المشكلة الاجتماعية (الجنسوية).. نوبهار مصطفى
ستوقف الانسان في العصر الراهن الكثير من المواضيع والمشاكل التي تلفت انتباهه وتشغل باله، كالحروب، وماتجلبه من ويلات على رؤوس البشرية، البؤس الاجتماعي، الازمات الاقتصادية، التضخم السكاني، ارتفاع نسبة البطالة، الاحتباس الحراري، الاوبئة، والامراض المستشرية كالسرطان، السيدا، والعديد من المسائل المتفاقمة الاخرى كحالة المرأة المزدرية، الاسرة، تشتت العائلة، نمط العلاقة بين الجنسين، زيادة حالات الطلاق، تشرد الاطفال، التردي الاخلاقي. ويبدأ التساؤل عن قدرية الواقع الموجود، ألا يمكن الخلاص منه، فهل الحياة المعاشة هي الحقيقة بحد ذاتها؟ ويلج المرء في البحث والتمحيص عن أسباب هذه القضايا خاصة قضية المرأة وحالة الاستعباد المستشرية في شخصية اعضاء المجتمع، وكنه العبوديات المستتبة، خاصة عبودية المرأة المتعشعشة في المجتمع، حيث تتصدر المراة والعلاقات بين الجنسين والتناقضات المتمحورة حولها قائمة القضايا الواجب معالجتها، فلقد تأخرت العلوم الاجتماعية من معالجتها، كما برزت النقصان في الكثير من الآراء والنظريات التي تدعم وتشرعن العبوديات، خاصة عبودية المرأة، إما باجتهادات دينية خاطئة أو نظريات علموية مزيفة، ومن جانب آخر برزت النظريات التي تدحضها، وتسبر أغوار المشكلة بحثا عن أسبابها ومكامن الخطأ سعيا لتجاوزها، وان لم تكن قادرة على تحقيق النتائج المرجوة. فالبعض ربط دونية المرأة واستصغارها لاسباب الفروقات البيولوجية مابين الجنسين ويتصور أن قوة الرجل الجسدية تدعمه الى استعباد المرأة ويرى سادية الرجل وماسوشية المرأة نابعة من طبيعتهما البيولوجية والفطرية، وقدرية وضعها المشؤوم التي لعنها الله منذ الابد، أو ربط الامر بأسباب اقتصادية بحتة.
لكن لدى العودة الى التاريخ وقلب صفحاته الاولى لمعرفة الحقائق، خاصة بعد الاكتشافات العظيمة في علم الاثار (أركولوجيا)، يلاحظ أن المرأة كانت في بدايات التاريخ البشري محور المجتمع وعصب الحياة فيه، فالاكتشافات والمعجزات التي خلقتها (المرأة) ووهبتها للانسانية رفعها الى مرتبة الالوهية، فحسب الاساطير المدونة على اللوحات الطينية في التاريخ الاولي، يلاحظ أن الآلهة كانت أنثى، فألوهيتها نبعت من تقديس المجتمع لها لعظمة دورها في أنسنة الانسان وتكوين المجتمع الانساني من حيث سن القوانين الاخلاقية وتنظيم المجتمع عبر تنظيم علاقات الزواج مابين أفراد العشيرة، العائلة والقبيلة، فعرفت الخطأ والصواب، الجيد والسيئ، الجميل والقبيح بالاضافة الى اكتشاف الزراعة، بناء البيوت الطينية، الرسم والالوان والنقوش ، التداوي بالاعشاب، الطاحونة اليدوية، طحن القمح، الخبز، جميعها شكلت دعما كبيرا لأن تحتاز المرأة على مكانة مرموقة ضمن مجتمعها، التي كانت الحياة فيها طبيعية لم تتخرب فيه طبيعة الانسان ولم تنحرف عن الحقيقة، فالجميع في ظل المجتمع الامومي عاش في ظل كنف السلام وسيادة المساواة، الحرية، العدل، روح المشاركة، والوئام مع الطبيعة الام. لكن يعود السؤال الاول طارحا نفسه، لماذا تغيرت الاحوال، ما الذي جرى على مسرح التاريخ، فانقلبت الآية رأسا على عقب؟ أليست سيادة الرجل هي مسألة فطرية، ألم تكن المرأة دائما تابعة للرجل حسب المفاهيم المتعارف عليها، وان لم يكن هذا فبما يمكن تعليل قضية المرأة، اسبابها التاريخية والاجتماعية، حلولها؟
للاجابة على السؤال لابد أولا من التعريف السليم لمصطلح المشكلة الاجتماعية كي يجري معالجة الامر بموضوعية اكبر. فبعضُ الأفكارِ ترى المشكلة الاجتماعية في البؤسِ الاجتماعي، وبعضُها في غيابِ الدولة، وقسمٌ آخر يعرفها الضعفِ العسكريّ، وأخرى في أخطاءِ النظامِ السياسيّ، ومنها مَن يَراها في الاقتصادِ أو في التَّرَدِّي الأخلاقي. قد تتواجد الجوانبُ الصحيحةُ في جميعِ تلك الآراء، لكنها بعيدةٌ عن عكسِ جوهرِ المشكلة. لكن المشكلةِ الاجتماعيةِ هي الإخلالُ بالديناميكيةِ الأساسيةِ للمجتمع، وخَرقُها. أي العوامل التي تزيل وجود المجتمع عبر ازالة القيم المحددة لذاك المجتمع، القضية الاجتماعية تكون نابعة من اسباب مدمرة لدعائم المجتمع، أي تتشكل بيد الانسان، فمثلا أزمة البطالة، الاستبداد في السلطة، الحروب، التفسخ الخلقي والاجتماعي، تفكك الاسرة، التضخم السكاني، الصحة، …الخ الكثير من المشاكل والازمات التي يتعرض لها المجتمع الانساني تعتبر قضايا اجتماعية، وهي نابعة من اسباب تؤثر على دينامكية المجتمع وتخل به، وتمنعه من التطور السليم.
على ضوء هذا يمكن رؤية الحقائق المعاشة في الحياة الاجتماعية كأزمة اجتماعية كبيرة، باتت فيها المرأة -خالقة الحضارات – جارية رجل وعبدة مطبخ، وآلة للانجاب، ضحية العديد من الاسباب والتي من مهام الكل القاء الضوء على تلك الاسباب والتزام الاقتراب السليم للقدرة على معالجتها بالصورة الايجابية.
وهنا لابد من القاء الضوء على المشكلة الاجتماعية المسماة بالمجتمع الجنسوي، فمصطلح “الجنسية الاجتماعية”، الذي يقابل مصطلح جندر (gender) المستخدَم في الغرب، من المصطلحات المعتمدة في العلوم الاجتماعية، هناك فرق بين مصطلحَي “الجنس” و”جنسية اجتماعية”. فكلمة “الجنس” تشير إلى الفارق البيولوجي ما بين الأنثى والذكر، أما “الجنسية الاجتماعية” أو “النوع الاجتماعي” فهو الفارق الذي يضعه المجتمعُ ويكوِّنه، إذ يقوم بمنح أدوار اجتماعية مختلفة لكلا الجنسين اعتمادا على الثقافة السائدة في المجتمع، فمنذ ولادة الانسان يقوم المجتمع على تنشئته وفق المفاهيم والاعراف السائدة، لاعطاء كل جنس على حدى السلوكيات والعادات والمواقف الاخلاقية والمفاهيم الخاصة به، الموضوعة وفق اطار الفروقات الجنسية بينهما والمحددة وفق زمن ومكان ما وثقافته، اي الجنسوية الاجتماعية هي حالة مكتسبة. لذا يمكن نعت الجنسوية بثقافة المهد يكتسبها الانسان ذكرا أم انثى من بيئته ومجتمعه، عبر الوسائل التدريبية والتربوية والتأهيلية، فالوليد قبل ولادته يبدأ الوالدين والمجتمع بتحديد شخصيته وهويته بألوان لباسه وغرفته والالعاب التي يلعب بها، الى جانب أن الرضيع من نعومة أظافره لايسمع سوى صوت أمه التي تهزه بأغاني تربيه على بعض المفاهيم، ومن بعضها يبدأ دور الأب أو المجتمع الذكوري لزرع خصائصه في الابناء، وتبقى الانثى لديها هي لمتعة الرجل وتسليته ويقومون بتدريبها من حيث الصوت والشكل، ويبدأون بتدوين الايديولوجيات والقوانين الداعمة لترسيخ هذه المفاهيم في فكر الانسان، وصولا الى تطوير الادب والفن الرخيصين.
رغم الشعارات المزيفة والبراقة الى تزينت بها الحداثة الرأسمالية، تزييفها لمفهوم الحرية والمساواة، إنها لم تجلب للمرأة والمجتمع على حد سواء سوى العبء الاكثر، فلقد أولجت المرأة الى حالة أسوأ من سابقة وبصورة مموهة لا يمكن الكشف عنها بسهولة، حيث لونت القباحة والزيف بصور وأشكال لا يمكن معرفة مضمونها وفهمها، لتضيف الضبابية على الاذهان وسكولوجية المرء. فبقيت المرأة العاملة الرخيصة الاجر، الخادمة، الجارية، ممارسة الجنس، لكن على نطاق أوسع لتشمل الاعلان وعالم النت، اضافة الى الدعايات المستغلة لجنس المرأة لزيادة الاحتكار والربح الرأسمالي، إنها السلعة المانحة للذة في دور الدعارة وفي المنازل الخاصة. لدرجة أن المرأة بدورها قبلت بالالاعيب وبدأت هي أيضا تلعب الدور بإتقان، تعرض نفسها بكل طواعية. والتأنيث هي الارضية الخصبة لنفاذ حاكمية الرجل الى أبسط الخلايا في ذهن الانسان والمجتمع.
يتبع على حلقات..
*ناشطة نسوية في سوريا