المسرح بوابة للتطورات البصرية في الفنون التشكيلية المعاصرة
المسرح ركيزة التطوّر الأولى لكل الفنون البصرية واتجاهاتها التعبيرية في العالم وله الفضل الأكبر على تطوير فنون ما بعد الحداثة.
فأن يكون أب الفنون ليس إلا منفذا للتطور الإنساني للتثاقف والتواصل فكم من رواية صقلتها مدارات الركح وكم من تحفة فنية توّجها الأداء المصقول للحكمة للموقف للحضور ولانتصار الابداع بكل صنوفه.
فقد شكّل المسرح ولايزال الفضاء الأول الذي من خلاله تكوّنت الفنون ونضجت وتمرّدت بجمالياتها من المدار إلى الاستقلالية التي تتجمّع على الفكرة والجمال، هذا الجمال الذي هو بمثابة التصور التجريبي المنعكس على بقية الفنون بما شكّل لديها حاجة ومنفذا.
Ynez Johnton ييناز جونستون
ففي ظل التوافق المعاصر لفنون ما بعد الحداثة بالخصوص في الفنون التشكيلية استطاع المسرح أن يقدّم رؤى جديدة وتماثلات كان لها صداها الذي انعكس على التعبيرية والتجريد والمفاهيمية وفنون الفيديو والبصريات الضوئية والتركيب التفاعلي مع الضوء حيث خضعت لشرط التعبير والأداء المتوافق مع الحركة والمؤثّرات.
Otis Oldfield
ولعل تلك الخصوصيات المعاصرة لم تكن من فراغ ذلك أنها كانت من خلال تجارب مختلفة خلقت تعاون الفنون من خلال الأصل الثابت للمسرح وشجّعت على التجريب البصري الذي انطلق لتجارب أخرى وفنون مستقلة بذاتها وبالتالي كان التمهيد لها من خلال التأثر والبحث عن الاختلاف.
فقد تمكّن بعض المسرحيين من خلق روح جديدة وبحث بصري مختلف وغير مألوف لدى المشاهد ليستفز الفكرة ويتعامل مع حسياته ومدى تلقيه، وهنا نذكّر بتجربة جورج الثاني الألماني دوق ساكس ميننجن الذي ركّز على خلق تصورات مندمجة مع الفنون التشكيلية لفرض قدرتها على تمتين الصورة من حيث التعامل مع المسرح كفضاء أو كعنصر فراغ تماما مثل اللغة التشكيلية حيث تكون فيه الكلمة هي العنصر العميق والأداء هو التمثيل الإيهامي بالعمق والتداخل والتفاعل اللوني من خلال التصاميم والملابس خاصة مع تركيز الإضاءة والموسيقى والحركة والديكور والعمق المشهدي، كما اشتغل على المفهوم بتجريد فكرة البطل من الصورة السائدة إلى تعميمها على كل الممثلين ذلك أن لكل ممثل الحق في تشكيل دورة مترابطة بين دوره الرئيسي ودوره الثانوي بشكل يجعله يتقمّص كل الحالات، وبالتالي خلق ميننجن منهجا جديدا في الأداء ولغة بصرية كانت مؤثّرة فيما بعد على الفنون التشكيلية البصرية، دعّمتها أيضا تجربة الروسي قسطنطين ستانتسلافسكي الذي ركّز بدوره على الصورة التشكيلية وجمالياتها لدعم المشهد والأداء من حيث المحتوى والرمز والعلامة ودلالاتها ومن حيث التوافق بين الحضور والأداء لتحريك مسار ذلك الأداء مع لغة الضوء والحركة والاشتغال على الفراغ كمفهوم تعبيري.
Dorothy Sklar
وتجربة إيرفين بيسكاتور الذي وظّف لغة الصورة في محتوى اللوحة وتحوّلها الجمالي في السينما وتعاونها من أجل توثيق المسرح وبصرياته حيث غيّر المنهج التعبيري من التجسيد إلى التوثيق بخلق ملاحم بصرية واتجاهات ماورائية في الأداء بين المعاناة والملهاة تماثلا مع اللغة التعبيرية في أسلوب محاكاة الواقع وتفاصيله الدقيقة، أما غروتوفسكي فقد اعتبر المسرحية لوحة مرئية ذات حركية تشكيلية عناصرها تمثيلية وأدائية صوتية وموسيقية تتحرّك لتجسّد المفاهيم الجمالية إذ لها تناسق توظيفي متوازي مع النص الذي يستحيل معبرا من الوعي إلى الفهم ومنه إلى الرمز.
إن العلاقة بين الفنون التشكيلية والمسرح لم تكن نتاج مرحلة واحدة ولم تنفصل على مرّ كل تلك المراحل بل استمرت في التوافق والانسجام والبحث والنفاذ فالمسرح ظهر بالقناع بالحركة بالتمثيل الركحي والتأثير بالمشاهد المرسومة، فقد تغير القناع حسب الحالة والانتماء البصري وهنا كانت نقطة التلاقي الأولى بينهما على مستوى التوازي في العمل الفني.
عرف القرن العشرين والقرن الحالي ثراء على عدة مستويات تماهت مع التطوير التقني وانفعلت أكثر مع التطور العميق لفكرة الفن التشكيلي ومدارسه حيث تفاعل المسرح مع تلك الحركة فبينما كان المسرح للتشكيليين فضاء واسعا للعرض والاستمرار على المدى الطويل في العرض كان الفن التشكيلي بالنسبة للمسرحيين ملاذا عميق الخيال ممتد الرؤى عميقا في مشاهده وتصوراته وانعكاساته الماورائية، وهنا كان المسرح قريبا من النخبة وكان الفن التشكيلي قريبا من عموم المهتمين ما أثار التواصل المتوازي بين العالمين.
إن علاقة المسرح والفن التشكيلي هي علاقة التساؤلات الإبداعية بين الصورة وانعكاسها الخيال وماورائياته التفاعل وانسجاماته التي تحاول الارتحال عبر الأسئلة لخلق منافذ أوسع بالبحث والتعبير فالمسرح تطوّر بفعل الفنون التشكيلية والبصرية التي بدورها لامست التطور ذاته من خلال التقنيات والأسوب والفضاء والإتاحة التي تسربت نحو الضوء والكادر والأداء والتركيب والصورة والتوضيب المتكامل والتقنيات الحديثة والألوان التي تنتشر بين الفعل والحركة والسكون والانتقال وتلك هي الرؤى التي استطاعت تجاوز الحدود التفاعلية بين العالمين وجعل العلاقة بينهما علاقة ابتكار وتنفيذ طرح وتعبير حضور وأداء.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections