بوتين يختار بين الحرب والسلام
جرت في موسكو صباح اليوم مراسم تنصيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لفترة رئاسة جديدة، أعتقد أنها سوف تكون الفترة الأصعب بالنسبة له، فما هي المهمات الملقاة على عاتقه وما هي أولوياته، من وجهة نظري المتواضعة؟
لقد اتّسم بوتين دائما بأنه محافظ، فقد تبوّأ منصب رئيس الوزراء حينما كانت روسيا في أحلك أوقاتها، بين يدي رئيس مريض هو بوريس يلتسين، حيث انخفض مستوى معيشة المواطنين، ومتوسط الأعمار، واتجه عدد السكان إلى الانخفاض، وأصبح الاقتصاد في أيدي حفنة أوليغاركية من رجال الأعمال، كنتيجة مباشرة لسياسة الخصخصة الفاسدة، وأوشكت البلاد أن تسقط في أيدي مجموعة من أباطرة الأعمال الإقليميين برئاسة عمدة موسكو يوري لوجكوف، ما كان سيؤدي قطعا إلى المضي قدما في تشتيت وشرذمة روسيا. كانت الشيشان عمليا منطقة مستقلة عن روسيا ، وتتابعت الحوادث الإرهابية بطول البلاد وعرضها، وانقسم المجتمع بين أغلبية من المواطنين ممن لازالوا يؤمنون بالقيم الاشتراكية إلى حد ما، وقلة من النخب الليبرالية الموالية للغرب، والتي يوجد عدد منها في السلطة، كان لدى المواطنين الروس إحساس عام باقتراب كارثة متفاقمة ومحدقة بالوطن.
لذلك كانت خطوة بوتين بإعادة موسيقى النشيد الوطني للاتحاد السوفيتي بعد تغيير كلماته، خطوة شديدة الأهمية على رمزيتها، فقد كانت بمثابة إعلان واضح عن المصالحة الوطنية داخل المجتمع الروسي الذي تنتمي أغلبيته العظمى إلى وجهات نظر أقرب إلى اليسار منها إلى الليبرالية. ثم أصبح المنطق الحاكم لسياسات بوتين هو الإبقاء على استقرار الوضع الراهن خوفا من انفجاره وتفاقمه، بغرض إيقاف عملية الانهيار، ثم العمل على تثبيت أركان حكمه بغرض النهوض بالوطن من تلك الحفرة الآيلة إلى كارثة وشيكة. في ذات الوقت كان من بين أولويات بوتين أيضا الحفاظ على السلام والاستقرار المجتمعي بين كافة أطياف الشعب الروسي بكل أعراقه ودياناته وثقافاته، ومجابهة أي مخاطر تهدد ذلك السلام والاستقرار، ثم الانطلاق بعد ذلك كله حثيثا وبحذر شديد لتغيير الوضع الآيل للسقوط آنذاك.
لكن تلك الاستراتيجية في العقد الثاني من الألفية الجديدة لم تعد كافية لمواجهة التحديات التي ظهرت فيما بعد:
أولا، انقضت جورجيا بدعم وتدريب أمريكي على جمهورية أوسيتيا الجنوبية المجاورة لها عام 2008، لتندلع مواجهات عسكرية بين جورجيا (المدعومة من الغرب) وروسيا، حطمت جميع آمال الأمن والسلام، وأن تكون لروسيا علاقات متكافئة ومسالمة مع الغرب، بل كان ذلك مدعاة كي تسعى روسيا لتحديث جيشها، وترفع من استعداداتها العسكرية تحسبا لأي مخاطر محتملة.
ثانيا، كان فلاديمير بوتين في أول دورتين رئاسيتين، بطبيعة الحال، مرشح الأمل الذي عقدت عليه الأمة الروسية آمال التغيير الآني والجذري، وبالفعل تمكن بوتين من عمل الكثير، حتى أصبح مستوى الحياة في العقد الأول من الألفية أفضل كثيرا من عقد مضى، وارتفع متوسط معدلات الأعمار عن مثيله في الاتحاد السوفيتي، وحصد بوتين نتيجة لذلك شعبية طاغية بين المواطنين الروس، إلا أنه خيّب آمال النخب السياسية حينما عجز عن التخلص من تأثير النخب الأوليغاركية، ولغياب الإصلاحات الاقتصادية، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة مطلع العقد الثاني على خلفية “الثورات الملونة” بما في ذلك “الربيع العربي”، الذي حدث بإيعاز من قنوات إعلامية أجنبية، وتوجيه خارجي (من الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا)، لكنها احتجاجات جاءت في الوقت نفسه استنادا إلى غضب شعبي حقيقي وموضوعي على الأوضاع الاقتصادية المتردّية.
بالطبع فإن بوتين يعي أولوية الاستقرار، إلا أن الاستقرار، من جانب آخر وعلى الرغم من أولويته، لن يتحقق من خلال التعامل الأمني وحده، مع إبقاء الوضع الاقتصادي على ما هو عليه. لقد تغيرت الحياة في روسيا سريعا وإلى الأفضل بكل تأكيد، فلا زلت أذكر البيروقراطية السوفيتية وأقارنها بالسرعة والسلاسة التي تتم بها المعاملات اليوم مع الأجهزة الحكومية، بما في ذلك المعاملات التي أصبح من الممكن إنجازها على شبكة الإنترنت. كذلك تطوّرت العاصمة الروسية موسكو في الأعوام الثلاثة الماضية، أكثر من تطورها على مدار ثلاثة عقود، لكن من الواضح أن كل ذلك لم يعد كاف للإبقاء على الدور الروسي في العالم، والإبقاء على وجود روسيا على المدى البعيد.
تكمن صعوبة التحدّي الذي يواجهه بوتين، في أنه حينما انتبه إلى ضرورة الإصلاحات الاقتصادية، شرع الغرب في هجوم شامل ضد روسيا، لتصبح المصاعب الخارجية التي يواجهها بوتين هائلة: فهناك الحصار الاقتصادي على روسيا، وهناك سوريا، والنظام النازي في كييف، المستعد لسفك أنهار من الدماء في حربه مع روسيا، من أجل عيون الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك هناك قواعد حلف الناتو على الحدود مع روسيا وغيرها من المصاعب الجسام.
إن التاريخ الروسي دائما ما كان كذلك، فعلى القادة والزعماء الروس أن يختاروا بين تركيز السلطة والموارد الاقتصادية من أجل مواجهة الأعداء، أو من أجل الإصلاح الاقتصادي. كانت روسيا دائما مطمعا للأعداء الخارجيين، ودائما ما واجهتهم ، بينما حدّد مكان تركيز السلطة مصير ونطاق الحريات في البلاد لقرون خلت.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن بوتين يعتزم، فيما يبدو، المضي قدما في الاتجاه المعاكس، فعلى الرغم من العدوان الخارجي، ها هو يعلن عن إجرائه إصلاحات اقتصادية شاملة وغير مسبوقة لتحرير الاقتصاد. لاشك أن ما قامت به الحكومة السابقة من إجراءات اقتصادية هي إجراءات جوهرية ومؤثرة، وليست إصلاحات بوتين حتى الآن سوى تصريحات ونوايا، لذا فعلينا أن ننتظر لنرى تشكيل الحكومة الجديدة، وإعلان برنامجها، إلا أن جميع المعطيات تشير إلى أن بوتين أكثر من جاد في هذا الشأن.
لقد أعلن بوتين في خطابه أمام البرلمان في مارس الماضي عن أنواع جديدة من الأسلحة سوف تجعل الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن التصدي للأسلحة النووية الروسية. ومما لا شك فيه، أن ذلك سيجعل روسيا، وفقا لبوتين، تضمن ألّا يعوقها شيء عن أن تحقق قفزة في تطورها، وهو ما يدلّ عليه خفض روسيا لميزانيتها العسكرية هذا العام، على الرغم من الاعتداءات الغربية، وسوف تتابع روسيا ذلك الخفض في المستقبل.
لا أعتقد أن بإمكان روسيا تكرار السيناريو الصيني، حينما انسحبت بكين بهدوء كي تعزّز من قوتها على أمل أن يستيقظ العالم يوما ويفهم أن القيادة قد تغيّرت. إننا نرى الآن كيف ترفض الولايات المتحدة الأمريكية إفساح المجال لقيادة أخرى للعالم سواها دون حرب، لقد فشل السيناريو الصيني، وسوف يتعيّن على الصين اقتفاء أثر روسيا ومواجهة السياسات العدائية للغرب.
بالنسبة لروسيا فالأمر محسوم، سوف تكون أولوية بوتين في دورته الرئاسية الحالية إحداث قفزة في التنمية الاقتصادية الداخلية، ولن يكون ذلك ممكنا عمليا من دون الرد الحاسم على واشنطن، فبوتين لن يتمكن من الخروج من الحلبة الدولية، حتى لو أراد هو شخصيا ذلك، لأن روسيا تمتلك عددا من النقاط خارج حدودها تمثل بالنسبة لها مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية.
تشير المراكز البحثية الغربية إلى أن بإمكان روسيا أن تتبع في مواجهاتها سياسة “التصعيد من أجل التهدئة”، بمعنى أن تمدّ خطوط التصعيد حتى نهاياتها، حيث حافة استخدام السلاح النووي، وبعدها يتعيّن تجميد هذه المواجهة، أو الاتفاق على التدمير المتبادل للأسلحة النووية. أعتقد أنهم محقون في ذلك.
أظن أن التركيز على التنمية المحلية للداخل الروسي لا يعني الانسحاب من المواجهات الخارجية، وهو أمر يستحيل تصوره، خاصة إذا تعمّد الغرب جرّ روسيا إلى المواجهة. لكنه فقط يعني انسحاب روسيا من الحروب الطويلة، باهظة التكاليف البشرية والمادية. إن خفض الميزانية العسكرية الروسية هو بمثابة إعلان عن أن روسيا لا تريد الحرب، وأظن أن بوتين سوف يتجاهل المهاترات الساذجة والاستفزازات الأمريكية لجرّ روسيا إلى حرب بالأسلحة التقليدية. روسيا لن تخوض حربا شاملة، إلا لو كانت هناك حاجة لحرب نووية. أمامنا قفزة هائلة في مجال تطوير الاقتصاد الروسي، ولا أرى أي معوقات تذكر أمام روسيا في هذا المجال.