تجربة التشكيلي الفييتنامي “لانغ نغوين” شمولية الموهبة توحّد جماليات إنسانية تخترق حواجز المسافات والاختلافات
كتبت.. بشرى بن فاطمة
للحروب أثرها النفسي الذي يؤثر على الأفراد والمجتمعات فهي تفاعلات سلبية تترك في الذاكرة ثقوبا تنفذ نحو الماضي، لتتشكل في الحاضر صورا ومسارات تتحدى العتمة الى نور الأمل الباقي، وهو ما حدث في تجربة الفنان التشكيلي الفييتنامي العالمي “لانغ نغوين” الذي يعدّ من أبرز المهتمين بالفنون البصرية والتعابير المعاصرة في منجز اللوحة أو في النحت من خلال المفاهيمية والتجريد البحثي والأسلوب التجريبي الذي يحفز الحواس ويستنطق الذاكرة وينتشلها من عمق التأثر إلى احتمالات التأثير ومن إشكاليات الحروب وجمودها إلى حيوية البحث عن منافذ للروح والجمال والبحث والإنسانية بكل احتمالات البقاء والوجود حيث يقول “إن لحرب الفييتنام دور مؤثر في حياتي ومنفذ ساعدني على التعبير الفني وصقل شخصيتي هي صور طفولية حملت المأساة من عيني إلى ذهني ومن ذهني إلى حلم الواقع بالأمل”.
ولد نغوين في “نها ترانج” بفيتنام في عام 1958، فرّ مع عائلته هربا من هول الدمار في بلده الذي مزقته الحرب في منتصف السبعينيات.
استقر بالولايات المتحدة الأمريكية حيث حصل من كلية “كريستيان برذرز” في ممفيس على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية، ومن جامعة سان خوسيه تحصل على الماجيستير في الرسم سنة 1985.
ومنذ عروضه الفنية الأولى لفت نغوين الانتباه إليه كرسام حمل فلسفة خاصة وانتماء عميقا شدّ إليه أهم تشكيليي الولايات المتحدة الأمريكية مثل “ناثان أوليفيرا”، “إلمر بيشوف” و”جواني نورثروب” الذي قال عن أعماله “إن السمة الأعمق التي تتمتع بها هي إيمانه المتجلي إحساسا بالقوة التعبيرية المقنعة للفن.”
يعتبر لانغ فنانا بصريا شاملا فهو رسام ونحات وممثل شارك في اثنتي عشر فيلما روائيا وعروضا تلفزيونية حصل على عدة جوائز تقديرية كأفضل فنان وممثل عن دوره في فيلم “رحلة السقوط” وفيلم “أبسارا” في مهرجان كاليفورنيا السينمائي المستقل.
في سنة 1991، حوّل نغوين تركيزه الجمالي لفيتنام وبدأ المرحلة الصفراء “حكايات البشرة الصفراء” التي استلهمها من أغنية فييتنامية قديمة مناهضة للحرب عنوانها “الفتاة الفيتنامية ذات الجلد الأصفر”، والتي تحكي قصة فتاة قروية صغيرة قتلت برصاصة طائشة، تصف الأغنية تدفق الدم فوق بشرتها الصفراء الطفولية وتعبر عن الموت الذي يختطف الحب والطفولة من الحياة، من معاني هذه الأغنية استعاد لانغ ذاكرة وطنه استعاد الظلال المتفجرة من اللون الأصفر وبدأ العمل على لوحات قماشية مع تراكيب متناثرة إلى حد ما وخصائص المناظر الطبيعية البدائية التي حاكت طبيعة اللون بعناصر تواصله مع الأرض والانسان وواقع الدمار.
يواكب لانغ في منجزاته الفنية تحولات الصور والمشاهد التي يحاكيها بصريا عبر خياله، تلك التي ساهمت في ترك آثار متنوعة التعبير على رسوماته ومنحوتاته.
فالتعمق فيها سرد لواقعه ووجوده كفيتنامي عايش أحداث حرب ودمار مادي ونفسي في بلاده، انفتح من خلال كل تلك المشاهد على العالم بجدارة حياة وبقاء كرحلة بدأت من فكرة الفناء إلى تحديات البقاء التي ميزته يقول عنها “إن الأوضاع الصعبة تُأثر ولها فوائد تُحوّل المعاناة إلى إبداع إلى تحد يجعلك تفتح الأبواب تستنجد بحواسك وطاقتك وإبداعك فتبحث وتتعلم وتخرج من قوقعتك إلى العالم ويصبح التجريب عالما مفتوحا على الثقافة المتنوعة التي لا تلغي عنك خصوصيتك التي ترسم بها مسارات تميّزك”.
التأمل في تجربة لانغ التجريدية ومفاهيمها التعبيرية ينساق إلى منافذ الغموض والدهشة والاثارات الصاعدة بالأمل بشكل عفوي يتحدى الصمت والصعوبات “ليس بالأمر الهين أن ينجو الانسان من حرب من موت وفناء إنها فرصة لتتسع العين على متاهات أكثر تشويقا تراوغ الحياة”.
يرى لانغ أنه في لوحاته يطوّع الصورة وما يترسب في الذاكرة لأنه من خلالها يفجر الإحساس الدافق من كل لحظة درامية أو انبعاثات أمل يحرّك بها المفاهيم نحو أفق أرحب في تقبل يتماهي مع التفاعل الدرامي لأن التمثيل علّمه كيف يتقمص دور كل عنصر من عناصر اللوحة أو المنحوتة لتتكامل في الخلق والابتكار مرتّبا الفضاءات والأطر والسياقات الزمنية مع التطور الذي يخضعها لدرجات التكامل والتصور، فكلما نمت الفكرة في الخيال نمت الموهبة وصُقلت الشخصية الفنية، وتلك القواعد الأولى التي يخاطب من خلالها منجزاته كفلسفة تُروّض طاقته الحسية والفكرية واللونية والتركيبية.
إن الاعمال التي ترافق تفاصيل الذاكرة عند لانغ هي منافذ نور تكسر الضوء فلوحاته تتمرد على التناقضات وهي تبحث عن منفذ يحيد عن الانحناءات والخطوط ليجادل الهدوء في صخبها ويحررها من الماضي فيحوّل الذاكرة إلى علامات لها دلالتها الإبداعية فهو لا يعيش الماضي بقدر ما يتوافق معه ويحمله الى مسارات مستقبلية ترتب الفوضى باللون الذي يسرد الطبيعة بمواسمها في الألوان الترابية والحارة والباردة في نقاط الضوء التي تملأ الفراغ عواطف تفلت من الاحاسيس بذاتها المتوافقة مع الأزمنة.
التميز في مفاهيم البحث عند لانغ هو التحول من الصدمة إلى الحكاية تروي بالألوان والتشكيلات البصرية حياة لاجئ في زمن الحرب بلغة مكثفة الرموز التي تتمثل في لون البشرة وتفاصيل الحياة والطبيعة القوارب والرؤوس المبتورة والأرض والأيدي المقطوعة التي تبحث عن النجاة تحاول أن تخترق حدود الجغرافيا لتسرد قصص المعاناة للعالم بكل احتمالات الحواس الخمس وأبعاد التلقي من خلالها بتجريدها وتحويلها انطلاقا من المصالحة بينه وبين وطنه وماضيه وحاضره ليحاور الذاكرة للتغيير والانبعاث الجديد بقصص عن الجلد الأصفر كمفاهيم عبّرت عن مرحلة من أعماله حمّلها معاني التواصل والانتماء للإنسانية.
ساعد البحث والتجريب لانغ للخوض في التجديد المنطلق نحو انبعاثات جدية تتدفق بحركة دافئة ومسؤولة حتى تخرجه من فقاعته فالفن الخاضع للتجريب عنده يتجدد مع الآخر ويتوافق مع المتلقي وهو ما يحفز على البحث والاكتمال بين عالم الإنجاز وعوالم التلقي بين النقد والفكرة.
تحمل أعمال لانغ خصوصية بلاده وانعكاس انتمائه ولكنها تمتزج بدقة مع ثقافات امتلكها من انفتاحه وصداقاته وبحثه وهو ما ساعده على بناء ذاته الفنية الممتدة والتي تظهر بعمق في أعماله.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection