انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني… أزمة جيش أم تكتيك؟
أظهرت الصفحة الرئيسية في “هآرتس” أمس صورة أبناء عائلة دافيد غرانيت قرب قبره في المقبرة العسكرية في جبل هرتسل، مبكرين زيارته السنوية طبقاً لتعليمات الحكومة في أيام كورونا. الملازم غرانيت، ابن مستوطنة عوفرا، قتل في اشتباك مع رجال حزب الله في جنوب لبنان في فبراير 1999، كان هذا أحد الأحداث المعروفة والصعبة في الفترة التي سبقت انسحاب الجيش الإسرائيلي من المنطقة الآمنة.
وبحسب صحيفة “هآرتس” العبرية، وقد قتل فيه ثلاثة ضباط، منهم قائد دورية المظليين الرائد ايتان بلحسن. بعد أسبوع قتل العميد ايرز غريشتاين، قائد وحدة الارتباط مع لبنان. إن موت غريشتاين في انفجار عبوة جانبية مع جنديين آخرين ومراسل “صوت إسرائيل” ايلان روعيه، سرع في انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، الذي استكمل بعد ذلك بسنة وثلاثة أشهر.
اشتباك دورية المظليين أثار أصداء كثيرة لسبب آخر. أصيب بلحسن وضابط آخر هو الملازم ليرز تيتو بصلية نيران لحزب الله أثناء تقدمهم داخل شق ضيق. غرانيت، قائد طاقم في الوحدة، قفز إلى داخل الشق لمساعدة المصابين فأصيب. أحد جنود الدورية، العريف، عوفر شارون، أخبر لاحقاً في مقابلة مع افيحاي بكر في “هآرتس” كيف تردد في النزول إلى الوادي رغم أن قائده غرانيت دعاه للمساعدة. “لقد عرفت أن الانقضاض الآن معناه الموت في حرب غبية. لم أتجرأ على النزول. عرفت أن من سينزل لن يعود. قصة “لا أؤمن بأن نكون في لبنان” سيطرت علي”.
شارون الذي اعتبر جندياً متميزاً ويحبه قائده، هو ابن دروريا شارون، من النشيطات البارزات في “أربع أمهات” – الحركة التي أثارت تغييراً زلزالياً في المجتمع الإسرائيلي وقادت الدعوات للانسحاب من لبنان. القضية أثارت عاصفة جماهيرية، وفي أعقابها أصدر ضابط التعليم الرئيس، اليعيزر شتيرن، الآن هو عضو كنيست في “يوجد مستقبل”، ورقة توضيح للقادة أدان فيها الجندي الذي لم يهاجم. ولكن في الوقت نفسه عكست عمق الأزمة التي كان يعيش فيها الجيش الإسرائيلي، 17 سنة في حرب لم يطلب منه أحد أن يحسمها وينتصر فيها.
المكوث الطويل والزائد في لبنان يعود الآن إلى حياتنا بصورة مكثفة حول يوم الذكرى. هذا مرتبط بالذكرى السنوية الـ 20 للانسحاب من هناك، التي ستبدأ في 24 أيار، لكن ليس بهذا فقط. كتاب، مسلسل تلفزيوني وثائقي ومجموعة “فيسبوك” كثيرة المشاركين، التي يتحدث فيها جنود سابقون عن تجاربهم من المنطقة الآمنة، أعادت إلى الوعي الحرب المنسية.
بتأثيرهم، يفحص جهاز الأمن الآن إعطاء أوسمة للجنود الذين حاربوا هناك في الفترة التي أعقبت حرب لبنان الأولى. يبدو أن أيام كورونا ساهمت في ذلك أيضاً. الانغلاق المستمر في البيوت يطالب كثيرين بالتنقيب في الذاكرة. لبنان في الفترة بين الحرب الأولى في 1982 والانسحاب في 2000 بقي جرحاً مفتوحاً لأبناء الجيل الذي حارب هناك.
لم تغب فترة راحة قصيرة هزلية بسيطة من ذلك النقاش المتوتر، وهي إسهام رئيس الحكومة المناوب القادم بني غانتس. غانتس كان آخر قائد في المنطقة الآمنة الذي استدعي فيها ليحل محل غريشتاين، بعد فترة قصيرة من موت الأخير. في المنشور الذي نشره في مجموعة “فيسبوك” ارتكز رئيس الأركان السابق على أيامه في لبنان ووصف ليلتين هناك، الأولى كجندي شاب في المظليين في عملية الليطاني والثانية كقائد لوحدة الارتباط مع لبنان، في ليلة الانسحاب الأخيرة. ولكن غانتس أخطأ في التاريخ عبر منشوره ونقل موعد الانسحاب إلى يوم واحد قبل ذلك.
حازم وغير مفيد
سلسلة الأحداث التي بدأت في كارثة الطائرات المروحية في شباط 1997 وانتهت بقتل غريشتاين بعد سنتين، أدت إلى تغيير تدريجي في الرأي العام الإسرائيلي. وقد أثرت أيضاً على قرار رئيس الحكومة إيهود باراك حول انسحاب أحادي الجانب من لبنان. وقبل باراك كان دعا إلى ذلك قائد المنطقة الشمالية في حينه عميرام لفين، الذي سعى إلى خط حازم وأكثر مبادرة في الصراع أمام مجموعات العصابات التي شغّلها حزب الله.
ضابط خدم تحت إمرته، قال أمس للصحيفة: “لقد أعجبت بعميرام وقدرته كشخصية وقائد عسكري، لكن الحقيقة لم يكن هناك فائدة في مواجهة حزب الله. لم نكسب أي شيء عدا القليل من الشعور الجيد. هذا ذكرني بإحصاء الجثث الذي قام به الأمريكيون مع قتلى الفيتكونغ في عمليات “ابحث ودمر في فيتنام”. هذه العمليات كانت جيدة لمعنويات الجيش الإسرائيلي. ولكن إذا غابت صافرة نهاية اللعبة فلن يتغير شيء.
“إذا لم تكن تعرف مدة بقائك هناك، وكنت فاقداً للخطة، فسينتصر من لديه المزيد من الوقت والصبر. في السنوات الأخيرة من المكوث في لبنان نجحنا في خفض نسبة خسائرنا وهم خسروا أكثر. التجربة كانت محتملة، لكن هذا لم يغير شيئاً لأننا لم نسع إلى أي هدف”.
“إذا كان هناك شيء أغضبني في تلك السنوات فهو أن عميرام كان الوحيد الذي تجرأ على الوقوف علناً ضد استمرار التواجد هناك. معظم قادته وزملائه لم يريدوا الدخول إلى هذا الأمر. مأساة جنوب لبنان تبدأ بخوف السياسيين من عدم موافقة الجمهور على الانسحاب لأنه سيعتبر تخلياً عن سكان الجليل. وهي تنتهي بضغط من الجمهور حيث تسببت “أربع أمهات” في انسحاب الجيش الإسرائيلي. هذا قرار كان يجب اتخاذه أصلاً دون صلة بالاحتجاج، استناداً إلى منطق عسكري”.
إرادة حزب الله
أراد باراك في البداية ربط الانسحاب باتفاق سلام مع سوريا الذي تعيد إسرائيل في إطاره هضبة الجولان. وعندما تعثرت الاتصالات مع الرئيس حافظ الأسد صمم رئيس الحكومة على الإيفاء بوعده الانتخابي. كبار ضباط الجيش الإسرائيلي وقسم الاستخبارات شككوا في قراره وحذروا من أخطار الانسحاب أحادي الجانب. رئيس الأركان شاؤول موفاز عارض بشدة (يجب القول في صالحه بأنه يعترف الآن بأن باراك كان محقاً). باستثناء لفين، فإن عدداً قليلاً في قيادة الجيش العليا أيدوا الانسحاب. في الاستخبارات العسكرية سمع صوت وحيد هو صوت رئيس قسم الرقابة العقيد شلومو كاشي.
وقف كاشي خلال سبع سنوات على رأس جسم صغير باسم “العكس هو الصحيح”. كان هذا أحد دروس فشل حرب يوم الغفران، وتعيين ضباط مهمتهم إسماع صوت مختلف معارض للتفكير المقبول. وُصفت الأمور في “شفق الصباح” وهو كتاب للعميد احتياط عاموس غلبوع، الذي يوثق انسحاب إسرائيل من لبنان. “كاشي كان ضابطاً لامعاً، له تجربة بحث غنية. ورقة رقابته التي تطرق إليها باراك عرضت رؤية ثورية: حزب الله غير معني بخروجنا من لبنان، بل معني ببقائنا حتى يسفك دماءنا ويجعلنا ننزف ويعزز صورته كمحارب كبير أمام الجيش الإسرائيلي”.
في النقاش الذي جرى في مركز تراث المخابرات في 2015 شرح كاشي: “أعتقد أن رئيس قسم الرقابة يجب أن ينشغل أيضاً بمواضيع تكتيكية، وبمواضيع كبيرة. مثلاً ما الموضوع الكبير؟ صديقي الجنرال يوسي بيدتس قال إن النجاح الكبير والوحيد للرقابة هو انسحاب الجيش من لبنان قبل العام 2000. وقلت إن حزب الله لا يريد انسحابنا من لبنان؛ وأن كل عمل حزب الله يجب أن يحلل من زاوية أن حزب الله لا يريد انسحابنا من لبنان رغم أنه يعلن العكس. قالوا لي إن هذا سيكون أكبر إنجازات حزب الله إذا نجح في إخراج الجيش من لبنان.
“قلت سيكون هذا أكبر كوارثه، وسيفقد حقه في الوجود، المقاومة. انسحبت إسرائيل من خط الحدود وهذا خلق مشكلة لحزب الله. قبل بضعة أشهر من الانسحاب وصلتنا معلومات بأن حزب الله يقول في الغرف المغلقة إنه ضد انسحاب إسرائيل وإنه يخاف كثيراً منه ويريد التشويش عليه. خطط للانسحاب في 7 تموز، وتم تبكير الموعد إلى 24 أيار، لأن حزب الله خطط لإنهاء ذلك ونحن في ذروة الخسائر”.
كتب غلبوع في كتابه بأن “الفهم البارز أكثر هو حقيقة أن رئيس الحكومة اتخذ قراراته المبدئية بدون إشراك قسم الاستخبارات. الاستخبارات العسكرية غابت تماماً ومثلها الجيش عن مجموعات التخطيط لرئيس الحكومة قبل اتخاذ قرار الحكومة الوحيد في آذار 2000 حول الانسحاب من لبنان. وثمة مهزلة تاريخية بأن قرار الدخول إلى لبنان في 1982 وكل المواقف السياسية المرتبطة بذلك اتّخذها المستوى السياسي (اريئيل شارون ومناحيم بيغن) بدون الاهتمام بتقديرات الاستخبارات العسكرية”.
من لبنان إلى المناطق
السنوات التي سبقت الانسحاب من لبنان وبعده نقشت في الذاكرة مثل تسلسل قصير من الصور. الخيط الرابط والمنطق الذي يقف وراء هذه العمليات ما زال ينقصني بصفتي مراسلاً عسكرياً جديداً، والذي بدأ للتو في استيعاب الأحداث وما زال يحاول معرفة أين وبأي طرق تتدفق المعلومات.
كانت مشاهد نقشت إلى الأبد. اهارون برنياع يجلس في منزله بـ”حولون” ويتحدث عن ابنه نوعم الذي كان عضواً في وحدة لإزالة الألغام، وقتل في انفجار عبوة قرب موقع البوفور عشية يوم الكارثة في 1999. وهو يعلق على صدره شعار “الخروج بسلام من لبنان”، الذي أعطته إياه أمه. الأم الثكلى اورنا شمعوني تندفع إلى مؤتمر صحافي لرئيس الأركان موفاز في الصباح الذي أعقب الانسحاب، وتقوم بتهنئة الجنود والقادة؛ أما “مقاتلو جفعاتي”، في نهاية زيارة خاطفة للموقع القريب من جدار الحدود، شرحوا لنا بأنه “لا أحد يريد أن يكون الجندي الأخير الذي سيقتل في لبنان”. السفر على طول الحدود في اليوم التالي للانسحاب في سيارة واحدة، حيث مقابلنا قوافل المحتفلين اللبنانيين وهم يلوحون بأعلام حزب الله الصفراء.
كان هناك أيضاً طلعات جوية قصيرة، دخول وخروج إلى المنطقة الآمنة التي كانت مصحوبة دائماً بالتنسيق المعقد مع الجيش في محاولة لتضليل نشطاء حزب الله، حيث قدرت المخابرات بأنهم يتنصتون على المكالمات. قادتنا الذين كانوا في جنوب لبنان أصبحوا قادة الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية. وعدد قليل منهم ما زال في الخدمة العسكرية.
القائد تمير يدعي، هو الآن قائد الجبهة الداخلية، في حينه كان قائد كتيبة شاب في خط عايشة – ريحان، الذي كان يستخدم في وقت فراغه كرة من البلاستيك للضغط عليها في محاولة لمعالجة كف يده التي أصيبت في اشتباك سابق في الخليل. ومقابله قائد الفرقة ايفي ايتام، الذي ظهر وكأنه خرج من فيلم عن حرب فيتنام، شخص بدأ بمحادثة في الخلفية مع مراسل في الساعة الثانية فجراً وهو يفتح رسائل بسكين الكوماندو الحادة.
الصور كثيرة: موشيه كابلنسكي، وقائد اللواء تشيكو تمير، يدخلان للحديث مع المظليين في موقع طيبة قبل الانسحاب (خطاب كابلنسكي الذي تكرر من موقع إلى موقع، موثق بدقة في كتاب رون ليشم “إذا كانت هناك جنة”)؛ بني غانتس وقائد جيش لبنان الجنوبي، الجنرال انطوان لحد، يتحدثان مع جنود جيش لبنان الجنوبي في موقع صغير متقدم في القطاع الغربي، ويشير غانتس عند خروجه إلى أن جنديين “كانا مسطولين تماماً”. بالطبع الخروج نفسه: جنود الكتيبة 13 لغولاني ينزلون من ناقلة جند مصفحة بعد عودتهم إلى البلاد من بوابة عيجل قرب المطلة.
في دفتر مذكرات من تلك الفترة موثقة كلمات الجندي جلعاد حداد من محادثة هاتفية مع والده في بيته بصفد: “كفى. انتهى لبنان”. بعد ذلك أخبرنا: “لقد بكيت طوال الطريق، أقسم بأنني بكيت. في النهاية بقينا أقل من 15 شخصاً في الموقع. جنود جيش لبنان الجنوبي اختفوا، هربوا. كل واحد منا شاهد الموت بعينيه”.
تحلق فوق الجميع صورة ايرز غريشتاين، طويل القامة، الواثق من نفسه وسليط اللسان. في تموز 1998، على سطح موقع ريحان، قال للمراسلين إن “المظاهرات من أجل الانسحاب أحادي الجانب تخلق تهديداً على حياتي وحياة جنودي”. وعندما توسل إليه ممثل المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي أن يضبط لسانه، رفض غريشتاين.
في نهاية شباط 1999 وبعد أسبوع بالضبط على موت الضباط من دورية المظليين، قتل غريشتاين. السفر للمشاركة في جنازته، من قيادة وحدة الارتباط في المطلة إلى الكيبوتس الذي تربى فيه، رشفيم، في غور بيسان، كان تجربة لا تنسى. قائد كتيبة من غولاني خدم تحت إمرة إيرز وبالأساس الشاويش في الكتيبة الذي سمعت كل جملة من فمه مثل نص ليوسي بناي في “قصاص الأثر الشاحب”، أبحرت في إيراد قصص عن الرجل الذي وصفه كثير من مرؤوسيه كأكبر من الحياة، الذي لا يهزم.
في ذلك المساء قال باراك، في مقابلة مع القناة الثانية، بأنه إذا فاز في الانتخابات سيسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان خلال سنة من تشكيل حكومته. الإعلان الذي حصل على تأييد الجمهور يبدو أنه غير وجه الحملة الانتخابية. فاز باراك حقاً بعد شهرين وانتصر على بنيامين نتنياهو وأوفى بوعوده.
الجندي الأخير خرج من لبنان في صباح 24 أيار 2000. بالمناسبة، رسمياً كان ذاك هو بني غانتس الذي وثقه المصورون وهو يغلق البوابة من خلفه. في اليوم التالي، نشر في “هآرتس” كاريكاتير لعامس بدرمان، يظهر فيه ضابط وهو يغلق البوابة. ولكن لزيادة الضمان يضع المفتاح تحت صخرة في الجانب الإسرائيلي من الحدود.
القصة لم تنته بالانسحاب، ولم تنته على الإطلاق بهذه الصورة. بعد أربعة أشهر اندلعت الانتفاضة الثانية في المناطق. نسبها اليمين إلى الثقة التي راكمها الفلسطينيون إزاء إظهار الضعف من قبل الجيش الإسرائيلي. شارون شيطوفي، أحد جنود غولاني الذين تم تصويرهم وهم يبتسمون على حاملة الجنود المصفحة التي يرفرف عليها علم إسرائيل أثناء الانسحاب من لبنان، قتل في تشرين الثاني من السنة نفسها في حادثة إطلاق نار في قرية في جنوب قطاع غزة. وبعد ست سنوات جاءت حرب لبنان الثانية.. خطابات تاريخية أخرى، غزو حماسي آخر، وبعده انسحاب مع ذيل بين الأرجل وكأننا لم نتعلم ولم ننس.