بوتين يواجه حقل ألغام دبلوماسياً بعد الانتصار الكبير في سوريا
بعد أن نقل السيطرة على معظم أراضي سوريا إلى بشار الأسد، كان بإمكان الرئيس الروسي بوتين، بدرجة كبيرة من الصدق، أن يسجل لنفسه إنجازاً عسكرياً مهماً، إلا أن الإنجاز لم يشكل انتصاراً بعد، ففي اليوم التالي تبين له أنه أمام حقل إلغام سياسي، يضع أمامه تحديات جديدة غير مخططة من شأنها أن تقضم من إنجازاته العسكرية.
الخطة السياسية التي رسمتها موسكو ظهرت وكأنها عملية مرتبة ومعقولة: روسيا كان عليها أن تبدأ بسحب جزء من قواتها من سوريا؛ وحل مسألة تفكيك قوات المتمردين في محافظة إدلب بطرق دبلوماسية، بالأساس بواسطة تركيا؛ وتشكيل لجنة لصياغة الدستور الذي سبق لمبادئه أن كتبت بأيدي المستشارين الروس؛ وتحديد موعد للانتخابات والبدء بإعادة إعمار الدولة. بدايات الفصول تم الاتفاق عليها في لقاء القمة الذي عقد في أيلول 2018 بين إيران وتركيا وروسيا، وقبلها بشار الأسد وعدد من منظمات المتمردين.
ولكن في كانون الأول الماضي بدأت الأمور تتشوش: الرئيس دونالد ترامب أعلن عن نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا، وهو قرار لم يطبق بعد. بين ترامب وتركيا حدث شرخ عميق في موضوع الدفاع عن القوات الكردية التي تحميها القوات الأمريكية. وافق ترامب على إقامة قطاع أمني في المناطق الكردية في شمال سوريا، بعمق 32 كم، لكنه طلب أن تقوم قوات أوروبية بالإشراف عليه والقيام بأعمال الدورية في المنطقة، في حين أن تركيا طلبت أن تكون قواتها هي المسؤولة عن ذلك. وطالما لم يتم الاتفاق على هذا الموضوع فإن الانسحاب سيتأجل. وفي هذه الأثناء يبحث الطرفان عن تسوية تناسب الأكراد أيضاً.
روسيا وسوريا تعارضان أيضاً سيطرة تركيا في شمال سوريا، لكن في الوقت نفسه تطلبان من تركيا تطبيق الاتفاق حول حل المليشيات المسلحة التي تتركز في محافظة إدلب، وبالأساس قوات جبهة النصرة (أو جبهة احتلال الشام، الاسم الجديد لها). هذا الاتفاق استهدف منع هجوم عسكري روسي ـ سوري كبير على الإقليم، حسب طلب تركيا. ولكن في الوقت الحالي لا تفي تركيا بتعهدها لحل المليشيات. وبدأت روسيا بالتهديد بأن صبرها آخذ في النفاد. إن معركة على إقليم إدلب، الذي يعيش فيه 3 ملايين مواطن تقريباً مع 50 ألف مقاتل من المليشيات المسلحة، يعني موجة جديدة من اللاجئين الذين سيهربون إلى تركيا، التي تستضيف الآن أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري. بدون حل مشكلة إدلب سيتأخر أيضاً استكمال سيطرة النظام على كل أرجاء الدولة ومعه أيضاً باقي الخطوات السياسية التي خططتها روسيا.
لغم آخر يكمن في غياب اتفاق على تعيين لجنة للدستور التي يجب عليها العمل برعاية الأمم المتحدة. في يوم الجمعة الماضي انتهت الجولة 12 من محادثات الأستانة (أو باسمها الجديد نور الدين)، في عاصمة كازاخستان، بدون أي نتائج. أساس الخلاف يتركز حول تشكيل الطواقم التي ستعمل على صياغة الدستور. روسيا معنية بتمثيل كبير بقدر الإمكان لقوى المعارضة إلى جانب ممثلي النظام، تركيا تعارض إشراك الأكراد، والأسد يعارض مشاركة عدد من منظمات المعارضة. إيران من ناحيتها تريد الحفاظ على نفوذها في سوريا إزاء السيطرة الاقتصادية لروسيا على مواردها مثل حقول النفط والغاز التي أعطيت حقوق تطويرها لشركات روسية، إلى جانب تأجير ميناء طرطوس لروسيا مدة 49 سنة.
هذا الصراع الاقتصادي تعاظم إلى جانب ما تسميه إيران تعاوناً بين روسيا وإسرائيل، في مؤامرة لطردها من سوريا. محللون إيرانيون يشيرون إلى عدد من «الدلائل»: إعطاء الضوء الأخضر لمهاجمة أهداف إيرانية؛ وضبط النفس الروسي بشأن قرار ترامب الاعتراف بهضبة الجولان كجزء من دولة إسرائيل؛ ومؤخراً إطلاق سراح أسيرين سوريين مقابل جثمان زخاريا باومل. كل ذلك يعتبر خطوات تدل على وجود «تحالف» روسي ـ إسرائيلي موجه ضد طهران. هذا التفسير الإيراني ـ الذي يجد له مؤيدين أيضاً في الحكومة التركية ـ يخدم في الحقيقة إسرائيل التي تبدو كمن تستطيع التأثير على سياسة روسيا في الشرق الأوسط (إلى جانب السياسة الأمريكية). ولكن ليس مؤكداً أن روسيا راضية عن هذا التشبيه، لا سيما عندما تكون موجودة ضمن ضفيرة من الخطوات السياسية في سوريا، التي من الأفضل لها ألا تظهر كمن تعمل حسب أجندة إسرائيل.
روسيا تسيطر على ما يبدو على احتكار إدارة العمليات السياسية، ولكن هذا الاحتكار الذي يقتضي صيانة ومرونة تجاه المنافسين الآخرين من أجل أن يتمكن من التحقق. في هذه الأثناء يبدو أن ملايين المهجرين واللاجئين السوريين، وكذلك الأفكار والمخططات لإعادة إعمار سوريا، ستضطر إلى الانتظار. لأنه طالما لم يشكل هناك نظام ثابت ومتفق عليه، لن تكون هناك دولة مانحة مهمة ستوافق على ضخ الأموال الطائلة المطلوبة لإعادة الإعمار.