تجربة الفنانة “علا عباس” من الفكرة إلى اللقطة.. رمزية الصورة وفلسفة التعبير الفني الجمالي
كتبت.. بشرى بن فاطمة
انفتحت الفنون التشكيلية والبصرية في المراحل المعاصرة على سلسلة من التطورات والمواكبات التي ألقت بها في ابتكارات متعددة أهمها التركيب البصري الرقمي وفنون الديجيتال والتصميم والأداء وفن التصوير الفوتوغرافي الموظف والواقعية المفرطة التي تشكلت مع هذه النهضة الفنية والتي بدورها أسست لقواعد جمالية متجددة، فتحوّل انطباع الصورة وهدفها من التوثيق إلى الجمال الفني الذي يُخضع اللقطة إلى مضامين فلسفية وجودية واقعية ورمزية تمزجها وترتبها وتثير فيها كل الفوضى لتعبر بدرجاتها البصرية ورؤاها وهو المسار الفني الذي تقدمه الفنانة البصرية السورية علا عباس في توليفة تجمع الفكر والحرية والانعتاق نحو ماورائيات الصورة.
فالتصوير عندها لا ينفصل عن البناء والترميم الهندسي الجمالي الذي انبثق وتماهى تشكيليا مع دراستها الأكاديمية لفن هندسة العمارة التي تعتبرها كتخصص شكّلت منفذا قادها لتكوين نظرتها الحداثية المنبثقة من القيم الكلاسيكية لفكرة الوجود والخلود والجمال.
فقد خضعت علا لكل أنواع التجريب الفني في تشكيل مسارها التعبيري منذ طفولتها حيث عشقت الرسم ومارسته بشغف والنحت والعمارة والتصوير الضوئي والفوتوغرافي ومنه اختارت مسارها نحو فن الصورة والمفهوم وفلسفة المحو والتثبيت وسرد الفكرة بصريا من خلال الاسترجاع والاستشراف بين العلامة والرمز والمجاز والدلالة والمعنى فتماهت مع الحلم الواقعي في تنفيذ مشاريعها التصويرية.
تدعو الأعمال التي تقدّمها علا إلى التأمل في التفاصيل التصويرية والعلامات والرموز التي تمكن من الغوص في عدة ملامح افتراضية تتجاوز الشكل نحو الفكرة تبدأ من الذات الإنسانية من مراحل التطور الادراكي نحو التفاعلات والانفعالات في الحياة فتعالج الفكرة وتُخضع كل عناصر الصورة إلى تماس الألوان في تراتيل تهمس بالتواصل الادراكي والحسي الذي يخترق الأبعاد السطحية نحو ماورائيات التعبير التي تحرك التفاعل الذهني وتستفز للتفكير الأبعد.
تقول علا عن تجربتها “ساعدني تخصصي في مجال العمارة كفلسفة وفن وهندسة وهذا الاختصاص ارتقى بشكل تقني بفكري الفني، فقد تمكنت بمزج هواية التصوير وما تعلمته في العمارة -كاختصاص أعاد تشكيل رؤيتي للضوء للمادة للملمس للصورة وأبعادها-من البحث والنبش في اللامتوقع وهو قمة المتعة والاثارة التي تنتاب فكرة الصورة المختلفة تلك التي أبحث عنها فأنا أريد أن أرى الحياة من زوايا غير مألوفة وهذا بلور العمق في عناصر الفكرة المصورة التي أطوّعها في السرد البصري لأنفذها في برامجي ومشاريعي.
فشغفي بالفنون الجميلة فسح لي المجال لتعديل الصورة التي أطوّعها حسب الفكرة لتخرج عن النطاق المألوف في الأنماط التصويرية الأخرى فالفكرة وليدة اللحظة ولكن بحثي في الفن البصري حولها إلى فكرة لوحة ذات مفهوم تشكيلي جمالي عبر اللقطة والصورة أصبحت الكاميرا ريشة وتقنية تشكيلية فالصورة النهائية هي تعبير وفلسفة واختيارات جديدة غير مألوفة تتحمل الكثير من الرموز والأفكار والقراءات.”
إن فلسفة الصورة في فن علا عباس خرجت من قيم التسجيل والتثبيت لتتحوّل إلى فكرة تتحمّل الأبعاد الخاصة بالتعبير في أساليب التجريد والترميز فقد أخضعتها إلى تقنياتها البصرية وأدواتها الجمالية فحوّلتها من وثيقة إلى رؤية ومرايا تعكس ما تخفيه ثنايا الذات من أفكار وأحاسيس وهو ما ميّز التوجه الحداثي مع الصورة التي أصبحت تخضع لسرديات بصرية دقيقة في ترتيبها وفوضاها وتسلسلها المرحلي.
والتصوير في بعده الفني والجمالي كما يتجسد في أعمال علا يعتمد على الشكل والتكوين البصري كفكرة تدمج الخصائص اللازمة للمنجز تماما مثل اللوحة يعني البعد الهندسي المساحة اللون والضوء التفاعل النمطي التنسيق والتماسك والأفق التعبيري والجوانب الحسية والادراكية والتفاعلية، فالتصوير يحمل الفكرة ورمزياتها ويخلق التآلف بينها وفق الجوانب الفنية عند التقاط الصورة حيث يعالجها العقل وتلونها الحواس بتناغم موسيقي منفعل ومتفاعل يكسر الرؤية الكلاسيكية ويفجر المنظور الجمالي بالمواقف التركيبية مع الصورة وتلقيها لتحمل التأثر الذاتي وتعكسه على الآخر باعتبار أن المصور الفنان يعلم تماما كيف يحرك العلامة الجمالية بصدمة فكرية أو ذهنية لتوافق بين الخيال والواقع.
“الخلق في الفن هو إبداع يحفر خطا جديدا فالتوثيق اللحظي لا يعبر عن الجمال الفني المقصود في الفكرة لأن الفن هو إبداع يخلق فضول التفكير كاستفزاز ذهني، التوجه الذي أبحث فيه عن الجمال في كل تفاصيل الصورة التي تجذبني الإضاءة والمشهد الذي يحمل المعنى فالحداثة في توجهي قادت التصوير إلى الفنون الجميلة يعني رمزية الأشياء هي أهم عنصر قائم عليه فرمز الشوكة يحيل على الشر والتداخل في التركيب التفاعلي في المجتمع يطرح الفكرة المتتالية كسرد بصري أو قصة مرئية كما في عمل “الثلث الثالث”.
تتكامل عناصر الوجود في التعبير التصويري عند علا عباس فالأداء الذي تقدمه في الأعمال يطرح مفهوم الحياة وتسلسلاتها القائمة على التطور فصورة المرأة تثير كل جوانب الحياة والمشاركة وعنها تقول “صورة المرأة هو ما أشعر به معاياشاتي من كل ما ينتابني في الأحاسيس والحلم والتجارب كل ما ألتقطه في نفسي في المجتمع”.
إن صورة المرأة هي ثبات الفكرة وتوليدها الخصب المضيء الذي يراكم التفاصيل الملونة في الحياة حيث يوافق الرمز دلالة العلامة ويتشكل مع المعنى ذاكرة وحضورا تناقضات تثبت الكيان وجدارة الوجود.
في تجربة “الثلث الثالث” قدمت علا عباس مفهوم الحياة ومراحلها بفكرة متجددة الرؤى ارتكزت على الأداء التصويري الذي تعامل مع الجسد وعلاقته بالمحيط والآخر منذ الولادة إلى الفناء خطواته وآثارها الملونة التي تتكون وتتعقد تتشابك وتتداخل تتكاثف وتنفصل في حركة روضتها بجمالية وحرفية في تفصيل تناغماتها بنعومة وحدة حتى تصل إلى عمق الفكرة وتطرحها بتأمل يستثير الفكرة للتساؤل الوجودي.
“ولدنا لنلعب ونكتشف ونحلم لنخاف ونتردد ننجح ونخسر نحب ونكره نتبادل العطاء نتنفس الهواء والأمل نتفاعل في فكرة البقاء والفناء الحياة والموت وتلك خصوصية الثلث الثالث حيث الجسد يحمل تلك اللغة التي تعني الحياة فهو الذي يقودنا لتلك التغيرات والتفاعلات والاختيارات في الانسجام والنفور فهو الصديق الذي لا يكذب عند الحضور والغياب فالخطوات هي التي تخلق المسار والاختيار ومنها حملت الصور مفهومها ورمزيتها.”
لا يمكن التمعن في أعمال علا عباس دون التورط في السؤال وإثبات التأثر الذي يفجر المعاني المتدفقة من زوايا البحث فكل لون وشكل ونقطة ضوء لها معناها الموظف وحركتها المشاغبة بأمل يخترق منافذ الذات وهو ما يثيرنا لنبحث داخل كل منجز عن صورنا وعن أي تفصيل يشبه ذواتنا في تناقضاتها الحسية بين القلق والمرح.
*الأعمال المرفقة
-متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
-مجموعة “الثلث الثالث” للفنانة علا عباس