المرأة الكردية.. من أين وإلى أين؟..لماذا التنظيم النسائي الخاص؟
كل الثورات التحررية الوطنية “ذكورية” بامتياز!
بدأت رياح الثورة تهبُّ في عموم العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، لتشمل منطقتنا (الشرق الأوسط) مع بدايات القرن العشرين، إلا أن تداعياتها العصرية وصلت كردستان في أواخر ذلك القرن.
ومهما تغيرت الظروف أو حِدّة الصراعات الطبقية أو المذهبية بين بلد وآخر، إلا أن التقلبات التي شهدها العالم قد أفضت إلى تكاثف الحِراك النسائي تصاعدياً، واتجاه النساء نحو “الثورة”. ذلك أن أغلب النساء كنّ يهربن من الأب الظالم أو الزوج العنيف، أو من الضوائق الاقتصادية، أو من النظام المهيمن وطراز الحياة التقليدية فيه.
فأياً يكن، فإن الخيار الوحيد الذي كان يُترَك مفتوحاً أمام المرأة هو “الموت”. لأجل هذا بالذات، فإن انخراط المرأة في صفوف الثورة هو بمثابة التحرر الفعلي بالنسبة لها. ذلك أن التجرؤ على خرق الحدود المجتمعية المرسومة للمرأة ليس بالأمر السهل. فما بالك إذا كانت هذه المرأة “كردية”؟!
في الحقيقة، إن كل الثورات التي شهدها تاريخ البشرية هي ثورات “ذكورية”. حيث سَمَت بشأن الرجل، وحطّت من شأن المرأة. هكذا هو شأن جميع الثورات التي شهدتها المجتمعات الطبقية. فرغم مشاركة المرأة في أغلبها، إلا أن معالجة تلك الثورات لقضية حرية المرأة كانت سطحية وغالباً ما اعتَبَرتها مسألة ثانوية، فارتأت تأجيل النظر فيها إلى ما بعد “التحرر الوطني!. ولأجل ذلك نجد أن ظاهرة “السلطوية الرجولية” تتفشى فيها بسرعة البرق. لذا، كان لا بد من أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار حين البدء بثورة جديدة، إن كنا نود فعلاً عدم تقليد ما هو موجود.
الانخراط الكمي لا يكفي للنضال
إن انخراط المرأة في النضال لا يكفي. والدليل على ذلك أن أغلب الثورات العالمية في القرن الماضي شهدت انخراطاً لافتاً للمرأة فيها.
المهم هنا هو كيفية مشاركة المرأة في النضال، ومدى تأثيرها فيه. لقد تناول الكثير من قادة الثورات الاشتراكية هذا الموضوع، أمثال ماركس وأنجلز ولينين. بل وجميعهم ربطوا تحرر المجتمع بتحرر المرأة. إلا أن الممارسة العملية في جميع تلك الثورات لم تكن تتماشى مع هذا المبدأ الاستراتيجي.
بمعنى آخر، فإن التنظير السديد لوحده لا يكفي. بل يقتضي حتماً ترجمته إلى خطوات عملية. أي أنه يشترط تأسيس البنى التنظيمية وصياغة الآليات التنظيمية التي تُمكّن تكريس هذا المبدأ على أرض الواقع.
لكن ما نراه في جميع تلك الثورات، هو أن اللغة “ذكورية” بامتياز، والرموز السائدة فيها “ذكورية” بامتياز. فجميعنا يعلم أن أغلب النساء المناضلات كنّ يعانين من تداعيات المقاربات “الرجولية” الفظة، ومتروكات لـ”إنصاف” الرجل، لأنه منظَّم وأكثر وعياً! وهذا ما كان يؤدي إلى تكريس “الجنسوية الاجتماعية” حتى ضمن صفوف تلك الثورات، على العكس مما كانت تنادي أو تؤمن به نظرياً.
وأن أعلى سقف مسموح به للمرأة فيها، هو أن تَكون “مساعِدة” للرجل. وحينما ترفض ذلك، فإنها تتعرض للإقصاء والتهميش، إلى أن تقبل بالأمر الواقع، فتقبل بـ”دورها” ذاك، أو أن تلجأ إلى “الاسترجال”، أي إلى تقليد الرجل ومحاكاته. وإذا لم تقبل بهذا أو ذاك، فإنها تضطر لترك النضال، والرجوع إلى ما كانت عليه قبل النضال، تجترّ بذلك بقيةَ عمرها آلام ومخاضات الحرية التي تاقت إليها ولم تتمكن من تذوقها حتى ضمن صفوف الثورة التحررية والنضال القومي!
مشكلة الهوّة بين النظري والعملي
هذا الفارق الشاسع بين التنظير والواقع العملي، قد أدى مع نهايات سبعينيات القرن العشرين إلى ظهور تيارات نسائية تؤمن بعدم جدوى تواجد المرأة ضمن الكيانات النضالية أو الثورية المختلطة، وتدعو إلى خروج المرأة منها. إلا أن التجربة قد بيَّنت مع الزمن أن هذا أيضاً ليس حلاً. بل إنه جوهر “اللاحل”.
بمعنى آخر، وبدلاً من القول بضرورة انسحاب المرأة من النضال القومي أو التحرري في الكيانات المختلطة، فمن الضروري جداً أن تشارك المرأة بفعالية أكبر، ولكن مع وضع عدة شروط لا يمكن الاستغناء عنها. ولعل أول هذه الشروط هو أن تَعَبِّر المرأة عن “كينونتها” هي، كي تتحول إلى قوة مؤثرة ونافذة وفق معايير وأسس الحرية.
نظرة PKK إلى قضية حرية المرأة
مع تأسيس “حزب العمال الكردستاني PKK” بدأت المرأة الكردية بالانخراط في صفوف الحزب، بالعشرات، ثم المئات، ثم بالآلاف. إذ تحول الحزب إلى مركز جذب قوي، لِما تمتع به منذ بداياته من مقاربة مميزة وغير مألوفة تجاه قضية حرية المرأة.
هكذا، لم تَعُد المرأة مجرد “أم مضحية صامتة” أو “زوجة مطيعة خنوعة” أو “موضوع جنسي تابع”. فمع خوض الصراع تجاه هذه النماذج التقليدية، بدأ تَصَوُّر نموذج المرأة الحرة العصرية المتميزة بالانضباط والمتحلية بالوعي.
وبدأ الحوار والنقاش الموسع حول “مَن هي المرأة الحرة؟ كيف تكون؟ وكيف نبلغها؟”.
إنها أسئلة محورية ومصيرية تقتضي اتّباع أساليب جديدة بشأن قضية المرأة، من أجل عدم الوقوع في المطبّات التي وقعت فيها الثورات السابقة. وهنا جاء الرد على تلك الأسئلة بالتأكيد على مشاركة المرأة بصورة فعالة، بل وريادية، في الثورة الكردستانية، ما دامت هذه الثورة تهدف إلى تحقيق “التحرر المجتمعي”.
المقصود من المشاركة الفعالة هنا ليس التواجد الكمّي للمرأة ضمن صفوف الثورة. بل المقصود هو كيفية تحويل هذا الكم النسائي الكبير إلى قوة نوعية نافذة، بحيث تؤثر إيجاباً في مسار الثورة، ولا تقلّد أو تحاكي النماذج الموجودة، بل وتؤدي دوراً ريادياً بامتياز في إنجاز وإنجاح الثورة.
بمعنى آخر، فالمقصود هنا هو تناول قضية حرية المرأة بالتوازي والتداخل مع قضية “التحرر الوطني”. وهنا تتجلى ظاهرة إنجاز “ثورة داخل ثورة”. ذلك أن تحرير المرأة من غبن العبودية وتداعياتها الثقيلة المتعششة فيها منذ آلاف السنين، يشكل بحد ذاته ثورة. وهذا بالذات ما ميّز حركة الحرية الكردستانية عموماً، وحركة حرية المرأة الكردستانية خصوصاً عن غيرها من جميع الحركات السابقة على صعيد مقاربتها الاستراتيجية والمحورية من قضية حرية المرأة. لقد كانت هذه الخطوة تدبيراً وقائياً تجاه إصابة الثورة بالهشاشة أو الرعونة، مثلما كانت خطوة استراتيجية على صعيد إبراز طاقات المرأة الدفينة وصقلها وتطويرها.
ترجمة المقاربة النظرية عملياً
على هذا الأساس أتت خطوة تشكيل “جيش المرأة” كخطوة غير مسبوقة، حيث تناولنا هذا الأمر في المقال السابق.
ومع بروز إرادة المرأة في المجال العسكري على صعيد التكتيك والقيادة الفعلية، وازدياد انخراط النساء بصورة ملحوظة؛ بدأ التفكير في الخطوة الثانية. حيث أن العمليات الاستشهادية التي قامت بها العديد من النساء بمبادرة ذاتية منهن، وخاصة في أعياد “نوروز”، قد أبرزت أمراً ثانياً، وهو أن المرأة لديها طاقات دفينة على صعيد تنظيم الذات والمحيط، في حال هي ركزت على هذا الأمر. وهذا ما شكّل الأرضية الخصبة لإطلاق الخطوة الثانية، ألا وهي تشكيل “التنظيم النسائي” الخاص ضمن حركة حرية كردستان.
أتى تأسيس “الاتحاد النسائي الوطني الكردستاني YJWK” عام 1987 في هذا السياق. حيث تم الإعلان عنه في أوروبا، وبالتحديد في ألمانيا. فكان بذلك أول تجربة للمرأة الكردية في تأسيس كيانها التنظيمي الخاص بها. حيث لعب هذا الاتحاد دوره في تنظيم صفوف المرأة الكردية في المنفى، وتوعيتها، وحثّ الشابات على العودة إلى الوطن، أي إلى الجذور، لنسف الاغتراب عن الذات وعن الأصل والهوية القومية.
تأسيس الاتحاد النسائي الخاص
لكن هذه التجربة لم تكن تَفي بالغرض. ذلك أنه كان من الضروري تنظيم صفوف المرأة في مجتمع كردستان بالذات وعلى جميع الأصعدة. حيث أن القناعة التي تجسدت في الحركة، وعلى حد تعبير قائد الشعب الكردي عبد الله أوجالان، هي: “على المرأة أن تتحول إلى نهر متدفق”. لذا، وفي ربيع عام 1995، وبالتحديد في شهر آذار، تجسدت خطوة التنظيم النسائي الخاص داخل “الوطن” بنحو ملموس. حيث اجتمعت المناضلات الكرديات من مختلف الساحات، لعقد مؤتمرهن التأسيسي الذي انتهى بالإعلان عن “اتحاد حرية المرأة الكردستانية YAJK”.
لقد تطلع هذا الاتحاد إلى الكفاح ضد أنماط الحياة الرجعية السائدة في المجتمع الكردي، وإلى نسف المفاهيم القالبية والدوغمائية فيه، وإلى التمرد على العادات التي تحث المرأة على اللاتفكير. وتطلعَ مقابل ذلك إلى حث المرأة على سلوك التفكير الحر، وإلى صياغة المبادئ والمعايير التي ترتقي بها فكرياً وذهنياً ونفسياً وروحياً، وإلى إشراكها في إنجاز ثورتها الخاصة بها. ذلك أنه حينما تتمكن المرأة من التفكير بحرية، ومن تبيان خياراتها بحرية، ومن تمثيل “كينونتها”، ومن البتّ ذاتياً فيما يتعلق بها، ومن الإعراب عن إرادتها بحرية؛ فحينها فقط بإمكاننا القول أنه بالفعل قد تم إنجاز “ثورة المرأة”.
أي أن تشكيل التنظيم النسائي الخاص يُعتَبَر خطوة تاريخية واستراتيجية، ولا يمكن بالتالي الاستخفاف به أو تأجيله أو المماطلة في تكريسه. فبذلك فقط يغدو بإمكان المرأة الكردية أن تصقل إرادتها، وأن تبدأ بالبحث عن تاريخها المجهول والمدفون، وأن تنفض الغبار عن كل جمالياتها المكبوتة أو المفقودة. وبذلك فقط تستطيع هي أن تفكر، بدلاً من أن يفكر عنها الرجل وتقتصر هي على التنفيذ المحفوف بالجهل، وبالتالي المشروط بالتبعية كنتيجة حتمية.
ماذا يعني التنظيم النسائي الخاص؟
هكذا بدأت معايير المرأة الكردية تتضح أكثر بخصوص: كيف علينا أن نعيش؟ كيف نعقد علاقاتنا الرفاقية؟ كيف نصقل إرادتنا ونسترجع ثقتنا بذاتنا؟ كيف نعي ذاتنا كـ”أنثى”؟ ورداً على هذه التساؤلات المحورية، ركزت المرأة الكردية على تنظيم كافة نشاطاتها الاجتماعية والسياسية في كافة ساحات نضالها، داخل وخارج كردستان، بنحو خاص. وصاغت برنامجها الخاص بها. وحددت آلياتها التنظيمية الخاصة بها. وأسست مقرها الخاص بها للتنسيق بين كافة النشاطات، وللبت في أمورها بذاتها.
لقد شكَّلَت هذه الخطوة ضربة قاضية إلى حقيقة “المرأة الأَمَة”، وهيأت الأرضية للتركيز أكثر على الخصائص الاجتماعية الرجعية في المجتمع الكردي، وتحليلها، ورسم الطريق السديدة للكفاح ضدها والتغلب عليها ووضع البديل الجذري لها.
بمعنى آخر، لقد أدى تأسيس التنظيم النسائي الخاص إلى تحديد معايير المرأة الحرة والمجتمع الحر، وإلى التشبث أكثر بالحياة الحرة، ولكن برؤية نسائية تقدمية. وهذا ما أدى إلى تَمَكُّن المرأة من الرجوع إلى ذاتها أكثر، ومن نقد ذاتها وتحديد سلبياتها والكفاح تجاه نواقصها ونقاط ضعفها من جهة؛ وإلى نقد الرجل أيضاً والكفاح تجاه خصائصه السلطوية وحثّه على تغيير ذاته واحترامها ومعاملتها بالند.
أهمية التنظيم النسائي الخاص
بمعنى آخر، فإن التنظيم النسائي الخاص شرط حتمي للتمكن من خوض الصراع الطبقي والجنسي بأقصى درجاته وبأفضل أشكاله. لأنه يؤَمّن إرادة المرأة، ويُبرز هويتها، ويكشف النقاب عن لونها وطابعها هي. إنه شرط حتمي لإنجاز ثورة المرأة كجزء لا يتجزأ من الثورة الوطنية العامة، ولإنجاح الثورة الاجتماعية الشاملة في أي مجتمع كان.
إنه حجر الأساس لتكريس الروح الوطنية ولكن بشكلها التقدمي وليس البدائي، ولتجذير التشبث بالأرض حتى الرمق الأخير. وهو السبيل إلى تصعيد حرب التحرير الوطنية بصورتها المعاصرة، وإلى صقل إرادة المرأة فيها. وهو الشرط الذي لا غنى عنه من أجل تحويل المرأة إلى قوة واعية منظمة. ذلك أنه لا يمكن للمرأة أن تكافح ضد الهيمنة الذكورية السلطوية ولا أن تتغلب عليها وتتجاوزها من دون تأسيس تنظيمها الخاص بها.
ثم إنه خطوة لا بد منها كي تتصالح المرأةُ مع نفسها بعد أن تتعرف على ذاتها وتحطم ظاهرة “الاغتراب” المعششة فيها من جميع النواحي. وبذلك فقط يمكنها استرداد ذاتها وإرادتها، وفرض احترامها بالتالي على الرجل كنتيجة طبيعية وحتمية.
بمعنى آخر، فإن التنظيم النسائي الخاص وشبه المستقل، هو الشرط الأساسي للانتقام من تاريخ عبودية المرأة، وللتوجه نحو حرية المرأة بكل ما للكلمة من معانٍ. حينها فقط ستغدو المرأة حرة، وبالتالي جميلة بكل ما تعنيه الكلمة. ولعل ما نشهده حالياً في روجافا/شمال سوريا من ثورة كردية بطابع نسائي بامتياز، هو خير مثال ملموس على ذلك.