المشروب المغربي الأول الذي كتب عنه الفرنسيون قبل 100 عام
دخلت فاطمة بقفطانها الأبيض المُزخرف بخيوط لامعة مُذهَّبة، وفي يديها طبق من الحلويات التقليدية مغطاة بثوب يشفُّ عما تحته، تضعه قريباً من صينية معدنية براقة مُحمَّلة بكؤوس مُلونة وإبريق فِضي منقوش، إلى جانبها تماماً صينية أصغر حجماً عليها عُلب مُعبَّأة، بعضهما بالشاي، وبعضها بقطع السكر، فيما يُطِلُّ النعناع من أخرى كأنه باقة ورود معطرة.
منذ زواجها قبل 15 سنة، اعتادت فاطمة على تحضير جلسة الشاي هذه في انتظار عودة زوجها وابنيها وحماها من “مُصلَّى سيدي يوسف بن علي” بمدينة مراكش، يؤدون جميعاً صلاة العيد قبل أن يعودوا مستبشرين وضاحكين يتَحلَّقون على المائدة المُعدة سلفاً فيما يسود الصمت وتتجه الأنظار صوب الجد الذي يبدأ طقوس إعداد شاي صبيحة العيد.
ارتباط المغاربة بالشاي الذي يطلقون عليه “أتاي” وثيق، خاصة لدى مناطق بعينها كالأقاليم الجنوبية والصحراء الشرقية ومنطقة “الحوز” و”عبدة” و”دكالة” و”الشياظمة”، ممن يتفنَّنون في إعداد أقداح لا تقاوم من الشاي، إذ يتصدر المغرب قائمة أكثر الدول العربية استهلاكاً للشاي مع أكثر من 4 كيلوغرامات للفرد سنوياً، وتكون له طقوس خاصة بالمناسبات الهامة والدينية على الأخص.
الشاي المغربي.. ضيافة وكرم
تتقدم فاطمة بمَبخَرة وضعت داخلها جمرات فحم صغيرة تعلوها قطع من العود، سلَّمت المبخرة لحماها بداية قبل أن يمررها لابنه الذي عمد إلى وضعها تحت جلبابه الأبيض، حيث يُحب أن تحتفظ كل ملابسه برائحة عطر هذا الدخان طيلة الأيام المقبلة، قبل أن تُمرر للبقية ويأتي الدور على “المْرشَّة”، وهو إناء صغير تقليدي مملوء بماء الورد، أو زهر البرتقال المقطر بعناية فائقة، ترش على الأكف الممدودة وتُمسح على الملابس والخدود والأعناق.
ينطلق الحديث وتعلو الأصوات شيئاً فشيئاً مع بداية وصول الضيوف، حيث بلغ عدد الحاضرين من أفراد العائلة 12 فرداً ما بين نساء ورجال، لتدخل فاطمة حاملة “المقراج” (إبريق كبير) كان يطرح منذ لحظات سنابل من البخار، ويشرع الحَمُو “با العربي” في إعداد الشاي.
أخذ الشيخ الكبير حفنة من حبوب الشاي الأخضر، ثم وضعها في “البراد” مع قليل من الماء الساخن جداً لغسل الشاي من أي غبار أو شوائب، أفرغ هذا الماء القليل في كأس، وأضاف للبراد قطع السكر ثم الماء السَّاخن، وبعد دقائق قليلة وضع غُصينات من النعناع داخل البراد، وترك المزيج داخله ليُنقع قبل أن يسلم البراد لفاطمة حتى تضعه على نار مهيلة، وهي العملية التي يسميها المغاربة “التَّشْحار”.
بدايات الشاي بالمغرب
يقول الطبيب والمستكشف الفرنسي “لويس طوماس” في كتاب صدر سنة 1918 دَوَّن فيه مشاهداته في الأطلس الكبير المغربي “شرب الشاي عملية تقليدية، وممارسة مقدسة، مليئة بالجدية والدلالة والوقار، إنه المبادرة الأولى في الضيافة المغربية.. حيث يحتلُّ مكانة بالغة الأهمية في حياة المغاربة، فهو مشروب الجميع الغني والفقير”.
لظهور “عشبة الشاي” بالمغرب قصة تناقلها المؤرخون، ذلك أن المغاربة لم يكونوا مفتونين بشرب الشاي، إنما كانوا يكثرون من استهلاك القهوة، ويشربونها في كل أوقات اليوم كما هو الشأن في بلاد المشرق، لكن بعد أن قدَّم الإنكليز الشاي هدية إلى سلاطين المغرب، أهدى هؤلاء بدورهم الشاي لأعضاء حاشيتهم، وسرعان ما انتشرت عادة الشاي إلى أن عمَّت طبقات المجتمع.
يقول المؤرخ والرحالة عبدالكبير الفاسي في كتابه “تذكرة المحسنين”، إن أول من شرب الشاي بالمغرب كان عمَّ السلطان محمد بن عبدالله، وكان والياً على منطقة آسفي (وسط المغرب)، وكان شرّيباً للخمر حتى أكسبه الشرب ألماً عجز الأطباء عن معالجته.
يُتابع الرحالة الفاسي المتوفَّى سنة 1899 ميلادية في كتابه “التذكرة”، أن طبيباً نصرانياً أمعن النظر في حال الوالي السكير عمّ السلطان. وقال: “لا بد من تخليه عن الشرب، فأتاه بشرب الشاي، ولم يزل يُحسِّنه حتى استَغنى به عن شرب الخمر، وعوفي بقدرة الله”، وفق تعبير المؤرخ، وهكذا عرف المغاربة نبتة الشاي كمساعِدة على التغلب على إدمان الخمور، فما زالت تشيع وتكثر حتى أصبحت منتشرة بجميع مناطق المغرب.
شاي وأنغام
بينما كان “با العربي” يصُب الكؤوس فيما يُمرِّرها حفيده الأصغر للضيوف، انطلق ثلاثة من الحاضرين في الغناء بمواويل بطيئة قبل أن ينقلب الإيقاع فجأة ويتسارع مرفقاً بتصفيقات قوية لضبط الإيقاع، وهو غناء مراكشي أصيل يدعى “التقْيتيقات”.
شغف المغاربة بالشاي الذي أصبح مشروبهم الوطني، جعل زجالين وشعراء ينظمون في حبه ولذة مذاقه القصائد، تلقَّفها الفنانون منذ القديم وقدَّموها للجمهور، حيث لاقت رواجاً واستحساناً.
وارتبط ظهور فرقة “ناس الغيوان” ذائعة الصيت بأغنية “الصينية”، يقول مقطع من كلماتها:
“..واعْر (صعب) بْلاه ما ساهل حُب الكاس
واعر بلاهم ما ساهل عشق الناس
آه يا الصينية
..
إلا جاب قدَّامو النَّعناع والشِّيبا
آه يا الصينية..
ومالْ كاسي حزين ما بين الكيسان
أيا نْدامتي
ومال كاسي انِين زاد قَوَّى عْليَّا الحْزان
مال (ما به) كاسي باكي وحدو
مال كاسي نادب حَظو
مال كاسي يا وَعدو
هذا نَكدو غاب سَعدو
آه يا الصينية..”
يحكي الراحل العربي باطما، أحد أقوى وأهم الأصوات بمجموعة “ناس الغيوان” في سيرته الذاتية “الرحيل”، أنه سمع بعض كلمات الأغنية من شخص كان يزور بيتهم كل صباح، يدعى “با سالم”، لتخرج الأغنية للوجود وتنال “الأسطوانة الذهبية” التي تمنحها شركة “فيليبس” في بداية سبعينيات القرن الماضي.
الاحتفاء بكؤوس الشاي لا يكون فقط بالحديث الرائق والأغاني الإيقاعية، بل من المستحسن أن تُرافَق بما يُقضَم من الفطائر المغربية على اختلاف أنواعها والحلويات المعدة خصيصاً بمناسبة عيد الفطر، وهنا تتقدَّم فاطمة لترفع الغطاء الشفاف عن الصَّحن الكبير، وتقدم لضيوفها بعضاً من “الفقّاص” و”الغْرَيْبة” و”كَعْب غزال”.