المرأة الكردية من أين وإلى أين؟ .. ومضة حياة بعد سبات طويل ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن العشرين (الحلقة الثالثة)
بعد قرابة قرن من التمردات والعصيانات الكردية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى قبل منتصف القرن العشرين، دخل المجتمع الكردي مرحلة جديدة. فكل تلك التمردات انتهت بالقمع الوحشي، بعد أن شهدت أغلبيتها خيانةً داخلية وتواطؤاً من أقرب المقرّبين إلى زعمائها، سواء في كردستان تركيا (باكور) أو كردستان العراق (باشور) أو كردستان إيران (روجهلات).
في حين فشلت تجربة “جمهورية مهاباد” حصيلة تخلي بعض الأطراف الخارجية عن دعمها للكرد، فانتهت بإعدام رئيسها “قاضي محمد” ورفاقه عام 1946. أما ثورة “مصطفى البرزاني”، وحصيلة “اتفاقية الجزائر” بين الأطراف المعادية للكرد عام 1975، فانتهت بالفشل الذريع والاستسلام! وهكذا بدأ “الشتاء” الكردي القارس.
ما من شك في أن الكثير من نقاط الضعف والنقص والخلل كانت تعتري تلك التمردات، نتيجة عدم الاتسام باستراتيجية قومية شاملة، بل الاقتصار على أحد أجزاء كردستان، أو حتى على بعض المناطق أو الأقاليم في جزء ما. بالإضافة إلى السمات العشائرية والإقطاعية التي كانت تغلب على زعماء التمرد ومجتمعهم. ولعل أهم نقطة ينبغي التطرق إليها، هي الاعتماد على التوازنات الخارجية وعلى دعم القوى الخارجية ضد العدو المحتل أو المستعمِر لأحد أجزاء كردستان. من الإنصاف أن نقول أن هذه السياسة كانت سائدة في ذاك الوقت دون بديل، بل وما تزال كذلك في منطقة الشرق الأوسط بل والعالم أجمع.
لكن، حينما يتعلق الأمر بقضية شائكة ومعقدة كالقضية الكردية، وحينما يكون العدو إقليمياً في الظاهر ودولياً في الواقع، حصيلة الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي رسمت ملامح المنطقة على حساب الوجود الكردي وفق نظرية الحرب الباردة (سايكس بيكو ولوزان نموذجاً)، فإن نقاط الضعف تلك وسياسة الاعتماد على التوازنات الخارجية كانت -بطبيعة الحال- لن تؤدي إلا إلى الفشل والهزيمة.
ورغم اختلاف أشكال السياسة المنتهجة ضد الكرد ضمن الدول الإقليمية المعنية من حيث التكتيك والتفاصيل، إلا إنها متطابقة مضموناً من حيث إنكار الوجود الكردي وإقصاء الشعب الكردي. لكن، ومن باب التسهيل، لنتخذ كردستان تركيا (باكور) معياراً في تقييماتنا من الآن فصاعداً. وذلك لعدة أسباب جوهرية: لأنها تشكل الجزء الأكبر من كردستان، ولأن درجة القمع الوحشي فيها فاقت حدود العقل والتصور، ولأن السياسة الشوفينية التركية لم تقتصر على إنكار وجود الكرد بعد قمع تمرداتهم، بل ونفذت سياسات ممنهجة وشاملة وصلت حد الإبادة الثقافية والجسدية بهدف القضاء على كل ما يَمتّ للهوية الكردية بِصِلة. بالتالي، فوضع المجتمع والشعب الكردي عموماً، ووضع المرأة الكردية خصوصاً في هذا الجزء كان سيحدد مصير ومسار الكرد في باقي أجزاء كردستان.
ومع الوصول إلى ستينيات القرن العشرين، بات المسؤولون الأتراك يقولون باطمئنان وامتنان: “لقد قضينا على الكرد، ودَفَنّا وطنهم كردستان في قبر من الإسمنت” في إشارة إلى أنهم تَمَكُّنوا من “وأد” الحلم الكردي! فدخل المجتمع الكردي في مرحلة سبات عميق، تَحوَّل فيه كل ما يتعلق بالهوية والقومية والوطن والحرية إلى مجرد ذكريات مريرة. أما سياسة الصهر، فكانت دائرة على قدَم وساق، بحيث بات الجيل اللاحق للتمردات لا يجيد حتى التحدث بلغته.
والأنكى أن الهوية الكردية باتت مصدر خجل وحياء، نتيجة القصف الذهني المستمر الذي يشوه صورة الكردي ويحوله إلى “مسخ” أو إلى كائن “أذناه طويلتان وله ذيل”! وصار الكردي يخاف حتى من ظله، ويبقى ينظر إلى ورائه لدى سيره في مكان ما، ليتأكد إن كان “ذيله” موجوداً حقاً أم لا!
وتَبَيّن أن حلم كردستان قد ذهب من دون رجعة. وسادت البطالة وتفشى الفقر والبؤس بين صفوف المجتمع الكردي بنحو غير مسبوق، بهدف “تربيته” و”ترويضه”. وسارع الكثير من الكرد ليحتلوا أماكنهم بين ردهات الدولة على حساب هويتهم وكينونتهم القومية. فبات الكردي المفضل هو الكردي “الميت” بكل معنى الكلمة. أي الكردي المستترك أو المتفرس أو المستعرب.
ما من شك في أن تداعيات هذا الوضع أثرت في المرأة الكردية بشكل أساسي ومحوري. فالرجل الذي تقمعه الدولة وتمسح رجولته بالأرض، يرجع إلى البيت ويصب جام غضبه على الزوجة والأخت والأولاد، في محاولة يائسة منه لاسترداد رجولته المسلوبة، حتى ولو كان هذا الاسترداد على نطاق ضيق ولعدة ساعات.
وتحول هذا السبات الكردي إلى سبات مضاعف بالنسبة للمرأة: كجنس أنثوي، وكهوية قومية، وكزوجة أو أم أو أخت أو ابنة.
ثلاثة عقود حالكة لم تكن بسيطة أبداً. بل وكانت كل دقيقة فيها تمر على المرأة وكأنها دهر بأكمله! فالرجل الذي يقتل جاره لأجل شبر من الأرض أو بسبب دجاجة، أو أفلس اقتصادياً ولا يجد عملاً يسد به رمقه ورمق أولاده؛ قد أصبح شرساً أكثر من السابق، وصار يحبس المرأة وراء عدة أبواب وحيطان، خوفاً عليها مما يدور في الشارع من جنايات وقتل وتنكيل، وخوفاً من أن تراه وهو يتعرض للذل والهوان من قبل أسياده.
لكن، ومن باب الإنصاف لروح التاريخ وفلسفته الخاصة بمساره، لا بد من التذكير هنا، وعلى الفور، بمقولة جدلية وفلسفية جد مهمة، تقول أنه “كلما كان السقوط كبيراً، كلما كانت الوقفة عظيمة”…
ولعل هذه المقولة تنطبق على كردستان أكثر من غيرها، وخاصة في سبعينيات القرن العشرين. حيث بدأ الحراك الكردي ثانيةً ليكون أشبه بالعاصفة التي تأتي بعد هدوء قاتل. ففي أعوام الستينيات، كانت هناك الكثير من الحركات اليسارية والثورية التركية المنتعشة جداً، والتي أثرت في الطلبة الجامعيين الكرد على وجه الخصوص، فتحولت إلى الشرارة التي أوقدت النار في خبايا “الحلم الكردي المدفون”، وفتحت المجال لانتعاش المشاعر القومية المكبوتة منذ عقود.
هنا تشكلت مجموعة فكرية من بضعة طلاب جامعيين كرد، تأثروا بالموجة اليسارية الثورية الاشتراكية التي كانت تجتاح البلاد بطولها وعرضها… وحاولت أن تجد لذاتها موطء قدم لدى الكيانات التنظيمية التركية اليسارية… لكنها بعد فترة قصيرة وجدت أن هويتها القومية مجرد “نكرة” حتى لدى “الاشتراكيين والشيوعيين”. وأدركت أنه في حال تخلّيها عن هويتها القومية، فلا يمكنها الدفاع عن أية هوية أخرى..
و راح أفراد المجموعة يبحثون ويطالعون ويناقشون، إلى أن توصلوا إلى نتيجة مفادها أن “كردستان مستعمَرة”. فكان ذلك أشبه بإنجاز ثورة، أو بـ”حفر بئرٍ بالإبرة” (على حد مقولة جدلية كردية أخرى) وسط هذا السبات العميق…
كان الطالب الجامعي “عبد الله أوجالان” هو الذي يترأس هذه المجموعة… ويبدو أن هذه الرئاسة أتت كنتيجة طبيعية، حصيلة تفوقه على أقرانه من حيث مستوى الثقافة وبُعد البصيرة السديدة والقراءة العميقة للأحداث… الغريب أن معنى “أوجالان” باللغة العربية هو “الأخذ بالثأر”! وكأن هذا الطالب الكردي قد كُتِب على جبينه منذ الولادة أن يكون رمزاً للأخذ بالثأر لكل الزعماء الكرد الذين انتهى بهم الأمر إلى الإعدام أو القتل دون نيل النتيجة التي حاربوا لأجلها… وللأمانة، ينبغي التنويه إلى أن كلتا المقولتين الجدلتَين المذكورتين أعلاه تَعودان إلى هذا “الطالب” الفذ…
اللافت هنا أن المرأة الكردية أيضاً بدأت تنفض الغبار عن نفسها، وتنخرط في صفوف هذه المجموعة الطلابية النشيطة منذ البدايات، ولو على مستوى عدة شخصيات. فأياً يكن، فإن مجرد التفكير بالبدء بهكذا حراك كان يقتضي الجرأة القصوى، فما بالك بأن تكون امرأة، وتنخرط في الحراك “الثوري” في الأوساط التي تشن فيها دائرة الحرب الخاصة التركية سياساتها الشنيعة المضادة لكل مَن يعارضها عموماً وللكرد خصوصاً، وضمن أجواء اليأس والذل والهروب من الذات ومن الهوية القومية كالهروب من وباء الطاعون!
ظلت هذه المجموعة الطلابية الفكرية تناقش الأوضاع حتى قُبَيل نهاية السبعينيات، لتتجه نحو إحدى أهم الخطوات المصيرية، والتي كانت بمثابة مغامرة مجهولة العواقب حينها، ولا تستند في مسارها إلا إلى الإرادة القوية والقناعة العميقة بضرورة الحراك، أياً كان الثمن، ومهما كانت النتيجة… فاجتمعوا مع قلة قليلة ممن انضم إليهم، شباباً وشابات، في قرية منسية من قرى مدينة ديار بكر، ليُعرَف هذا الاجتماع على أنه “المؤتمر التأسيسي” الذي تمخض عن إعلان “حزب العمال الكردستاني PKK” عام 1978، وبالتحديد في 27 تشرين الثاني، والذي تحول إلى ومضة أمل تبث الحياة ثانيةً في عروق “الكردي الميت”، وتبدأ بخط تاريخه على مسار مختلف تماماً…
لعله من أهم الأسماء النسائية التي كانت حاضرة في تلك الفترة وظلت فعالة في نضالها وصراعها بنحو ريادي فريد للغاية، هي “سكينة جانسيز”، التي اغتيلَت مع رفيقتَين لها في العاصمة الفرنسية باريس قبل عدة سنين… وقد تطرقت سكينة، المعروفة بلقب “سارة” إلى مسار نضالها الشاق والشيق هذا، في كتاب ضخم دوّنته عن ذاتها ويتألف من ثلاثة مجلدات تحت عنوان “حياتي كلها صراع”…
قد تنفرد هذه المقالة عن سابقاتها بقلة التطرق إلى المرأة، نظراً لغياب لونها وطابعها وسط الظلام الحالك الذي عمّ كردستان في تلك الفترة… لكنها في نفس الوقت تشكل الفترة التي تمهد لبروز هوية المرأة الكردية المعاصرة وبنحو مختلف جداً ومميز جداً… وهذا ما سيكون موضوع مقالات قادمة، قد يكون الحديث فيها عن شخصية “سارة” من أهم المحاور التي ينبغي معالجتها ودراستها عن كثب…