ثقافة وفنون

المستشرقون الجدد .. حركة فنية تشكيلية تخرج الشرق من خيال المستشرقين القدامى

يطلق لفظ الاستشراق على المحاولة التي قام بها بعض مفكّري الغرب للوقوف على معالم الفكر الشرقي وحضارته وثقافته وعلومه، وقد تمكن الباحث الفلسطيني العالمي “إدوارد سعيد” من أن يغوص في مفهوم الاستشراق من مختلف زواياه، باعتباره نوعا من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه.
ويعود مصطلح الشرق إلى التقسيم الجغرافي الغربي للعالم، شرق يضم المنطقة العربية وآسيا
وأفريقيا وغرب يضم أوروبا وأمريكا، ومن هنا سمّى الغرب التوجّه والبحث في منطقة الشرق استشراقا.

ويذكر ادوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” أنه وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية سنة1975، أرسل أحد الصحفيين الفرنسيين إلى بيروت لتغطية الاحداث الصاخبة فيها، وبمجرّد وصوله نقل في تقرير إلى الوكالة الفرنسية للأنباء وبلهجة آسفة معبّرة عن الصدمة من واقع الشرق ” لقد بدت ذات يوم كأنها تنتمي إلى شرق شاتوبريان وبرفال” وهو في حد ذاته كتعبير يخلق خيطا فاصلا في المسار الساكن على حدود البحث التاريخي الأيديولوجي الجغرافي والسياسي لمفهوم الشرق والغرب في التقابل والتوازي والانعكاس والصدام.

 

الإستشراق أو لحظة التصادم الحضاري

يرى المؤرّخون أن ظهور تيّار الإستشراق يعود إلى ما بعد الإخفاق الذي مني به الغرب إثر هزيمته في الحروب الصّليبيّة، ذلك أن هذه الهزيمة لم تمكّن الغرب من تحقيق طموحاته ولم تسعفه بالسيطرة على شعوب منطقة الشرق الأوسط أو المنطقة العربية وهو ما دعاهم إلى التقرب الثقافي ومحاولة التعرف على حضارة الشرق لمعرفته فكان بـ”الإستشراق” إذ بدا في ظاهره تثاقفا وتعرّفا وفي باطنه حمل فضولا ونقلا واستعمارا تحوّل إلى صراع حضاريّ، دينيّ، فكري وفلسفيّ وايديولوجي.
وتعود أولى بوادر فكرة الإستشراق أو الاهتمام بالشّرق إلى القرن العاشر عندما قرّر الرّاهب الفرنسي “جرير دي أولياك” الرّحيل إلى الأندلس حيث تعلّم اللغة العربيّة و وقف على علوم الرياضيّات و الطب والكيمياء و الفلسفة كما قرأ العلوم الدينيّة وكان أوسع علماء عصره الغربيين معرفة بعلوم العرب نقل معارفه إلى روما وانتخب فيها حبرا أعظم و كان أوّل بابا فرنسي، أنشأ مدرستين لتدريس العربيّة وعلوم العرب، ليتحول الشرق إلى هوس وفضول ورغبة غربية ملحّة في التّجديد والتغيير خاصة بعد الحروب الصّليبيّة التي تطلّبت إعادة ترتيب الأوراق لإخراج المجتمعات الغربيّة من الظلام ومن سلطة الكنيسة، بالسّعي للإصلاح وتكثيف الاهتمامات العلميّة وإعادة النظر في المفاهيم الدينيّة والسياسيّة بينما الشرق الذي كان حاثّا للغرب بدأ يتدحرج نحو السبات.
وانطلق تيّار الإستشراق كظاهرة تاريخية نبشت في الشرق بكل تفاصيله مع النهضة الغربيّة حيث اتخذ عدّة ملامح و أهداف ليشتدّ و يتغلغل بالخصوص مع حملة نابليون، وقد ظهر الهوس بالشرق في انجلترا سنة 1779 و فرنسا سنة 1799 انطلقت الرحلات نحو مصر و بلاد الشام و شمال إفريقيا والهند لتصبح هذه الظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للتأمل و البحث خاصة بعد ترجمة كتاب “الف ليلة وليلة” بما يحمله من عجائب لتحوّل الشرق إلى وحي ملهم لكثير من الفنانين والأدباء والشّعراء منهم من اكتفى بالحكايات المنقولة من الرحالة والأحاديث المبالغ فيها التي تصله عن الشرق ومنهم من عزم على الرحيل لرؤية الشرق عن قرب واكتشاف بيئته وطبيعته.

كتب الفنان الأماني ” كارل هاج” سنة 1858 : ” ليعلم هؤلاء الذين يبحثون عن مادة مثيرة يرسمونها أن يتوجهوا للقاهرة وعلى الفنانين أن يروها.. فإني واثق من الحصيلة الرائعة التي سيعودون بها.. إن كنوز الإلهام تكمن على ضفاف نيلها و بين قلاعها و مساجدها و في شوارعها وأزقتها..إنها أسطورة فنية شرقية خالدة..”
لقد تفتحت أعين الفنانين المستشرقين بقوة وانبهار على الشرق الذي سمعوا عنه وشاهدوا فيه مناظر وآفاق غير مكتشفة، استلهمت في لوحات لاقت نجاحا واهتماما أعمق بالشرق الذي سكن مخيلتهم، فقد تعامل المستشرقون مع اللوحة وفق الخيال المنبعث من حكايات “ألف ليلة وليلة” والقصص التي رواها الرحالة فكانت المبالغة في الألوان والمناظر والبيئة التي طفحت بالغرابة، ارتسمت في العمارة والبناء والدور الفاخرة الواسعة، الزخرف والتزويق، الأنهج العتيقة الضيقة، المدن القديمة، الطبيعة وتنوعها العادات والتقاليد التي مست الحياة اليومية: الأسواق، المتاجر، المناسبات الخاصة: الأعياد، الاعراس، جلسات المقاهي، إضافة إلى تصوير مظاهر الفروسية والصحراء وتجسيد العربي الشرقي بتنوع أطيافه وعرقياته بلباسه التقليدي وسلاحه وخيوله، كما اهتم المستشرقون بعدّة مدن لها وقعها التاريخي الحضاري والديني مثل مدينة القدس ويافا وبغداد والقاهرة و دمشق وبيروت وفاس و تونس والجزائر تجسدت في أعمال ميلار -رنست -إليوت كاندي كلارك – غوردن كاوتس- جورج بير- لادوينغ نيو -دي لاكروا.

كما نلاحظ الحضور البارز لصورة المرأة ذلك “اللغز” المثير بكل انبعاثاته الحسية والغرائزية الخفية والمعلنة الشهوانية والتابعة باختلاف مستوياتها الاجتماعية وطبيعته التي أنعشت مخيلة المستشرقين الذي أبدعوا في تصور فضاءاتها المفعمة بالشهوة والمتعة حيث أسقطوا الحياة الغربية على ملامح التفاصيل الشرقية ” جلسات الطرب والخلوات، الحمّام العربي وعالم الحريم والأسواق”، فهي في خيالهم ذات جمال غير مألوف متخفية وراء ستار ” الحريم” أو “الحر ملك”، ونقلوا أيضا صورة البدويات و البربريات واليهوديات، المسيحيات، الشركسيات، فقد بالغ الجيل الأول من المستشرقين الذي اكتفوا بالقصص المنقولة في رسم صورة المرأة في حكايات شهرزاد وقصص الحسان والجواري و سوق النخاسة، لتظهر المرأة بديعة ساحرة ملابسها ملونة شفافة مكشوفة أو عارية إذا صورت داخل عالم الحريم و محجبة مخفية خارج ذلك العالم، أما الرجل الشرقي فكان يصوّر عادة بشعا كثيف اللحية تحيط به النساء الحسان اللاتي يمارس عليهن شهوة التسلط والتحكم بين المتعة والمتاجرة، ففتنة النساء اللاتي كان الرحالة ينقلها خلقت نوعا من الألوان الإيروتيكية التي قادت إلى منافسة وتفنن في رسم الجسد الفاتن للمرأة الشرقية وكان الرسامون يصورونها باعتماد موديلات نساء غربيات داخل المراسم حيث يستجمعون تفاصيل الخيال ويسقطونها على اللوحة لتحمل سحرا مختلف الملامح والتراكمات والعبق الغرائبي.

أثرت العمارة العربية والخط الإسلامي والزخرف الفني للمساجد والبيوت الذي يتميز بطابع عثماني تركي في مصر وبلاد الشام وأندلسي في المغرب العربي في رسومات الجيل الثاني التي بدت واقعية لأنها كانت نقلا لمشاهداتهم ورحلاتهم الحقيقية وتأثرهم بالطبيعة والحياة والانسان بالضوء والألوان بالزينة والبنية العامة للمدن، فتميزت اللوحات بنقل واقعي وفق مدارس فنية انطباعية تأثيرية بحثت في الصورة والمشاهد الطبيعية واشتغلت أكثر على تطوير مقاييس اللوحة الفنية وفق علامات بصرية جديدة ومبتكرة وألوان مشفوعة بانعكاسات ضوئية وزوايا جديدة في التعبير.

وقد صور المستشرقون نابليون كمخلص ليفتحوا الباب أمام الاحتلال بفكرة الأمان والخلاص الذي وجد الأرضية سانحة للتوغل في الشرق خاصة وأنهم برعوا في نقل تفاصيل ذلك الشرق المنهك المتقوقع على تفاصيله بمختلف تلاوينها ومعالمها فقد دخل المستشرقون القصور وتمكنوا من معرفة المجتمع والسياسة واللغة والتاريخ ونقاط الضعف والطباع كما كانوا يتحركون مع الجيش والأمن ويعرفون كل المدن وطرق تأمينها، فحملة نابليون وتيار الإستشراق أيقظ الشرق على صدمة وهوة بينه وبين الغرب خلقت عقدة الخواجة التي تثبت دوما أنه يعيش في عالم آخر وأن الدنيا تسير و أهله واقفون غارقون في اجترار ماضيهم بجهل وبتناحرات أجاد الغرب فصلها وتفتيتها ليصبح التنوع تناحرا وتصادما داخليا وهو ما كان سببا في ضعف قاد لتقسيم واحتلال لتصبح جغرافيا الشرق تركة تقسم على تلك الدول التي هبت مستشرقة لتصبح محتلة.

المرحلة المعاصرة والمستشرقون الجدد

 

بعد سنوات احتلال تفاوتت بين كل منطقة نفض الشرق الغبار عن سباته، لكن الواقع السياسي لم يكن هينا في منطقة حملت الكثير من تفاصيل صادمة داخلية إذ تميزت المرحلة المعاصرة للشرق بتوترات كبرى أفرزتها سنوات الركود والقهر والنضال للتحرر.
كل هذا التوتر خلق الثورات وانتفاضات التحرر والاستقلال وإنقاذ فلسطين فكان المشهد العام للشرق مبنيا على نكبة 1948 فنكسة 1967 فمجازر احتلال صهيونية بريطانية وفرنسية.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى