تجربة التشكيلية السعودية مها الملوح .. الابتكار روح التجدد والتجدد هوية الابداع الانساني
لم يكن التوقف عند أعمال الفنانة التشكيلية السعودية مها الملوح، في متحف لوفر أبوظبي الإمارات، إلا إعجابا يرشح فضولا وتصورا يخترق فكرة المفهوم الفني ودرجات الابتكار البسيطة التي تثير العمق من واقع البيئة وتصورات الذاكرة والمكان، وهو ما أثار رغبة التعرف على أعمالها أكثر والتعمق في تجربتها بتجلياتها التي أجادت أيضا عرضها في مركز الجميل للفن بدبي ضمن معرض غرف الفنانين التي احتلت فيها أعمالها جوانب الاعجاب والدهشة والفضول.
هذا الفضول الذي يسكن كل باحث في الفنون البصرية عند الحديث عن التجربة النسائية التشكيلية والبصرية السعودية المعاصرة والذي يعني التطرق إلى جوانب متعددة ومفتوحة على منافذ لها تطلعاتها وآفاقها وطموحاتها التعريفية بواقع وحلم وتطوير فني وجمالي، فالتعرف عنها عن قرب وبحث وفضول يقرّ بعمقها ومدى ما عرفته من مراحل نضج وتكوين حديثة ومعاصرة تعبيرية ومفاهيمية استطاعت أن تكون منفتحة على ذاتها رغم اتهامها بأنها تقوقعت على طموحها فقد تجاوز بؤرها النافذة لتعبُر بتصوراتها محليا خليجيا عربيا ودوليا.
ومها الملوح تعدّ واحدة من الفنانات التشكيليات السعوديات اللاتي استطعن أن يتفوقن على حدود المكان وينطلقن بجماليات اتسعت للفكرة بوعي أجاد تنسيقها وبحضور أكسبها خصوصية الانتماء لطبيعتها وبيئتها، إذ تمكّنت من أن تصنع لها بصمة خارقة التصور وماورائيات متعمقة في بحثها البصري والإنساني الذي بدأ معها مبكّرا منذ سن السابعة عشر وهي تفتّت توازناتها البصرية وتدمجها مع روحها الأصيلة في المكان والعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية والثقافية والتراثية والأدبية.
وُلدت مها ملّوح في عام 1959، وهي تُقيم وتعمل في الرياض، المملكة العربية السعودية، عملها متأثر بارتباطها الروحي بمنطقة نجد التاريخية في المملكة العربية السعودية، بعمارتها المميزة، وتراثها الديني والثقافي الراسخ، والمنسوجات المزخرفة المتعددة باستخدام ما تم العثور عليه من مواد تعتبر رمزا من رموز الهوية الجماعية، مثل أطباق الشينكو الضخمة، وأشرطة كاسيت المحاضرات الدينية، وبراميل النفط المهملة، وأبواب معدنية تميز منطقتها، عرضت ملّوح أعمالها في كل من المتحف البريطاني، ومتحف تيت مودرن، ومركز بومبيدو، ومتحف اللوفر أبوظبي ومركز الجميل للفن دبي،
كما تم تركيب جزء من نحت “غذاء للفكر” بكورنيش جدّة لتكون أول فنانة تشكيلية سعودية تركّز منحوتات لها في عام 2015.
تمكّنت مها الملوح بكل عمق فني أن تكسب خبرة الصورة وغرائبياتها التعبيرية وتوظيفاتها الفنية والتشكيلية من خلال دراستها للتصوير الفوتوغرافي لتكون حيوية في بحثها عن الصورة ونشيطة في تركيزها مفاهيميا ومثيرة بأفكارها البصرية، وهذا البحث والتجريب مكّنها من أن تكون أول تشكيلية سعودية تشارك في بينالي فينيسيا وتحمل إلى العالم أفكارها وأصالة انتمائها الفكري من خلال كل ما يحيط البيئة من تصورات وكل ما أحاط الذاكرة الجماعية والفردية من حنين وتذكر وانطلاق خارق في البحث عن ماهية الوجود وأثره وفكرة التوريث الفكري والثقافي والتراثي من خلال ما سيُترك للأجيال من توقعات فنية ومفاهيم تصورية تصف وتعبّر عن مراحل عمر قادرة على التأثير.
انطلقت خارج حدودها وفتّت مساراتها وثارت على قيمها المألوفة والنمطية، لتتماهى مع ذاتها وتكسر روتين التقاليد وجمود الصمت التعبيري المبني على التجريد وكأنه هروب نحو اللاقالب في التكوين البصري المتجدّد على عمقه التعبيري.
فبين تجربة وتجربة يقع النضج على توافقاته التي استطاعت أن تؤسس مسارات التكوين والتجلي والحضور الناضج والجرأة الواثقة من فعلها الباحثة عن تألقها والخاضعة للبحث والتجريب والاستدراج الترتيبي للصياغات البصرية الفهمية.
وهو ما شكّل النواة الأولى لخطى مها الملوح التجريبية في صناعة مسارها التشكيلي العميق، فكل التعابير والمنافذ خلقت فضاءات واسعة ورحبة استفزت الاستفهامات المطروحة وتحوّلت بفكرة الفنون من تعبيرات فردية إلى عناصر اتصال وتواصل فكري بين الذات في مكانها والبيئة وعالمها ما أثار النضج وحقّق التميّز الذي بحثت عنه وتمكّنت في إثارته بعمق مفاهيمي في تجربتها.
.
“غذاء للفكر” و”المعلقات” هي تجربة متفرّدة أخضعتها الملوح لجمالياتها بالفكرة وتصوّراتها المفاهيمية واستنتاجاتها البحثية التي ترتكز على الذاكرة البصرية الجماعية والشعبية، فمن خلال أشرطة الكاسيت المخصصة للفتاوي الدينية التي راجت في مراحل زمنية مؤثرة وتصفيفها في أطباق الخبز صنعت إذا الفكر الملون والوصف البصري المختلف لتركيبة المجتمع وتحوّلاته وتناقضاته، أما من خلال الأواني والقدور والطناجر القديمة التي اقتنتها من الأسواق الشعبية “الحراج” وعلّقتها لتحمل عنوان “المعلّقات”، وظّفت طاقة بحثها على رصد التغيرات الاجتماعية والثقافية وما توافق معها من نضج حداثي وتطور في التراث المبتكر من الانسان المتغير بطبعه وبطبيعته بالتعمق في هوية مجتمع له تاريخه الادبي ومساره التأثيري في اللغة والفكر لتوازن في الفكرة بين المعلقات الأدبية ومعلقاتها التي وظّفت فيها الأواني.
عن تلك الهوية التي حاولت الملوح إثارتها فينا واستجمعتها في تلك القدور القديمة التي ضمّتها إلى بعضها بأحجامها المختلفة في انشاءات تناسقت وتنصيبات حاكت بصريا قصصا وأهازيج وتراثا ولقاءات حمّلتها القدور ذاكرة ترشح بنبضها المتفاعل مع النار بتشكلات مختلفة وآثار أضفت معانيها على مجازات الفكرة في القدور التي علّقت بشكلها الدائري على حائط أبيض كقصائد روّضت ذاكرة الاندماج، فطناجر الطبخ المستعملة والملطخة بسواد يحاكي عملية الطهي تحوّل في التجربة البصرية إلى رمز حياتي يومي ميّز الحياة الجماعية السعودية فالتعبيرية في توظيف تلك الأواني أدّت إلى مفاهيمية التحوير الفكري الذي تحدّث عن الانسان ومداه التكويني في بيئته ومجتمعه مع قضاياه أفراحه وأحزانه وعاداته وتقاليده بفردانيته واجتماعاته التي يحدّدها الأكل وتستوعبها تلك الصحون والقدور والطناجر كل حسب الحجم والاستيعاب والتوافق والتمازج والتشكل فكل عمل تشكّله الملوح يتجاوز 50 قطعة تصفّفها مثل “معلقات” وهي انفصال تاريخي التسمية من معلقات الشعر إلى معلقات الاستهلاك للتعبير والوصف المرحلي وترجمة الحياة على بساطتها على حميمية تصنيفها وترميزها وتحوّلها التدريجي إلى جوانب باذخة واستهلاكية أفقدت التجمع على الأكل عاطفة المشاركة والطبخ البسيط وملأ القدور الكبيرة وضعها على الحطب وخلق علامة لدى كل قدر فكل ذلك تحوّل إلى نمط استهلاكي مختلف سريع وفرداني.
حاولت مها الملوح أن تسرّب ذهنيا وجماليا أسلوب التأويل في الفن معتبرة أن الفكرة التي تخلق التفرد فهي تلامس واقعا يشبه ذاتها ومحبتها لأرضها وتفاصيلها الدقيقة في الطرح الفني البسيط والعميق في آن
“مصدر إلهامي للفن يأتي من بلدي، أرض الصور والأفكار المتناقضة، فالفن الجيد يجبرك على التوقف والتأمل والتفكير بمحيطك”.
لا تبحث الملوح عن مجرد لفت نظر بل تبحث عن إثارات فكرية تستفز الاستفهام والسؤال وتركّز على البحث والتجريب بعيدا عن المسقط لأجل لفت النظر فهي تدعو للتأمل بدرجات متنوعة تشدّ الذات أوّلا وترمي بها نحو الآخر والمجتمع.
إن المتأمل في مفاهيم الملوح لا ينكر مدى تمسّكها بجذورها ومدى تأصلها بالفكرة والأرض بالعادات مداها المؤثر طفولة ونشأة وتحوّلا ونضجا أصبح عالمي التأثير والتأثر ولم يتوقف عند مدار واحد ولا نظرة أحادية لقد خاطب جميع العقول والمستويات التي كثيرا ما تقف مدهوشة مطولا وتعود لتعيد التوقف على أعمالها المعروضة بدهشة شديدة الاستفزاز وبذاكرة شديدة الوفاء لماضي يجيد ترويض الحنين وتطويع المشاعر أفكارا.