون جماليا
بين الزحف الرمادي وظلال العتمة والبياض الكثيف وتوافقات الخطوط وتجريد الفكرة يرحل قيصر مقداد عبر خطوطه وأشكاله وتوليفاته، في المدن المبعثرة بشوارعها وأحيائها بمآسيها الداكنة وتلوثها وغبارها يبحث في عمق روحه عن آثار تعبث بتلك الكثافة المعتمة نحو أمل الانفلات الداخلي في عمق اللون.
يعتبر التشكيلي اللبناني قيصر مقداد صاحب رؤية تجريدية مفعمة بالتوافقات الفكرية بالبصريات المتنافرة بين الانتماء للفكرة والاجتثاث باللون نحو فضاءات أوسع بالأمل.
يحدّد خطوطه اللونية ليبعث فكرته من جديد حسب حركته الفوضوية كتمرد يجرد العناصر ضوئيا ويسردها لونا، حكايات بصرية تتشكل مع خصوصية الجغرافيا في الذاكرة ومداها في التذكر بتناسق هندسي يوظّفها حسب مزاجه ولغته الفنية وحركته المتمردة على التفاصيل اليومية بتنسيق لوني يتوحد مع الفكرة والمفهوم والرؤية.
فهو يفكك البنى المأساوية ببصرية لا تلقي توتراتها على المتلقي بقدر ما تلقي عليه توازنات تجريدية تحيل على إيقاعات وجودية المناحي الترتيبية، ذات الكثافات التجريدية من حيث الترتيب والتجاوب والاطلاع والأفق الخيالي والاستفزاز الذي يمسح ذهنيا تلك المشاهد في ذاكرة تجيد ترسيخ الجمل التشكيلية والسفر بها والرحيل الذي يجبرها على الانسلاخ من العاطفة ومن عتمتها وفوضاها الحسية بعبور ذهني نحو نورها بالمرور عبر الضوء والتشكيل اللوني الذي يتمازج بشكل متفرد مع الرمادي والأحمر والازرق وكأنه يقتلع الحياة من سوادها.
الخطوط المرئية والانفعالات الماورائية والاسترجاع الداكن يوجه فلسفة مقداد الوجودية والجمالية التي تسعى للتغلب على الفراغات الجامدة بين كل العناصر بحثا ونبشا وتشكيلا واسترجاعا بتجزئتها التي تحيل على تكاملها معا لتكوّن الصور المشتهاة من العمل والمفهوم المقصود من فكرة الجغرافيا المفصلة تشكيليا حسب التتابع الذهني الذي يشغل الفكرة.
فيتفاعل مع اللون لتكوين جمل بصرية من خلاله ويستقي منها حكايات المدن ويلقي من خلالها سلامه الداخلي وانبعاثه المرئي على روحه العابرة من الغبار والتلوث من الحيرة والتناقضات بقوة لونية خطية أفقية ترتقي أبعد بالصور ومتوازية تحتوي أكثر الخيال المتفجر مع الضوء في ألوانه وعناصره المفتتة والمتراصة مرة والمتباعدة مرات بين تلطيخات لونية مبعثرة تحاول أن تكتسب دورها عشوائيا في الأمكنة.
الخطوط التي تقسّم الفراغات والكتل الملونة بتكسراتها وتعاريجها وتفاصيلها تحاول ترسيخ الفكرة على الأمكنة وتسعى إلى الاشتغال على ثباتها بتحريكها فكرة واستنطاق الذكريات من جمودها والتحول بها من كل ثقوب الألم إلى انبعاثات الأمل صورا ومشاهدات لها حركتها وحركيتها عند التلقي.
لقيصر مقداد مفاهيمه وعمقها المنفلت بصريا عند العرض والتشكيل والترتيب والفوضى المتناغمة مع كل حركة من حركات يده وريشته وألوانه بالمعنى والمفهوم العقلاني الواعي والخيالي اللاواعي إيقاعات درجاتها تلامس حالات التجلي التشكيلي التي يعيشها ويرتحل عبرها في مدنه التي تسكن واقعه وذاكرته وذكرياته، بأحداثها بصمت سكونها وصخبها المتفجر مع كل عناصر الحياة والموت، بتناقضاتها الحسية والذهنية خطوطها تقسيماتها دفئها البارد وبرودها الحار وغبارها الرمادي والترابي، فهو يثري بحثه التشكيلي عن ذاته المعتقة بالتذكر والاسترجاع، حتى يحاكي به واقعه الحاضر في مشاهد ترسخ في ذهنه فمرة يستقي منها الكتل وأخرى الخطوط باندفاعات وتصاميم تستفز القارئ للبحث عن رمزياتها بجدليات تلقي بكل دلالاتها أعمق في الفهم والتوافق الفكري والتناقض الحسي.
فاللغة البصرية التي يحكيها مقداد ترتكز على عناصر استثنائية لها هندساتها وتبايناتها مع اللون والمعنى الذي يتناغم في بحثه الدائم عن السلام والانتصار الحياة والأمان فرغم الموت هناك استمرار ورغم التلوث تبقى الطبيعة في تصميمه بتآلفات أسلوبية اندماجية تأملية تتجوّل بالمتلقي داخل مساحات تشبه لغة روحه وحضوره في الخارطة بتصور يبنيها مع التفاصيل الساكنة في واقع الحدث.
إن الأعمال الفنية والتشكيلية التي يقدمها مقداد تتفاعل داخل مساحات لوحاته لتكوّن فضاءات تحتل ذاكرة اللون في حركاته ومنافذه وبؤر التدفق المتناغم للفكرة فكل عنصر انعكاس وكل نقطة لون حركة واستنطاق يحاور استيتيقيا الفراغ في المكان وزحمة التداخلات في ذهنه البصري فيتجرد من حدود الأمكنة وينساق أكثر في المدن بحثا وتشكيلا ليصبح لمدنه الدور الرئيسي في اللوحة والمنجز.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum