بعد عامين في الإليزيه.. ماكرون محاصر بين نارين
في مثل هذا اليوم 14 مايو من عام 2017، تسلم إيمانويل ماكرون مهامه في مراسم تقليدية بقصر الإليزيه، ليصبح رسميا ثامن وأصغر رئيس لفرنسا في إطار نظام الجمهورية الخامسة، خلفاً للرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند الذي كان أول من فتح له باب ولوج عالم السياسية عندما عينه مستشاراً اقتصادياً له ثم وزيراً للاقتصاد.
بعد نحو ستة أشهر من تولي إيمانويل ماكرون السلطة، قالت عنه مجلة “تايم” الأمريكية في عددها الصادر يوم التاسع من نوفمبر 2017، إنه سيصبح “قائد أوروبا القادم.. شريطة أن يتمكن من قيادة فرنسا أولاً”. غير أنه سرعان ما تبيّن أن تَحقّق شرط المجلة الأمريكية هذا أمرٌ صعبٌ، بعد اندلاع حراك “السترات الصّفراء” الاجتماعي وتداعياته التي جعلت مجلة “لوكورييه انترناسينال” الفرنسية تتساءل في أحد أعدادها: هل انتهى ماكرون؟
المرشح الشاب إيمانويل ماكرون، خريج المدرسة الوطنية للإدارة المرموقة بباريس؛ ظهر بشكل جذاب ومرن من الناحية التواصلية خلال حملته الانتخابية على الرغم من قصر عمره السياسي؛ إذ لم يسبق له أن انتخب أو انخرط في حزب سياسي. لكن الخبراء في مجال التواصل رأوا أن أحد أهم العوامل التي ساعدته في ذلك ولعُه بحب المسرح. كيف لا! وقد تزوج قبل أحد عشر عاماً أستاذته السابقة في هذه المادة بريجيت التي تكبره بـ24عاماً بعد أن وقع في حبّها وهو في سنّ الـ15.
متلازمة “في نفس الوقت”
طوال حملته الانتخابية، تميز المرشح الوسطي ماكرون بالحفاظ على متلازمة “في نفس الوقت’’ التي ستصبح لاحقا عبارة ملتصقة بما بات يعرف بـ”الماكرونية” (نسبة إلى اسمه) والتي تقوم على المزج والتموقع بين سياسات اليمين واليسار. هي في مذاهب أخرى نوعٌ من البراغماتية. لذا وجد فيه الفرنسيون “الظاهرة” التي ستحدث قطيعةً مع الأنظمة الماضية القائمة على حسابات حزبية ضيقة أو فكر ايديولوجي مصطف.
استغل ماكرون الحصيلتين الكارثيتين لسلفيه، اليميني نيكولا ساركوزي والاشتراكي فرانسوا أولاند ومن ثمّ فضيحة الوظائف الوهمية لمرشح حزب “الجمهوريون” اليميني التقليدي فرانسوا فييون؛ ليجذب إلى حركته مجموعة من مناصري ومنتسبي الحزبين خاصة من أبناء جيله. تاليًا، سَيُلحق بهذين الحزبين اللّذين تعاقبا على حكم فرنسا منذ نحو 60 عاماً هزيمة مدوية أغرقتهما في أزمة لا يزالان يتخبطان فيها.
لذا كان لا بد أن يفوز المرشح الشاب ذو الـ39 ربيعاً على زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات منتصف مايو 2017، بحكم قاعدة “الكتلة الجمهورية” التي لطالما سدت الأبواب أمام اليمين المتطرف. وأصبح ماكرون ثامن وأصغر رئيس لفرنسا منذ انطلاق نظام الجمهورية الخامسة عام 1958.
“متمسكون بالنهج ولن نَحيد عنه”
منذ البداية، رفع الرئيس الوسطي الشاب “المهووس” بأن ينظر إليه على أنه صارم، رفع شعار “متمسكون بالنهج ولن نَحِيد عنه” في وجه معارضي إصلاحاته التي اختار أن يكون في الخط الأمامي للدفاع عنها، مهمشاً بذلك دور رئيس وزرائه وفريقه الحكومي. وتلك نقطة يلتقي فيها مع الرئيس اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي ويتناقض فيها مع سلفه الاشتراكي فرانسوا أولاند الذي ترك مجالا أوسع لرؤساء حكوماته الثلاثة.
مُرتكزاً على أغلبية برلمانية واسعة أفرزتها الانتخابات التشريعية التي اكتسحتها حركته الفتية “الجمهورية إلى الأمام”؛ انطلق ماكرون في تنفيذ إصلاحاته، وأبرزها إصلاح الشركة الوطنية للسكك الحديدية المثير للجدل التي دخل موظفوها وعمالها في مظاهرات وإضرابات مفتوحة على مدار أسابيع شلت حركة سير القطارات. لكن الرئيس الشاب ظل “متمسكاً بالنهج” رغم تراجع شعبيته. ليتوج عامه الأول في الإيليزيه بتمرير أهم إصلاحاته، بما في ذلك مشروع قانون الهجرة واللجوء المثير للجدل، الذي أحدثت بعض مواده انقساماً داخل أغلبيته البرلمانية التي تضم خليطاً من التكنوقراط والسياسيين القادمين من أحزاب اليسار واليمين.
ما لم يكن يتوقعه ماكرون، وهو يستعد للتوجه إلى المنتجع الرّئاسي بقلعة بريغانسون بجنوب شرق فرنسا لقضاء العطلة الصيفية الماضية، هو اندلاع قضية مساعده الأمني السابق آلكسندر بينالا التي أحدثت بلبلة على مستوى هرم السلطة التنفيذية، وتحولت إلى أول أزماته في الأليزيه. وأدت فوق المتابعين في استقالة وزير الداخلية حينها جيرار كولومب، بسبب وجود خلاف بشأن كيفية إدارتها، بين الرئيس ومستشاريه من جهة، وعمدة مدينة ليون الذي يعد أول سياسي ذا ثقل كبير دعم ترشحه ثم أصبح أكثر وزراء حكومته حنكة سياسية، من جهة أخرى.
قبل ذلك، كانت هناك استقالة أخرى مدوية لوزير البيئة نيكولا إيلو (الوزير الأكثر شعبية في الحكومة) احتجاجاً على عدم تحرك السلطة التنفيذية بالشكل الكافي لمواجهة التحدي البيئي.
بين السترات الصفر والتصريحات المثيرة للجدل
على مدار عامين في الإليزيه، ضاعف ماكرون تصريحاته التي لم يمر بعضها مرور الكرام وكان محل انتقاد كبير حتى من بعض مناصريه ودفع ثمنها غالياً في استطلاعات الرأي. من أبرزها مثلاً: وصفه بعض الفرنسيين بأنهم “غيورون من الأغنياء” أو قوله: “لن أتنازل.. لا للكسلاء، ولا للمتشائمين”، وأيضا قوله لشابٍ عاطلٍ عن العمل: “ما عليك إلاّ أن تقطع الشارع فستجد عملاً”.
ورغم كل ذلك، ظل “رئيسُ الأغنياء” كما يصفه خصومه و بعض الفرنسيين منذ إلغائه الجزئي للضريبة على الثروة؛ ظل وفياً لشعار: “متمسكون بالنهج ولن نَحيد عنه” والذي رفعه مجدداً في وجه حراك “السترات الصّفر” الذي ولد بشكل عفوي كردة فعلٍ على قرار الحكومة زيادة الضريبة على أسعار المحروقات قبل أن يتحول مع مرور الوقت إلى حراك شعبي فريد من نوعه ضد كامل السياسية الاجتماعية والاقتصادية للحكومة.
لكن هذا الحراك الفريد من نوعه، أجبر الرئيس “العنيد” على التنازل هذه المرة والإعلان عن حزمة إجراءات اجتماعية لامتصاص الغضب الاجتماعي بعد أربعة أسابيع من التعبئة الشعبية والتي تخللتها أعمال عنف وتخريب أثرت على اقتصاد البلاد وأضرت بصورتها وصورة رئيسها الشاب الذي كان محط إعجاب الكثيرين داخل وخارج فرنسا.
بفضل تلك الإجراءات، نجح ماكرون في إحداث حالة من الانقسام في صفوف “السترات الصفراء” الذين خفت حدة احتجاجاتهم تدريجياً، لكن تداعياتها ما تزال مستمرة، رغم الحوار الحوار الوطني “الكبير” الذي أطلقه ماكرون لإيجاد مخرج لها؛ والذي أعلن مؤخراً عن حزمة تدابير جديدة في ختامه. ويبدو أن رهان السنوات الثلاثة المتبقية من عهدته الرئاسية سيتمثل في مدى امكانية تنفيذ وتطبيق هذه التدابير.
لكن تداعيات هذه الأزمة تجاوزت الحدود الفرنسية! ففي بروكسل، تبدو المفوضية الأوروبية قلقة بعد أن تبيّن أن تدابير الرئيس الفرنسي لإنهاء حراك السترات الصّفراء ستكلف خزينة الدولة الفرنسية نحو 10 مليارات يورو؛ وهو ما يعني أن عجز الميزانية الفرنسية سيتجاوز عتبة الـ3 في المئة التي حددها الاتحاد الأوروبي. كل هذا وذاك، قاد وسائل الإعلام الفرنسية والأوربية، إلى التساؤل عن مدى قدرة ماكرون على تجاوز هذه الأزمة ومواصلة إصلاحاته بعد أن تقوضت مصداقيته؟
كما أن سيدّ الاليزيه الطّامح إلى “قيادة أوروبا” قد خلق كذلك لنفسه عداوات داخل الاتحاد الأوروبي بعد أن قسّم بلدانه إلى معسكرين اثنين: قومي – شعبوي بقيادة سالفيني وأروبان، وتقدمي – انفتاحي نصب نفسه قائدا له.
واليوم تتوقع استطلاعات الرأي أن يحقق المعسكر الأول انتصارات مهمة في انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجرى في 26 مايو الجاري، بما في ذلك حزب “التجمع الوطني” الفرنسي اليميني- المتطرف بزعامة مارين لوبان، الذي تضعه بعض الاستطلاعات في المركز الأول أمام حركة الرئيس ماكرون “الجمهورية إلى الأمام”.
وتلك معطيات تجعل من توقع مجلة “تايم” بأن إيمانويل ماكرون الذي احتفل بعيد ميلاده الـ41 يوم 21 من ديسمبر الماضي؛ سيصبح “قائد أوروبا القادم” مسألة غير واردة!
اللهم إذا حصلت معجزة ووجد الرئيس الفرنسي عصا سحرية تمكنه من حل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحادة في بلاده عبر رفع القدرة الشرائية وإعادة اللحمة الوطنية، قبل انتهاء فترته الرئاسية بحلول عام 2022، مما قد يخوله الفوز بفترة رئاسية ثانية، تعقد فتح المجال للتكهن من جديد حول مسألة “قيادته لأوروبا”.