بشرى علي تكتب: لماذا جيش المرأة؟ .. المرأة الكردية إلى أين (الحلقة التاسعة)
كلمة لا بد منها:
كنا قد تناولنا في مقالات سابقة العديد من الشخصيات النسائية الكردية التي تركت بصماتها في التاريخ الكردي الحديث، وحاولنا تمييز كل شخصية نسائية بما عُرِفَت به، سواء على صعيد هويتها الشخصية، أم على صعيد أنشطتها وتداعيات شهادتها. ما من شك في أنه ثمة العشرات من النساء الكرديات اللواتي أثرن في مسار التاريخ الكردي الحديث، ونقشن أسماءهن في الذاكرة الكردية الجمعية الحديثة. وهناك المئات ممن استشهدن وضحين بأنفسهن لأجل تأمين حياة حرة وكريمة لشعبهن الكردي، بل لكل شعوب المنطقة. لكنّ تناول نماذج وعيّنات معدودة كافٍ لإعطاء صورة عامة عن الواقع التاريخي والمجتمعي والثقافي الذي تتميز به المرأة الكردية. بالتالي، فقد ارتأينا استئناف المقالات من الآن فصاعداً بتعاطٍ مختلف ولكنه متمم، بحيث تكتمل الصورة، ونتمكن نحن النساء في منطقتنا الشرق أوسطية من تبادل خبراتنا وتداول أفكارنا والاستفادة من بعضنا بعضاً. بالتالي، وبدلاً من معالجة خطوات حركة حرية المرأة الكردستانية ضمن إطار شخصيات ملموسة، فسيكون التركيز من الآن فصاعداً على الإطار النظري والفكري والتحليلي لحركة حرية المرأة الكردستانية، مع عدم إغفال الشخصيات النسائية التي تركت بصماتها عليها.
نظرة في تاريخ المنطقة:
إن العلاقة بين الحضارة والثقافة وبين الإنسان الشرق أوسطي، أشبه ما تكون بالعلاقة بين اللحم والظفر. حيث ينشأ عليها الفرد، وينهل منها ما قد يؤثر في حياته ويخط مساره بنحو عام. وهذا ما يصعب علينا مشاهدته أو تلمسه في أية بقعة جغرافية أخرى، بهذا القدر من الترابط العميق والتأثير المتبادل. بمعنى آخر، فإن الروابط بين التاريخ والثقافة، وبين الحضارة والحياة قد أنتجت مجتمعات وأفراداً مختلفين ومتميزين تماماً. فالثقافة الزراعية المعمرة آلافاً من السنين، قد خلقت معها جينات مجتمعية خاصة بها. كما أن أشكال الأفكار والرؤى الميثولوجية والدينية المعمرة لآلاف السنين، نقشت تداعياتها ومضامينها في الذاكرة المجتمعية، بحيث من العسير محوها أو التغافل عنها، فما بالك بمناهضتها أو رفضها. هذا ما جعل الدوغمائية والقَدَرية جزءاً لا يتجزأ من طراز الحياة اليومية من جهة، وما أدخل الإبداع والفكر الخاص والاجتهاد في مرحلة طويلة من السبات من جهة ثانية.
هكذا، لم يدرك الإنسان الشرق أوسطي كيف تحوّل من مبدع لكل البدايات الاصطلاحية والفكرية المقدسة إلى أسير لتلك الأفكار-العقائد العصبية. إنها مسيرة الاغتراب عن الذات. ذلك أن الفكرة أصبحت الغاية، بل والسبب الأساسي للحياة. فصار الإنسان يعبد تلك الفكرة، ويسخّر نفسه لخدمتها، بدلاً من أن يسخّرها في خدمة تطوره وتطور المنطقة! وهكذا صارت الفكرة ذاتها هويةً محورية للإنسان الشرق أوسطي، تلازمه حتى في منامه، وتخط له “قدَره”! إنها الفتشية بحد ذاتها. بل هي فتشية لا يحوم حولها أي تشكيك. وهنا تكمن الطامّة الكبرى. يشمل هذا أغلب الظواهر التي ابتكرها الإنسان الشرق أوسطي لتيسير حياته، فصارت منذ قرون عبئاً ثقيلاً عليه، وحوّلت حياته إلى جحيم لا يطاق؛ كظاهرتَي الدولة والدين على سبيل المثال لا الحصر. لعل هذا ما حوّل منطقتنا إلى مقبرة القبور، وإلى عقدة كأداء. فيتغير العالم، ولا نتغير، بل ولا نريد أن نتغير!
لكن منطقتنا بثقافاتها وحضاراتها أشبه ما تكون بشجرة البلوط أيضاً. حيث تبقى جذورها في أغوار الأرض مهما قُطِعَت جذعها. وحيث يبقى الأمل قائماً في أن تخضرّ ذات يوم. أي أنها ما تفتأ تحافظ على ميزتها بأنها موطن الأمل! فالأعراف والتقاليد العريقة فيها، تُبقي على جوهر أصالتها نقياً، مهما تراكم عليها الغبار. بمعنى آخر، فكأن الدياليكتيك المتضاد يفعل فعله في هذه المنطقة بأقصى درجاته، بحيث يجمع بين النقائض الثنائية بأعلى مستوياتها، كالنور والظلام، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة؛ بحيث يخال للمرء فيها أنه يعيش على فوهة بركان!
إن التاريخ المجتمعي هو تاريخ اكتساب الهوية، وإدراك الذات، والتحرر من المجهول. إنه تاريخ الحرية المعتمدة على “الخلية النواة”. أما تاريخ المدنية، فقد تصاعد على أساس إنكار الأصل والجوهر. لذا، فهو تاريخ يتجه نحو الهاوية باستمرار، وإن تبدّى ظاهرياً وكأنه يصعد القمة! لذلك نجد أغلب النضالات التي انطلقت في القرنين الأخيرين لأجل البشرية وباسمها، قد توصلت إلى نقيضها. ولذلك نجد أن أغلب الثورات الراهنة قد صارت “ثورات مضادة”، لينقلب السحر على الساحر! لماذا؟ لأنه غاب عنها عامل محوري مهم ومصيري. إنه عامل “العودة إلى الذات، إلى الأصل، إلى الجذر”. وبمعنى آخر، فقد أغفلت “الخلية النواة” أو لنقل “الإرادة الذاتية والدينامية الداخلية” التي قام عليها المجتمع البشري. فنسيت بالتالي البُعد الزماني والمكاني في دراساتها وبحوثها. ما أدى إلى وصولها إلى نتائج مغايرة، بل ومخالفة لِما تطلعت إليه وقدّمت الشهداء و”القرابين” لأجله!
“العودة إلى الذات”:
لعل هذا أول وأعظم درس استخلصته الحركة الكردية عموماً وحركة حرية المرأة الكردستانية خصوصاً من كل ما ذكرناه آنفاً. ذلك أن كل البدايات التي شهدتها منطقتنا الشرق أوسطية عموماً وميزوبوتاميا خصوصاً في فجر التاريخ، كانت قد تشكلت على يد “المرأة”. وبفضلها صار الاستقرار، واكتشاف الزراعة واللغة والنار. وبفضلها تشكلت ملامح “المجتمعية”. ويبدو أن هذا ما جعل البشرية تقدّس طاقات المرأة، وتبجّلها كـ”أنثى” على مر آلاف السنين. ذلك أنه، ومثلما أن السنوات الأولى من عمر أي فرد تؤثر بنحو محوري في شخصيته، كذلك فإن الواقع التاريخي والحقيقة الثقافية اللذين تتكون المجتمعات في أحشائهما أيضاً يؤثران بالمِثل وبالتكامل في تحديد هوية ومسار تلك المجتمعات وعموم أفرادها. وباعتبار أن هذا التاريخ المجتمعي يتميز بإرث عريق بالنسبة للمرأة الكردية، فقد تمكنت من دراسة تاريخها بصورة خاصة، وتاريخ المنطقة بصورة عامة، وتاريخ العالم أيضاً بصورة أعم؛ لتنجز انطلاقتها انطلاقاً من أرضية وطيدة ومتينة.
ذلك أن التطلع إلى السير على درب الحرية، يشترط حتماً مبدأً محورياً. ألا وهو “معرفة الذات”، الذي طالما شغل بال البشرية عموماً والمفكرين الأولين خصوصاً، فكان بذلك من أعظم الخطوات على درب الحرية، وأكثرها جرأة. فأن تعرف نفسك جيداً، يعني قدرتك على التحلي برؤية علمية لمعرفة المجتمع والمحيط والطبيعة والكون. ويعني أيضاً قابلية التحليل السديد للماضي، والتمتع ببصيرة نافذة لأجل المستقبل، انطلاقاً من مبدأ النقد والمساءلة والتخطيط الممنهج. وكل مَن يعرف ذاته، يكون مؤهلاً لمعرفة ما يدور حوله، وتحليله، وتخطيه، وطرح البديل الجذري له.
لماذا آرين وبارين وآفيستا؟
هكذا بدأت المرأة الكردية بالتعرف على ذاتها، ونفض الغبار عن طاقاتها الدفينة وقدراتها المكبوتة. وهكذا تمكنت أيضاً من خوض نضالها الشاق على درب الحرية، لا لكي تتحرر هي فقط، بل ولكي تكون بعد فترة قياسية منبراً تهتدي به كل نساء وشعوب العالم، ورمزاً عالمياً يجذب كل متعطش للحرية والحياة الكريمة الحقة. ولعل ما من أحد لم يسمع باسم آرين ميركان أو آفيستا خابور أو بارين كوباني… أجل، شخصيات فذة تركت بصماتها على مقاومات الشعب الكردي وشعوب شمال سوريا، وجعلت قلوب البشرية تنبض لأجلها معاً…
هناك الكثيرون ممن لا يعرف الكثير عن التاريخ الحديث والمسار الحقيقي لنضال المرأة الكردية. ولذلك هم يسألون: كيف صار وخرجت أمثال آرين وبارين وآفيستا من رحم هذا المجتمع الكردي المتخلف، والذي عانى حتى وقت قريب من سياسات الصهر والإذابة في سوريا، والذي ما يزال يعاني من سياسات القمع والإنكار والإبادة في تركيا؟ إنه سؤال وجيه، يتطلب من المرء الغوص في الخلفية التاريخية والثقافية والمجتمعية والسياسية لأمثال تلك الشهيدات الأيقونات بصورة خاصة، والتعمق في مسار حركة حرية المرأة الكردية بصورة عامة، للاستفادة من هذه التجربة، ومعرفة كيفية تكييفها مع ظروف كل حركة نسائية أخرى في عموم منطقة الشرق الأوسط، بل وفي العالم أجمع.
ذلك أن المرأة الكردية تعرفت على ذاتها مع حركتها النسائية التحررية، وانتهلت من خلالها الكثير من المعارف والمعلومات العلمية، وظلت تكافح لتجديد معلوماتها وصقل شخصيتها على الدوام، فصارت بذلك منفتحة على التغير والتطور نحو الأفضل. وانطلاقاً من التشخيص التاريخي الذي يقول أن “عبودية المرأة هي أقدم وأعمق أشكال العبوديات”، فإن الصراع الذي خاضته حركة المرأة الكردية لم يقتصر على البُعد الطبقي فحسب، بل وتعداه ليكون صراعاً شاملاً ضد التمييز الجنسي أيضاً. أي أنه تمت موضعة حرية المرأة في محور كافة النشاطات القومية والنضالية كحل بديل وجذري للتغلب على واقع المرأة الحالي.
خرق المجالات التي هي حِكر على الرجل!
ولعل أهم الخطوات الملموسة التي خطتها حركة حرية المرأة الكردستانية، هي أن تطلعت إلى خرق كل المجالات التي من المعروف أنها حكر على الرجل فحسب. ذلك أنه حينما يكون الموضوع متعلقاً بتحرير الوطن، وبتحرير الفرد والمجتمع، وببناء حياة حرة مشرفة وكريمة؛ فإن هذا يعني ضرورة المشاركة في كافة مجالات الحياة وعلى كافة الأصعدة. وهذا ما معناه التشبث بمبدأ التشاركية في كافة المناحي والميادين. بمعنى آخر، لا يمكن القبول بالإبقاء على المرأة في “الجبهة الخلفية” في شؤون الحياة الرئيسية، والاقتصار في النشاط على بعض المجالات فقط. وإلا، فعندما يقتصر نشاط المرأة على بعض المجالات أثناء تحرير أو بناء الوطن، فإن إرادة المرأة ستظل قاصرة وضامرة بعد تحرير أو بناء الوطن، هذا إذا لم يتم سلبها إرادتها كلياً. بمعنى آخر، فكلما كان لون المرأة وطابعها محدوداً وضيقاً أثناء “الثورة” –أياً كان مضمون هذه الثورة، اقتصادية أم عسكرية أم سياسية أم ثقافية- فإن إرادة المرأة تبقى محدودة جداً بعد إنجاز الثورة، وتحفّها مخاطر الاستلاب وفرض الحاكمية عليها.
وإذا كان الأمر يتعلق بمنطقتنا، أي بالشرق الأوسط، فإن هذه الحقيقة تبدو حياتية بنحو أكبر، بحيث لا يمكن الشروع بأي كفاح نسائي بنحو جزئي أو متقطع. ذلك أن الحياة في الشرق الأوسط كل متكامل، والميادين والأنشطة فيها متداخلة بشكل شائك. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بشعب طالما تعرض للقمع والإبادة والإنكار والصهر قروناً طويلة، وطالما اعتُبِرَ غير موجود أصلاً لدى تقرير مصير شعوب المنطقة أو رسم حدودها الجغرافية المصطنعة على يد القوى الغربية الدخيلة؛ مثلما هي حال الشعب الكردي؟ وما بالك إذا كانت المرأة الكردية تعاني الأمرَّين لأنها امرأة أولاً ولأنها كردية ثانياً؟ فحينها تكون هذه المواضيع مصيرية ومحورية في رسم معالم أي نشاط نسوي قدير.
تجيش المرأة
بهذه الرؤية الجذرية والاستراتيجية تناولت حركة حرية المرأة الكردستانية قضية حريتها بصورة خاصة وحرية جميع النساء بصورة عامة. وانطلاقاً منها أسست تنظيماتها وأثبتت حضورها، وصقلت شخصيتها، وأعربت عن إرادتها في كل مجالات الحياة، وفي أماكن صنع القرار. ولا يمكننا المرور هنا دون ذكر اسم قائد الشعب الكردي “عبد الله أوجالان”، والذي يَقبَله الكثيرون من شعوب الشرق الأوسط على أنه قائد جميع الشعوب المضطهَدة والمتعطشة للحرية. حيث كان لأوجالان الفضل في كل خطوة تحررية خطاها الشعب الكردي وحركته التحررية عموماً، وفي كل قضية عالجتها وتناولتها حركة حرية المرأة الكردستانية خصوصاً.
وهذا بالذات ما لفت نظر المرأة الكردية، واستقطبها بنحو فريد، ليتجاوز عدد المنخرطات في الكفاح المسلح والنضال السياسي المئات بعد مرور بضعة سنين على الإعلان عن تأسيس “حزب العمال الكردستاني PKK” عام 1978، وليصل هذا العدد الآلاف من النساء ضمن صفوف الكريلا والناشطات بين صفوف الشعب الكردي مع حلول تسعينيات القرن الماضي. وهذا أيضاً ما فجّر الطاقات الكامنة لدى المرأة الكردية، ونفض الغبار عن قدراتها المكبوتة، فطبعت الحركة بطابعها منذ السنين الأولى. وكنا قد تناولنا العديد من الشخصيات النسائية الفذة في المقالات السابقة، لذا، فسنكتفي هنا بذكر أسماء البعض منهم من أمثال سكينة جانسيز وبريفان أغال وزكية آلكان ورهشان وبريفان وروناهي وبريتان “كولناز قره تاش”.
وانطلاقاً من ذلك، ورداً على استشهاد العديد من النساء بنحو باسل وبطولي، كان لا بد من خطو خطوة تحوّل شهادتهن إلى أرضية قوية لخطو خطوة ملموسة. من هنا جاء مشروع “تجيش المرأة”، الذي هدف أساساً إلى خرق المجال العسكري الذي ظل حكراً على الرجل، كي تشارك فيه المرأة بنحو فعال. ليس على صعيد الجبهة الخلفية كممرضة أو مساعدة، ولا على صعيد حالات شخصية منفردة، مثلما حصل في أغلب ثورات التحرر الوطني التي شهدتها القرون الأخيرة. بل جاء هذا المشروع لتنظيم صفوف المرأة في الكفاح القومي المسلح الذي خاضه الشعب الكردي ضد أعتى جيش، ألا وهو الجيش التركي، الذي يعد ثاني أكبر جيش عدداً وعدّةً في حلف الناتو. فأياً يكن، فقد بيّنت شهادة الرفيقة بريتان “كولناز قره تاش” أن المرأة أيضاً تستطيع المشاركة بفعالية، بل وبنحو ريادي، في الحرب. كما أنها تحطم القناعة الجنسوية التي تستصغر قدرات المرأة في هذا المجال. وبذلك تهيئ الأرضية لتشكيل “جيش المرأة الكردية” كإحدى أهم الخطوات الاستراتيجية على درب حرية المرأة.
لماذا “جيش المرأة”؟
قد يتساءل البعض، ولكن لماذا جيش المرأة؟ لأن الانخراط النسائي الفردي أو المشتت في الثورة، لا يكفي لخط مسار حرية المرأة بنحو جذري. بل إن رسم معالم المستقبل الواعد للمرأة يشترط حتماً تنظيم الذات بنحو رصين. ولأن نيل حقوق المرأة وحرياتها المسلوبة مرهون بتشكيل الأرضية التنظيمية الوطيدة. ولأن الذهنية الذكورية المعمرة منذ خمسة آلاف عام لن ترحم مَن يتمرد عليها أو يناهضها. بالتالي، فإن الكفاح ضد هذه الذهنية يقتضي بالضرورة تنظيم الصفوف، ليس في مجال معين فحسب، بل وفي كافة المجالات. ولعل الأهم من هذا وذاك، هو خرق الحصار الذكوري الذي أقصى المرأة من أهم ميادين الحياة. أي من ميدان الدفاع الذاتي.
ذلك أن “جيش المرأة” يفسح المجال أمام المرأة كي تدير شؤونها في المجال العسكري بذاتها، وكي تفكر بذات نفسها على التكتيك العسكري، وتتعمق في هذا المجال، وتتحول من مشارِكة سلبيةٍ في الممارسة العملية فقط إلى رائدة مفكرة وقيادية نافذة. وبذلك تضع حداً لاحتكار الرجل لهذا الميدان المحوري والمصيري في صنع القرارات، وتشارك فيه بنحو عادل وخاص بها. وهذا ما يعني إلحاق الضربة القاضية بذهنيةٍ طالما عانت منها المرأة لآلاف السنين من جهة، ويفتح الطريق أمام التفكير بإعادة صياغة الكثير من المصطلحات المألوفة والسائدة في هذا المجال، واسترداد جوهرها الأصيل الذي افتقدته منذ زمن غابر.
ذلك أن “جيش المرأة” خطوة مهمة على طريق دفاع المرأة عن ذاتها بإرادتها وبهويتها وبلونها وطابعها هي. برؤيتها هي. كما إنه يعني المشاركة الفعالة بل والريادية في صنع القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالأرض والوطن والشعب، ولكن بمنظور المرأة. كما أن تشكيل “جيش المرأة” هو كناية عن تدبير وقائي تجاه الأنانية أو الفردية أو السلطوية التي قد تظهر لدى بعض الشخصيات. خاصة وأن هذا الميدان يقتضي الانضباط العالي والجدية الصارمة.
وماذا بعد؟
وأخيراً وليس آخراً، فإن هذه الخطوة الاستراتيجية سوف تُعَبّد الأرضية لخطوات استراتيجية أخرى لاحقاً، ليكون للمرأة كلمتها النافذة في كافة المجالات وعلى كافة الأصعدة، مثلما نرى اليوم من خلال ثورة روجافا/شمال سوريا. بالتالي، فإن خطوة كهذه لا تقتصر من حيث التجربة والاختبار على شعب ما أو على قومية ما أو على حركة ما. بل إنها خطوة محورية وضرورية لأجل أغلب الحركات النسائية الفاعلة في عموم العالم، وخصيصاً في منطقتنا التي تشهد فوضى عمياء بامتياز.
فأياً يكن، فإن الحرية تعني تَبَنّي الحياة بكافة ميادينها. وما دمنا نحن كنساء قد شمّرنا عن سواعدنا كي نلعب دورنا في هذه الحياة، فما علينا إلا تحمّل مسؤولياتنا في مسيرتنا الشاقة نحو الحرية. وأياً يكن، فثمن الحرية غالٍ، ويقتضي منا خرق الكثير من الجدران، والتفكير في كل جديد وغير مألوف، وعدم الاعتراف بشيء اسمه “مستحيل”. علّنا بذلك نستطيع استرداد ما سُلِب منا بطرقٍ لم تَكُن مألوفة في وقتها، وبعقلية لم تعرف “المستحيل” في زمانها…