النمل الزومبي
إنهم مثل البشر المتحجرين ليسوا بالأحياء أو الأموات، فهناك كائنات سيطرت على أجسادهم وتتحكم بعضلاتهم.. وتحولهم إلى كائنات غريبة.. إنهم النمل الزومبي.
على الطاولة أمام ديفيد هيوز أستاذ علم الحشرات في جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية، توجد صينيتان من النمل الميت تعلوه دبابيس، يتشبث بعضه بأوراق شجر، والبعض الآخر يلتف حول عصي.
النمل يبدو متجمداً في أوضاع الموت مثل البشر المتحجرين الذين لم يستطيعوا الهرب من بركان مدينة بومبي الرومانية Pompeii، حسب التعبير الوارد في تقرير لموقع wired مقتبس من كتاب: «معاناة الميت الحي Plight of the Living Dead» لمؤلفه مات سيمون Matt Simon، صادر عام 2018.
جميعهم لديهم هياكل غريبة تخرج من جثثهم. هذه هي الطريقة التي يصبح بها النمل العادي كالموتى الذين عادوا للحياة (الزومبي)، موتى يمشون، وأصبحوا بمثابة بيادق للفطريات الغادرة والمذهلة.
إنهم يخترقون عضلاته فيحولونه إلى هذه الحالة الغريبة من النمل الزومبي
يدير هيوز شاشته لعرض صورة مجهرية لعضلة نملة مصابة. وبشكل أكثر تحديداً، شريحة رقيقة جداً من عضلة النمل.
نشاهد نقاطاً هي شرائح مقطعية من الألياف. بين تلك النقط، رغم ذلك، توجد نقاط أصغر من سلاسل الفطر الذي نما بين ألياف العضلات.
يتسلل الفطر ويسيطر على عضلات النمل، لكنه لا يلمس دماغه.
يقول هيوز «إنه في الأساس يحدث ثقوباً في العضلات.»، يقطع ذلك الفطر الأعصاب في العضلات، ويقطع الاتصال مع الدماغ. حيث يعطل الجهاز العصبي بالأساس. ويبدو أن ذلك لا يذهب بالإحساس لدى النمل، لأن الفطر لا يشل النمل تماماً، بل إنه يفرض سيطرة دقيقة على قدراته.
ولكن كيف يتسلل هذا الفطر الضئيل إلى جسد النمل؟
تبدأ الحكاية مع بوغ (خلية تكاثر لاجنسي) فطري متواضع من نوع الفطر المسمى بـ Ophiocordyceps – أو الأوفيو Ophio على سبيل الاختصار – يعيش في الغابات المطيرة.
بمجرد أن يصل إلى الأرض، فإنه ينبت بوغاً ثانوياً ينمو عمودياً، ويميل إلى أن يتشبث بالهيكل الخارجي للنمل.
يقول هيوز قائلاً: «لهذه الأبواغ الثانوية أشواك متجهة إلى الوراء في بعض الأنواع». «لذا يعلقون فقط بجسد النملة مثل لغم قذر. ومن ثم، فإنهم يفجرون حفرة حرفياً ويأكلون بشرة النملة في نفس الوقت. «وذلك بفضل الإنزيمات التي تكسر درع النملة.
كما أن البوغ يزيد الضغط على إطار النملة الخارجي، ومن ثم يصبح الفطر داخل جسد النملة، والذي يمثل له أرض العجائب، لأن النمل ليس مجرد مركبته، بل بطارية غنية بالطاقة، حسب تعبير هيوز.
والهدف استهلاك جسده الغني بالطاقة والمواد الغذائية
بنية النمل، تمتلك جهازاً دورياً مفتوحاً، ومن ثم لا يكون من الصعب، إذاً، أن ينتعش الفطر ويتكاثر، ويستهلك المزيد والمزيد من العناصر الغذائية للنمل.
تنتشر بتات (قطع صغيرة) استكشافية من فطر الأوفيو، تعرف باسم الخيوط الفطرية hyphae، للعثور على المزيد من الطعام، ومن ثم ينمو الفطر كشبكة منتشرة في جميع أنحاء جسم النملة.
فتتسلل الخلايا الفطرية إلى العضلات وتكسر الألياف. وتتكون مستعمرة فطرية، وتشكل ما يسمى أنابيب المفاغرة anastomosis tubes، والتي تشبه الأنابيب الهوائية، بدون الفراغ فقط.
«تتضافر هذه الفطريات معاً في مجموعة وتتواصل فيما بينها وتتبادل الأشياء، داخل جسد النملة، وهذا ما يعرف بالمفاغرة».
السؤال هو – كما يقول هيوز – «ماذا يتبادلون وماذا يفعلون؟ نحن لا نعرف». قد يكون الطعام، عبر البتات الاستكشافية التي تنقل المواد الغذائية في جميع أنحاء الشبكة.
ولكن عندما تصل الفطريات إلى دماغ النمل تتوقف فجأة
تستمر الفطريات في التكاثر، وتنتشر أبعد وأبعد، لتصل في النهاية إلى الدماغ.
ولكنها عند هذا الحد تتوقف.
إذ إن فطر الأوفيو، بكل ما يمتلكه من صلاحيات التحكم بالعقل، لا يغزو دماغ النمل.
بدلاً من ذلك، فإنه ينمو حول الغمد المحيط بالدماغ.
ثم تقرر الفطريات أن تحول النملة إلى قنبلة وأن تجبرها على الانتحار، لكن بعيداًَ عن المستعمرة
بعد ثلاثة أسابيع من النمو، تشكل الفطريات ربما نصف وزن الحشرة، وهي الآن جاهزة لقلب المفتاح واستلام جسم النمل بشكل أساسي.
حتى الآن، تتصرف النملة بشكل طبيعي -لا عثرة ولا عدوان- لا شيء من شأنه أن ينبه مستعمرتها إلى وجود متطفل داخل الجسد.
فلقد تمكن الفطر في الداخل من تنويع المهام التي يقوم بها. بعض البتات يستفيد من المواد المغذية، والبعض يهاجم العضلات، والبعض يحيط بالدماغ، وعلى استعداد لإطلاق قنبلة كيميائية.
عندما تسقط تلك القنبلة، يحرض فطر الأوفيو النملة على القيام بما لا يمكن تصوره: ليس فقط ترك الجسد الذي أصبح بمثابة مستعمرته المحبوبة، بل تخريبها.
فبعيداً عن عيون رفاقها الساهرة، تبدأ النملة الآن في الترنح.
وقد تنفجر وهي في طريقها فوق جذع شجرة، أو تنطلق على طول فرع أو على ورقة، تغرس فكها السفلي في العرق.
فبعد سيطرة الفطر على عضلات الفم، تقبض النملة قبضة الموت. وبعد ست ساعات، تهلك الضحية، ويستهلك الفطر القليل مما تبقى في داخلها.
إنه يوجهها لكي تكون نهايتها في المكان المناسب له
بشكل حاسم، يوجه الفطر النمل كي يصبح على بعد 10 بوصات من الأرض، حيث تكون درجة الحرارة والرطوبة في مستواها الأفضل للنمو المذهل الذي هو على وشك القيام به. على الأوفيو أن يعمل بسرعة، لأن الغابة المطيرة تعج بكل أنواع الفطريات الأخرى (ربما 40 ألفاً من أبواغ الأنواع الأخرى المختلفة على ورقة شجر واحدة) والبكتيريا التي تستهلك بسعادة ما تبقى من النملة.
إذا أخذت مقطعاً عرضياً لنملة في هذه المرحلة، سوف تجد أنه من بين الخيوط الفطرية البيضاء في داخل النملة، هناك عصابة برتقالية تمتلئ بالكربوهيدرات، وربما تغذي النمو المهووس للساق الفطري الذي يطفو على ظهر رأس النمل.
تنسكب الخيوط الفطرية أيضاً في تلك المرحلة من فم النملة، مما يزيد من تأمين الفك السفلي القابض على ورقة الشجر، وينتشر كأنه نوع من الزغب على بشرة النملة، مما يحمي النملة من الغزاة.
كل شيء على هذا النحو يسير وفق النظام، تنضج ساق الأورفيو وتبدأ في إطلاق الأبواغ، التي تنزل إلى النمل التعس الذي يسير أدناها، لكي تعيد الكرة مرة أخرى مع ضحايا جدد.
ولكن هل يبقى النمل هكذا بلا نظام دفاعي في مواجهة هذه الفطريات الغادرة؟
لكي نفهم تماماً تعقيد سيطرة الفطر على نملة وتحويلها إلى زومبي، يجب علينا أولاً أن نفهم عظمة مجتمع النمل.
إذ تحكم مستعمرة النمل ملكة، والغالبية العظمى من الصغار الذين تنتجهم هم من الإناث – العمال الذين يكرسون حياتهم للملكة ولبعضهم البعض. التعاون في مجتمع النمل هو ما يدفع العملية برمتها، يبحث النمل عن الغذاء ويتقاسم الموارد ويحارب المستعمرات الأخرى لحماية أراضيه.
وهكذا تعمل مستعمرة النمل كنوع من الكائنات الحية الفائقة، حيث الآلاف من الأفراد يتكاتفون معاً مثل الخلايا ليكونوا جسداً واحداً سعياً وراء التكاثر على نطاق أوسع.
وبالفعل يمتلك النمل نظام مناعة اجتماعي مذهلاً.. إنه يماثل الحجر الصحي للبشر
المشكلة هي أن كل مستعمرة من مستعمرات النمل هي نقطة دخول للطفيليات ذات النوايا الوحشية.
لذا يحتاج الكائن الفائق الذي تمثله مستعمرة النمل إلى جهاز مناعي من نوع ما.
إن ما يمتلكه النمل هو نوع من المناعة يدعى المناعة الاجتماعية: حيث يعمل كل فرد فيه كخلية مناعية للكشف عن المتطفلين والقضاء عليهم.
لذا إذا تصرف أحد الأفراد في الخلية بشكل غريب – على سبيل المثال، في حالة ترنح – فهذا دليل على أنه يستضيف شيئاً سيئاً يمكن أن يدمر المستعمرة إذا لم يتم وضعه في الحجر الصحي.
لذا يقوم أحد النمل العامل باصطحابه، أو سحبه خارج المستعمرة، وقذفه في مقبرة مع النمل الآخر المريض.
وهكذا يتحايل الفطر الخبيث على دفاع النمل القوي
هذا النظام يمثل مشكلة لفطر الأوفيو، إذ يحب أن ينمو داخل النمل الزومبي، ولكن لكي يستمر عليه ألا يغير من مجتمع مضيفه، (حتى لا ينتبه لعملية الغزو).
إنها مهمة صعبة عندما تكون الألياف العضلية ممزقة.
وما يقوم به الفطر أنه بطريقة ما، يستطيع أن يطيل الوقت اللازم للوصول لهذه المرحلة، بحيث تبدأ النملة في التعثر فقط عندما تكون في طريقها للخروج من المستعمرة إلى أعلى الشجرة.
ليس هذا فقط، ولكن يجب على فطر الأوفيو أن يتجنب الخلايا المناعية للمستعمرة بشكل حرفي، حيث يستخدم النمل الفيرومونات ـ أو الإشارات الكيميائية ـ للتعرف على بعضه البعض وتوصيل أشياء مثل موقع الطعام.
لذلك، ومن أجل الحصول على مكان له، يطوّر فطر الأوفيو وسيلة لخداع الكائن الحيّ الفائق الذي هو مستعمرة النمل.
وحله هو خطف جسد النملة، فإذا جعل الفطر النمل الزومبي يبدأ بالتصرف بطريقة مضحكة، فسوف يتم إخلاؤه، وإذا جعل رائحة النملة غريبة، فسيتم إخلاؤها. وإذا أرسل النمل إلى مكان داخل المستعمرة لتبدأ في إنماء ساق، فسيتم إخلاؤه.
ربما كان المفتاح هو العضلات، ربما يبدأ الأوفيو منذ فترة طويلة يستهلك هذه الأنسجة، والتلاعب بها، بتحريض تباعد الألياف، وشلها.
كما أن الفطريات تسيطر على عقل النملة بطريقة ما، وهكذا تصيبها بالجنون
يقول هيوز: «إن ما يحدث في حال تيبس الميت rigor mortis هو توقف الكالسيوم عن الدخول والخروج من خلايا العضلات.»
ويضيف :»وأعتقد أن ما يقوم به الفطر هو تحفيز حالة من تيبس الميت في النملة الحية». إنها الحياة الحقيقية للميت الحي، حسب تعبيره.
هذا يعني أن الفطر لا يحتاج إلى شق طريقه إلى الدماغ، ولكن هذا لا يعني أنه لا يؤثر بطريقة ما على عقل النملة.
في الواقع، فإن النظر إلى الشجرة التطورية للفطر يمكن أن يعطينا فكرة عن ما يحدث هنا. حيث يرتبط فطر الأوفيو ارتباطاً وثيقاً بفطر يسمى ergot، والذي قام عالم سويسري ألبرت هوفمان بتصنيعه في عام 1938 في شكل عقار الهلوسة ثنائي إيثيلاميد حمض الليسرجيك، والذي يعرف اختصاراً باسم LSD.
الآن، لا يمكننا أن نعرف ما إذا كان النمل المصاب بفيروس Ophio مصاباً بالهلوسة. ولكن إذا فتحت دماغ النملة المصابة وأخذت عينة من الأنسجة، فستجد 55 ضعف الكمية الطبيعية من أشباه القلويات الشبيهة بالإرغوت، والتي تشبه الناقلات العصبية neurotransmitters (نوع من الرسائل اليومية لدى الكائنات الحية التي تلعب دوراً حيوياً في الحياة اليومية والوظائف).
لذا فإن الأوفيوسيل الذي يحيط بالدماغ يعطي على الأرجح جرعة للنمل عبر وقت كبير.
غير أنه جنون له حدود حتى لا ينكشف النمل الزومبي
ولكن مرة أخرى، فإن الفطر يحقق التوازن هنا: يجب أن يدفع مضيفه المجنون ولكنه لا يجعله مجنوناً بما يكفي لجعل المستعمرة تثير الإنذار وتكتشف النمل الزومبي.
ويتعين على البتات المحيطة بالدماغ المسئولة عن إطلاق المواد الكيميائية أن تتواصل مع بقية الشبكة الفطرية في جميع أنحاء جسد النملة دون إرسال النظام بأكمله إلى حالة من الفوضى.
بعض الفطريات تمتص المغذيات وغيرها من الخيوط تسحب الأوتار في العضلات.
وهكذا ينجح الفطر في إتمام دورة حياته عبر السيطرة على النمل وتحويله إلى كائنات أشبه بالموتى الأحياء.
إنهم موتى يمشون ويتحركون.. إنهم بالفعل ينطبق عليهم مسمى النمل الزومبي.