الميليشيا الجوَّالة: هل تكرر إيران تجربة “حزب الله” في أفغانستان؟
لم يعد احتمال إقدام إيران على محاولة تكرار تجربة “حزب الله” اللبناني في دول أخرى مستبعدًا، في ظل الضغوط التي تتعرض لها في الوقت الحالي، على ضوء العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018. ويكمن أحد الأهداف المحتملة التي قد تسعى طهران إلى تحقيقها عبر تلك الخطوة في محاولة استغلال نفوذها الإقليمي لتقليص حدة الضغوط الأمريكية، وربما في مرحلة لاحقة، تعزيز موقعها التفاوضي أمام واشنطن عندما تحين اللحظة المواتية، في رؤيتها، لإجراء مفاوضات جديدة مع الأخيرة.
لكن ثمة أهدافًا أخرى قد تحاول إيران تحقيقها في حالة ما إذا أقدمت على اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل هذا الخيار، على غرار تكوين أذرع عسكرية موالية لها داخل أفغانستان، وامتلاك أدوات للتأثير على قرارات الحكومة في المرحلة التالية على الوصول إلى تسوية للأزمة الأفغانية، فضلاً عن تعزيز فرص إشراكها في الجهود المبذولة للوصول إلى تلك التسوية.
توطين “فاطميون”:
لا يبدو أن الميليشيات التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها للمشاركة في الصراع السوري إلى جانب نظام الأسد، سوف تبقى داخل سوريا إلى الأبد. إذ أن التخطيط من البداية اعتمد على أن لا تستقر هذه الميليشيات في دولة محددة، باعتبار أنها من الأساس “ميليشيات جوَّالة” تتواجد أينما تقتضى مصالح إيران ذلك، سواء في سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن أو أفغانستان أو غيرها.
وهنا، فإن احتمال نقل بعض عناصر تلك الميليشيات، أو مجموعات منها على الأقل، إلى دولها الأصلية ما زال قائمًا بقوة، في المرحلة القادمة، خاصة مع استقرار الوضع الميداني داخل سوريا وتغير توازنات القوى العسكرية لصالح النظام السوري.
وبعبارة أخرى، فإنه بانتهاء المهام التي كلفت بها هذه الميليشيات داخل سوريا سوف تبدأ مرحلة جديدة ربما تمارس فيها أدوارًا مختلفة في دول أخرى. وهنا، قد يكون “لواء فاطميون”، الذي تقدر تقارير مختلفة عدد عناصره بما يتراوح بين 8 و14 ألف أفغاني، في مقدمة الميليشيات التي يمكن أن يتم نقل قسم منها إلى موطنها الأصلي، أى أفغانستان، خلال المرحلة القادمة.
وكانت إيران قد قامت بتكوين هذه الميليشيا في الأساس من خلال اللاجئين الأفغان الذين يعيشون على أراضيها منذ فترة طويلة، حيث قامت بتقديم مزايا مادية واجتماعية عديدة لاستقطابهم من أجل دعم النظام السوري، على غرار توفير مرتبات شهرية ومنح الجنسية لعائلات عناصرها، مع التهديد في الوقت نفسه بطرد من يرفض ذلك.
وتشير التقديرات إلى أن عدد اللاجئين الأفغان الذين يعيشون داخل إيران يصل إلى نحو 3 مليون نسمة، منهم مليون فقط مسجلين كلاجئين، فيما يعيش الآخرون بشكل غير رسمي. إلا أن هذا العدد بدأ يتراجع خلال الفترة الأخيرة بفعل الضغوط الاقتصادية التي فرضتها العقوبات الأمريكية في الشهور الأخيرة، حيث بدأت موجات من اللاجئين في الانتقال إلى دول أخرى.
مسارات متوازية:
رغم ذلك، لا يمكن القول إن الدخول في مواجهة مفتوحة مع واشنطن في أفغانستان يبقى خيارًا آنيًا قد تستند إليه إيران في الوقت الحالي. إذ ربما يكون هذا الخيار مؤجلاً إلى حين نضوج معالم المرحلة القادمة، وتحديدًا بعد استشراف التداعيات التي سوف تفرضها العقوبات الأمريكية سواء على اقتصاد إيران أو على دورها الإقليمي ودعمها المتواصل للنظام السوري والميليشيات الأخرى.
ويبدو أن إيران ما زالت ترى أن مرحلة المواجهة في أفغانستان لم تأت بعد، وأنها قد تستغرق وقتًا ليس قصيرًا، بما يعني أن استخدام هذه المليشيات لاستهداف المصالح الأمريكية قد يكون في مرحلة لاحقة، لا سيما في حالة ما إذا اتجهت الإدارة الأمريكية إلى رفع مستوى العقوبات الحالية وتعزيز فرص الوصول بالصادرات النفطية إلى الدرجة صفر، بعد انتهاء مهلة الإعفاءات التي منحتها لبعض المشترين الرئيسيين، أو استخدمت خيارات أخرى للتعامل مع وجود إيران على الأرض في بعض دول الأزمات، خاصة سوريا.
وقد تحاول إيران اختبار خيارات أخرى قبل تكرار ما حدث في العراق في مرحلة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. بل إن اتجاهات عديدة ترى أن طهران تتعامل بشكل إيجابي مع المساعي الأمريكية للوصول إلى تسوية للأزمة الأفغانية، أو على الأقل لا تحاول عرقلة هذه المساعي.
وقد يكون ذلك إشارة من طهران إلى واشنطن بأنه يمكن الوصول إلى توافقات نسبية حول بعض الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب الطرفين، في محالة لإقناع الأخيرة بضرورة تبني خيارات أخرى للتعامل مع الأولى بدلاً من التصعيد الحالي.
لكن إلى الآن، لم تظهر مؤشرات تزيد من احتمالات إقدام واشنطن على التماهي مع هذه الإشارات الإيرانية، على نحو يبدو جليًا في تصريحات المسئولين الأمريكيين، التي تكشف عن احتمال اتجاه واشنطن نحو تعزيز الضغوط المفروضة على إيران لدفعها إلى الاستجابة للمطالب الأمريكية الخاصة بالاتفاق النووي والدور الإقليمي.
وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون آخر من وجه تهديدات مباشرة لإيران، حيث قال في 14 نوفمبر الجاري، أن “الهدف الأساسي من الأول هو خفض صادرات إيران النفطية إلى صفر. نعتزم عصرها بشدة”، في إشارة إلى أن واشنطن سوف تحاول خلال المرحلة القادمة الاستناد إلى آليات عديدة لتجفيف المصادر المالية التي تعتمد عليها إيران في تطوير البرنامجين النووي والصاروخي ودعم حلفائها الإقليميين.
وهنا، يأتي الدور الذي يمكن أن تقوم به الميليشيات الموالية لإيران، التي يمكن أن تتحول إلى “أحزاب الله” جديدة في أفغانستان وغيرها من الدول. وربما تسعى طهران إلى تكرار نموذج “الحشد الشعبي” في العراق، من خلال ممارسة ضغوط على الحكومة الأفغانية لإضفاء طابع شبه رسمي على “لواء فاطميون” على نحو يمكن أن يعزز من دور إيران داخل مراكز السلطة في كابول.
وقد تستند إيران في هذا السياق إلى أن هذه الميليشيات سوف تساعد على مكافحة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان، خاصة تنظيم “داعش”، الذي انتقلت بعض عناصره إلى الأخيرة بعد الهزائم التي منى بها التنظيم في كل من سوريا والعراق خلال المرحلة الماضية.
إلا أن هذه المبررات لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن إيران دائمًا ما تسعى إلى الوصول لتفاهمات مع تلك التنظيمات، بدليل علاقاتها الحالية مع حركة “طالبان” التي تقوم، حسب تقارير عديدة، بدعمها لتعزيز دورها داخل أفغانستان.
عقبات محتملة:
مع ذلك، فإن الجهود التي يمكن أن تبذلها طهران في هذا السياق قد تواجه عقبات عديدة. إذ أن اتجاهات عديدة ما زالت ترى أن نفوذ إيران على الجماعات الشيعية داخل أفغانستان ليس بالقوة التي يمكن أن تعزز موقع إيران داخل توازنات القوى السياسية والعسكرية في أفغاستان.
فضلاً عن أنه لا يمكن التكهن حاليًا بموقف “طالبان” من محاولات إيران توطين هذه الميليشيا داخل أفغانستان، خاصة أن ثمة حدودًا للتفاهمات القائمة بين الطرفين قد لا يمكن تجاوزها بسهولة.
وعلى ضوء ذلك، يبدو أن تحول أفغانستان إلى ساحة للمواجهة بين واشنطن وطهران، سوف يكون احتمالاً مؤجلاً، إلى حين قيام كل من الطرفين باختبار الخيارات المتاحة أمامه في المرحلة الحالية وتقييم مدى تأثيرها على مواقف الطرف الآخر.