تجربة التشكيلية الصينية برندا لوي .. اندماج الأساليب الغربية مع التجربة التشكيلية الآسيوية وتأثيراتها الجمالية
يتميّز الفن التشكيلي الصيني بخصوصيات تجعله يطرق أبواب العالم بدهشة بصرية وسرد حضاري وعمق طرح انساني معاصر له جماليات تجيد فرض تفاصيلها على قيم المدارس الغربية، فالموروث الصيني تمازج حسي وفكري وفلسفي يدمج النسيج والحرير والحبر والخط والألوان مع الحكمة التي تكوّن المنجز الفني المعبّر عن كيانه وهويته وأرضه وهو ما يمتّع التجارب بحركة بحث ونبش وشغف تلقّ عميق لقراءاتها المعبرة في ثناياها المتنوعة وهو ما استفز البحث عن التجارب ومحاولة قراءة التطورات التي قدّمها بعض الفنانين الذين حملوا الازدواجية ومنها عبروا للعالم نذكر بالخصوص تجربة التشكيلية الصينية “برندا لوي”.
عاشت لوي في “هونغ كونغ” درست الأدب الصيني الكلاسيكي وفنون الخط التي تعلّمتها من والدها كما تمكّنت من الأسلوب الصيني في الرسم بالفرشاة، كان لواقعها ومعايشاتها ومواقفها السياسية والاجتماعية تأثير على مفاهيمها وأساليبها التعبيرية وهو ما دفعها للخروج من الصين والبحث عن منافذ تجدّد تعبيري جديدة وعالمية، فكانت وجهتها نحو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عرف الفن أوج التمرد بأساليب ما بعد الحداثة بين المفاهيمية وفنون الصورة الفوتوغرافية والفيديو والتجريد التعبيري والواقعية المفرطة والتجريد الحديث والبوب آرت، وهناك اختصت في دراسة الفن التشكيلي الغربي وتحصلت على شهادات عليا في المجال من جامعة كاليفورنيا سنة 1991، فكوّنت فلسفتها وأسلوبها المتفرّد الشرقي الغربي.
وقد كان لثقافتها المزدوجة الآسيوية والأمريكية تأثير على تطوير ابتكاراتها ودعم نضجها الجمالي الذي تحوّل بمخزونها الفني من الكلاسيكي الثابت على تقاليده إلى فن منفتح مطوّر في مساراته التعبيرية ودلالاته الفنية الإنسانية، إذ اختارت أن تعبّر عن وطنها من خلال ذاتها برحلة مسكونة بالخوف والأمل والرغبة الشخصية في الاستمرار فعّلتها حسيا في لوحات حملت أفكارها المسكونة في ألوانها الساطعة.
فالفن لديها يتجاوز العاطفة نحو التذوق والتواصل والاقتناع والتساؤل والبحث الذي يكون مع جمهور قادر على خلق تلك المنافذ في محاولة لاختراق حياة المجتمعات والتعبير عن التنوع ونبش تفاصيل التعايش الانساني بحثا عن التجديد باعتباره جزء مهما من عملية التغيير والاقتناع وقبول الاخر والاندماج معه.
لا تتوقف لوي عن التجريب فهي تعتمد كل المدارس التي تعبّر عن مفاهيمها وفكرتها من التجريد إلى الأداء والمفاهيمية والتعبيرية فهي تتميّز بأشكالها وزهورها التي ترسمها كعلامات تستنطق الحياة وتستدرجها نحو عمقها في تشكيل كل زهرة وتنقيطها في كل لون وهي تبدو سابحة في فضائها وهو ما يميّزها بهطول حسي يتدرج في الألوان والدوائر في النقاط التي تتحرك في مسيرة حافلة بالأشكال المشبعة باللون أو التي اختارت لها الفراغات تصاعديا أو بفوضى منسقة التفاصيل والرموز في انحناءات تتبع النفسية المضطربة والهادئة والمفعمة بالحنين ضمن تشكيلة من الأفكار والاحاسيس تجيد الموازنة بينها بتحديد المسافة والمساحة والفراغ والظل والعتمة والضوء وتوزع اللون داكنا فاتحا في جدلية تثبت تشبثا بالذات بالهوية بالانتماء لكل الأمكنة التي تعنيها، ففي أعمالها عن الزهور تحاول جمع توليفات مختلفة لتعبر عن وطنها بألوان ترابية منوعة تعني المواسم المعتقة في الذاكرة وتطلعاتها للحياة مرونة تثير الدهشة والتأمل كمداعبات حلم يجمع بين الخفة والتشنج بين الاسترخاء والسمو تماما كممارسة طاقة نفسية صينية مشبعة بالحس والعقل والإدراك لكل ما يشكل الطبيعة والحياة والانسان وهذا التفرد المغري في دهشة إنجاز روض حواسها فبيّن تأثرها بوالدها فنان الخط الشهير “لوي شونغ” والفنان الأمريكي “مارك طوبي” بدمج ابتكرت به تميزها مستفيدة من المدرستين ومن ازدواجيتها الثقافية دون أن تقع في قيود وضوابط أي من المدرستين فقد كانت شغوفة بانصهارها الفني فخلقت جسر عبور روحاني بين الشرق والغرب.
ولا يقتصر عمل بريندا التشكيلي على التجريد فحسب فقد اعتمدت الأسلوب التعبيري لتعالج أفكارها مع إضافة بعض الغموض الذي يحيد عن مسار المنهج التعبيري، من خلال أشكال تبدو متجانسة تكمن غرابتها في توظيفها، فهي تشبه الألياف تنساق وراء اللطخات والضوء المتباين تنساب في كل الاتجاهات إيقاعية أشبه بالوجد الصوفي والتخاطر بين الضوء واللون، وتنبثق من ذات الأشكال تصوراتها لأشكال أخرى.
تعتمد في مساحات المنجز الذي تصوغه على السواد فهي لا ترى فيه مساحة غموض بقدر ما هو تعبير داخلي يستبطن عمق اللوحة ليعبر نحو تعبيرات لونية وضوئية أكثر تلونا وصخبا فكأننا أمام مجازات بصرية تجمع الضوء والنور بالعتمة والليل هذه المجازات التي يكمن في عمقها الفراغ الذي يجتاح الأشكال كتبرير بصري جمالي يجمع التناقضات ويحوّل الفوضى إلى حركة منظمة والحزن إلى حياة مكتملة الحضور الجدير بالإنسانية.
تركز لوي في أعمالها الفنيّة على الطبيعة بعمقها وصفائها اللوني إذ تشكل عناصرها بطريقة فريدة خصوصا في تعاملها مع الزهور النابعة من تراب الصين كي تعبّر عن الانبثاق الحر للإنسانية المتشبثة بالحياة والمعانقة للسماء بتنوع متوازن، في حركية تعبيرية وتشخيصية وخطية انفعالية، تستدرج المتلقي ليستجيب لجماليتها المجزئة ولشظاياها الرائقة وهي تماهي بين الضوء ونوره المتمكّن من المساحات الملونة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections