بطلة أولمبية تحوّلت إلى جاسوسة أحرقت مكتب بريد في الإسكندرية.. رحيل عميلة «الموساد» مارسيل نينو
عن عمرٍ ناهز 90 عاماً، توفيّت الجاسوسة الإسرائيلية مارسيل نينو، المعروفة باسمها الحركي «هو كلود»، والتي كان لها دور كبير في إدارة شبكة تجسس زرعت قنابل في مواقع أمريكية وبريطانية مدنية في مصر عام 1954، إلى حين إلقاء القبض عليها.
فقد كان هدف إسرائيل من تلك العملية هو إقناع بريطانيا لإبقاء قواتها المتمركزة في قناة السويس خوفاً من انسحابها.
فمن هي هذه الجاسوسة التي لم يسمع بها سوى القليل منّا؟ وكيف تم إلقاء القبض عليها، ولماذا أفرج عنها! ستتعرفون في هذه المقالة عن كل ماتريدون معرفته عن عميلة الموساد مارسيل نينو ومهمتها الجاسوسيّة.
أولاً.. من هي الجاسوسة الإسرائيلية مارسيل نينو؟
مارسيل فيكتور نينو أو فيكتورين نينو، أو كما يلقبها البعض بالأسطورة، ولدت في الخامس من نوفمبر 1929، لعائلة يهودية في القاهرة، وهي لاعبة كرة سلة شاركت في أولمبياد سنة 1948، كمواطنة مصرية، كما كان لها علاقات واسعة مع بعض ضباط الجيش المصري في أواخر حكم الملك فاروق، وفق صحيفة The New York Times الأمريكية.
والدها يعقوب كان قد فرَّ من بلغاريا قبل الحرب العالمية الأولى، وأشرف على مشروعات مثل تركيب شبكة المياه في فندق الملك داوود في القدس، أمّا أمّها، فاني، فكانت من تركيا.
وبعد وفاة والدها حين كانت تبلغ من العمر 10 أعوام، التحقت مارسيل بمدارس مختلفة، بما في ذلك مدرسة للأطفال اليهود كانت تديرها راهبات كاثوليك، وصارت تتحدّث اللغتين الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ولعبت كرة السلة وانضمت إلى حركة الشباب الصهيوني.
كانت مارسيل، صهيونية متفانية، وكانت تعمل إلى جانب أنها رياضيّة سكرتيرة في القاهرة.
وبحلول عام 1951، كان ضابط المخابرات الإسرائيلي، أبراهام دار، في القاهرة يعمل مع جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) لتجنيد الشباب للوحدة 131.
وقام أحد أصدقاء مارسيل بتقديمها إلى رجلٍ جعلها تلتقي آخيراً بأبراهام، الذي كان يستخدم اسم جون دارلينغ.
وتوصلوا إلى قصةٍ تُضمِر الحقيقة وتُظِهر أن مارسيل قد وُظِفت سكرتيرة بدوام جزئي لدى أبراهام، في حين أنها ستتولّى في حقيقة الأمر مهام الاتصال بين خلايا الوحدة السرية في القاهرة والإسكندرية.
وكانت المرأة الوحيدة في مجموعة شملت حوالي عشرة مصريين.
بقيت خليتها نائمة إلى حين استيلاء جمال عبدالناصر على السلطة
كانت مهمّة مارسيل الجاسوسية خاملة إلى حدّ كبير، حتّى حلول عام 1954، حين استولى جمال عبدالناصر على السلطة في مصر بعدما تزعّم الانقلاب الذي أطاح بالملك فاروق قبلها بعامين، وكانت إسرائيل قلقة حينها من أن يؤمم جمال عبدالناصر قناة السويس ويقطع طريق الشحن المهمّ.
مهمة الخلية تفجير القنابل لإقناع البريطانيين والأمريكان بالبقاء في مصر
وكانت مهمّة الوحدة 131 هي تفجير القنابل، في عملية ترمي إلى إقناع القادة البريطانيين والأمريكيين بأن عبدالناصر عاجز عن حماية ممتلكاتهم ورعاياهم.
لكن العملية سوزانا، مثلما أُطلِق على المهمة، لم تحقق شيئاً من شأنه الإخلال بالسياسة الغربية تجاه مصر.
يوليو/تموز 1954.. زراعة القنابل في المؤسسات المدنية
في يوليو/تموز 1954، زرعت الخلية السرية قنابل حارقة في مكتب بريد في الإسكندرية، وفي مكتبات في وكالة المعلومات الأمريكية في القاهرة والإسكندرية.
وانفجرت عبوة ناسفة كان من المقرر لها الانفجار في مسرح بالإسكندرية في جيب أحد المتآمرين، مما أشعل ثيابه. وأثار اعتقاله واعتقال آخرين ممن شاركوا في المؤامرة قلق مارسيل.
أغسطس 1954 محاولة مارسيل الهروب واعتقالها
هربت مارسيل نينيو، التي كان اسمها الحركي هو كلود، وكانت مسؤولة عن الاتصال بالعملاء الآخرين دون أن تشارك في التفجيرات، من القاهرة في أوائل أغسطس.
حيث سافرت على متن حافلة متجهة إلى رأس البر، وهي مدينة ساحلية على البحر المتوسط.
وأثناء تناول الغداء في أحد الفنادق، سمعت نداءً من أحد مكبرات الصوت يستدعيها للردّ على مكالمة هاتفية.
وعندما وصلت إلى الهاتف، ألقى رجال المباحث القبض عليها ونقلوها بالقطار إلى القاهرة، وهناك خضعت مارسيل للاستجواب.
وعرفت عملية إلقاء القبض عليها في إسرائيل، باسم «فضيحة لافون» و»العملية القذرة».
وكانت الشبكة اليهوديّة تضُمّ 8 أعضاء هم: موشيه مرزوق، مائير ميوخس، مائير زعفران، صموئيل عزر، فيكتور ليفي، روبرت داسا، ماكس بينت، والمرأة الوحيدة في الشبكة كانت مارسيل نينيو.
صُفِعت مارسيل، وشُد شعرها بعنف، وجُلِدت قدماها بعصيّ من الخيزران، في أحد أشكال التعذيب يُدعى «الفَلَقَة».
يقتبس كتاب «Operation Susannah» أي «عملية سوزانا» الصادر عام 1978، من تأليف أفيزر غولان، عنها قولها: «لقد صرخت، وبكيت، وربما حتّى يكون قد أُغمي عليّ، أنا لا أتذكرّ. كانوا يوقفون الفلقة بين الحين والآخر ويحاولون إقناعي، وحين فشلوا جرّبوا التهديد، ومن جديد هددوني بالاغتصاب، وبالإعدام. ومرّة أخرى، كانت حركة عصا الخيزران تحدث صفيراً في الهواء».
ديسمبر/كانون الأول 1954 محاكمة الأسطورة
بدأت محاكمة عميلة الموساد أو كما يسمونها «الإسطورة» في أواخر عام 1954 في القاهرة، وحين انتهت في العام التالي، كانت الأحكام الصادرة بحقّ المذنبين تنطوي على الإعدام شنقاً لاثنين من الجواسيس، والسجن 15 عاماً لمارسيل وأحد شركائها، وأُرسِلت حينها إلى سجن النساء.
كانت لتلك المهمة الفاشلة تداعيات سياسية حادة في إسرائيل
قال موشيه شاريت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إنه لم يُحَط علماً بالعملية السرية. وبعد وقت قصير من المحاكمة استقال بنحاس لافون وزير الدفاع آنذاك، وزعم أنه لم يكن يعلم بشأن المهمة الفاشلة، لكن العقيد بنيامين جيبلي، رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلي، أصر على أنه تلقى أوامره من لافون.
وجدير بالذكر أن عبدالناصر قد أمم قناة السويس في عام 1956 بالفعل، مما أدى إلى العدوان الثلاثي على مصر، حيث غزت إسرائيل مصر في أواخر أكتوبر/تشرين الأوّل، وأعقبتها القوات البريطانية والفرنسية.
وعادت فضيحة عملية «سوزانا» إلى التجلّي من جديد في أواخر عام 1960، واستمرت حتى العام الذي يليه عندما استقال رئيس الوزراء دافيد بن غوريون لفترة وجيزة من منصبه بعد اعتراضه علناً على تقرير أصدرته لجنة وزارية يُبرئ لافون من الاتهامات التي وُجِهت إليه بإصدار أمر بالتفجيرات.
وفي إسرائيل، أُطلق على المهمّة اسم «فضيحة لافون» و»العملية القذرة».
كيف قضت فترة السجن في مصر؟
في مقدمة كتاب «عملية سوزانا»، نشرت رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير المزيد من المعلومات حول عملية التخريب الفاشلة أكثر مما عرفه الجمهور من قبل، كما وصفت حياة مارسيل في السجن 14 عاماً إلى حين إطلاق سراحها.
وكتبت مائير: «كان لديها راديو ترانزستور ليس من القانوني حيازته، وكانت تستمع من خلاله إلى الأخبار، وقبل النوم، كانت تُشغِل آخر بثّ للإذاعة الإسرائيلية لسماع النشيد الوطني الإسرائيلي Hatikvah (الأمل)».
وبعد انقضاء سجنها الذي حاولت به الانتحار مرتين، تعلمت اللغة العبرية وتخرجت في جامعة تل أبيب، التي درست بها الأدب الإنجليزي والفن.
1968.. إطلاق سراح العميلة مارسيل
أُطلِق سراح مارسيل في عام 1968 في صفقة تبادل أسرى شهدت تبديلها هي وعدد قليل من العملاء الإسرائيليين مقابل سجناء مصريين كثيرين وقعوا في الأسر الإسرائيلي خلال حرب الأيام الستة بين إسرائيل ومصر في عام 1967.
في السنوات التي أعقبت إطلاق سراحها، أعربت عن مشاعر مختلفة حول فترة احتجازها.
ففي عام 1975، حين ظهرت على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، أعربت عن شعورها بالإحباط لأن الساسة الإسرائيليين لم يُحرروها هي ورفاقها في وقت أبكر مما فعلوا.
لكن عندما تحدثت في عام 1986 إلى صحيفة Maariv، وهي صحيفة ناطقة بالعبرية، قالت: «الحياة قصيرة وجميلة ولا ينبغي إهدارها في الشعور بالمرارة، انظروا إلى ما لدينا من بلد جميل».
ولم تتوفر على الفور معلومات عن الناجين من العملية التي شاركت فيها نينو.
لكن في عام 2005، مُنِحت هي واثنان من الأعضاء الباقين على قيد الحياة من عملية سوزانا، وهما روبرت داسا ومائير زعفران، رتباً عسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلية نظير خدمتهم للبلاد.