المداجاة أن تخفي عداوتك .. ولكن هل إيران عدو مداجٍ …!!
اللغة التي تصدر عن إيران تكشف عن حرص مهووس بأن تعلن عداواتها ولا تداجيها، و تقدم نفسها لجيرانها أولا ثم للعالم أنها عدوة لهم، ولذا تتقدم دوما لغة التهديد والوعيد، وإغلاق المضايق وتفجير السفن، وتتباهى باحتلال خمس عواصم عربية، وهذا معجم متواتر في الخطاب الصادر من إيران، ويندر أن تسمع كلاما عن السلام والتعاون وتقدير القانون الدولي ولو كذبا بالمعنى السياسي للكذب.
وكأن إيران تعتقد إن إظهار الوجه العدواني هو أمضى الأسلحة لإدراك ما تريد، وتعتقد أنها كلما هددت أجبرت العالم على التفاوض معها لتحقيق مآربها، وكلما حركت أذرعتها لعبت لعبتها المفضلة للمساومة على التمكن من السيطرة، وتمعن في التعبير عن تحمل المشاق المترتبة على هذا السلوك فتقول لقد تحملنا العناء الاقتصادي أربعين سنة وسنتحمل المزيد، ولا تمانع حسب لغتها المفضلة أن تقول الموت ليس لأميركا فحسب بل للجميع وتتقبل الموت معهم بمعنى أن اليأس إحدى الراحتين، وإنها ليست خائفة على وطن ولا شعب ولا على سمعة، وتدمير العالم ليس قضية كبرى، مع أن دعوى ولاية الفقيه هي للتحضير لعودة الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا بعد ملأت جورا، غير أن سلوكها حقيقة لن يبقي أرضا طالحة ولا صالحة للغائب حين يحضر.
إعلان الاستعداد لتدمير العالم وإن كان مجرد لغة تفاوضية بالمعنى المقلوب لكنه يشير إلى علة عميقة تنم عن انفصال عن الواقع البشري بكل معانيه.
هذا يشير إلى مشكلة العمامة حين تقحم نفسها في السياسة، وهذا يفتح السؤال عن المتلازمة الآيديولوجية، وهي متلازمة تلتصق بأي تكوين حزبي مؤدلج، تبدأ من دعوى المظلومية كخطوة أولى، ثم تعقد صفقات مع المهمشين مثلها، وتطلق شعار العدل والمساواة، وتتحين فرصا تسنح لتستحوذ على قرار الثورة، لكنها قبل ذلك تهادن الحكم القائم ولا تغامر بالثورة، وأول ما تقوم ثورة ما لا يبادر الحزب المؤدلج للانضمام لها ويبقي خياراته بين النظام أو الثورة، ثم سيبيع خياره على العرض الأفضل له، وإن دخل دخل بقوة عالية تمكنه من قيادة الثورة وإدارة مساراتها.
حدث هذا مع كل حزب ملتزم أيديولوجيا، وسيظهر بصورة القائد الشعبي والحزب الإنساني شريف الإنسانية فيحصد تعاطف العالم معه وسيتقوى بهذه المشاعر الجياشة التي تصفق له، مما يشكل له جيشا معنويا إضافة إلى ولاء أتباعه وطاعتهم المطلقة له حتى ( لا يسألون على ما قال برهانا ).
هكذا كانت سيرة الخميني الذي خلب لباب كل حر في العالم لأنه بسيط وديع يواجه قوة جبارة ولأنه مسنود من شعب ثار وليس له قيادة محددة ففزع لرمز بيده استقطاب الجموع، وإقناعهم أنه ليس طالب سلطة، وبهذا تم تتويج البطل الرمز.
ولكن هذا البطل الرمز حين تمكن وقع بيده وخط قلمه على أمر بتصفية سبعة آلاف إيراني بجرة قلم، ثم شرع بتصفية رفاق الدرب صادق قطب زادة أولهم، وهو الذي كان الخميني قد عينه واجهة للثورة يتحدث باسمها ويقدمها للعالم ولم يعلم زاده حينها أنه يحمل موته على كتفه، ولم تعلم الثورة نفسها أنها كانت مجرد حطب لإنضاج الطبخة وأن المشروع غير كل أحلام الثوار، واتضحت الأمور حين أشرعت المشانق.
وهذا نموذج يتكرر مع هذا النوع من الحزبيات الثورية المدعية للدين لأن استثمار الدين يخلب عقول الأتباع فيظنون أنهم يتعبدون الله بطاعة المرشد العام والمرشد الأعلى، وتماثل المصطلحات يكشف عن تماثل السلوكيات تبعا للمتلازمة الثورية.
وما دام موضوعنا عن إيران فلنلتزم بوحدة الموضوع، ذاك أن الخمينية لم تخرج من المظلومية لتنشر العدل، ولكنها صنعت ظلما مضاعفا بأضعاف ظلم ظالمها.
ظلم الخمينية عم ليكون عنوانا للعلاقة مع الجوار ومع العالم فاشتهرت بالاغتيلات وبتهييج الطائفية في العالم كله، والأقربون أولى بمعروفها طبعا.
وهذه الثورة العادلة تحتل جزرا عربية وتحتل خمس عواصم عربية، وتفجر في الحرم المكي بجوار الكعبة المشرفة وفي المشاعر، وتقول على لسان مرشدها إن القنبلة النووية حرام، ثم تمارس هذا الحرام، مثلما قالت إن الظلم حرام وأنها ستملأ الأرض عدلا، لكنها تنشر الظلم وتملأ الأرض ظلما وطائفية.
هنا المعضلة الأخلاقية، وأنت هنا تواجه عدوا لا يتورع عن ظلمك ولا عزلك طائفيا ويسمح للعمامة السوداء الرامزة للنبوة بأن تكون مغتالة وكاذبة تفتي علنا بحرمة شيء ثم تمارسه، وإذا احتاجت للتفاوض أعلنت عن زيادة التخصيب لتجبر الطرف المقابل ليسلم لها ببعض التنازل، ولكن التنازل سيزيدها بطشا لأنها تفسر هذا على أنه نصر رباني وأن لا أحد يهزم مراد الله، وأن سر العدل معها وعندها، وستظل تظلم الغير كل الغير لأن من ليس في صفها فهو خارج عن أمر الله، وبذا يكون أمرها أمرا لله، وقوانين العلاقات الدولية لن تكون فوق قوانين المقدس المنتظر.
والمظلمة الأخرى الموجعة حقا هي إصرار النظام على القول إن شعب إيران تعود على العقوبات والضغوط وأن الشعب لا يمانع بالتحمل لسنين وسنين ولا يبالي بحرب تقع عليه، وهذه مظلمة مزدوجة تقع على رأس الشعب الإيراني الذي يدفع ثمن الأوجاع كلها لتبقى الثورة مشتعلة، ولكنها تشتعل بأجساد الشعب وجوعه وحرمانه وسحقه، والشعب وحده يدفع ثمن الصراعات وليس له إلا الصبر، كما هو تقرير المرشد الذي ينوب عن الكل تفكيرا وفتوى وتحدثا وتقريرا، والكل يسمع ويطيع، ومثله كل أتباع المرشد في كل بقعة من العالم، حسب مقولة: نحن أقوى مما يظنون، وهم أضعف مما يظنون، والشعار وحده يكفي الشعب قوتا وإرادة، وسيصبرون على التسليم بأمر لم يكن أمرهم.
هذه. حقيقة إيران ولكن ……
هل نجافي هذا العدو الظاهرة عداوته
أم نلتمس أسلوبا يروضها، ومن ثم يتركه لشعبها ليتولى أمرها ….!!!.
مرت بنا تجربتان تحول معهما العدو الصريح إلى عدو مداجٍ ( إن استحال تحويله إلى سياسي يتمصلح كغيره ).
في الثمانينات جرى توافق سياسي محنك بين الملك فهد ورافسنجاني توافقت فيه الأطراف على أن التحارب بين الجيران يضر الطرفين معا، ودخلنا معهم في فترة ( مداجاة ) معقولة جدا حققت هدوءا نسبيا معقولا في المنطقة، وإن ظلت المشاكل معلقة فوق جدار الزمن ( جزر الإمارات، وحقوق العرب في الأهواز، والأقلية السنية في طهران، الذين لا يسمح لهم ببناء جامع يصلون فيه ) ، وخلف خاتمي سلفه رافسنجاني وسار على الدرب نفسه، ولكن الثورة نفسها عادت لتأكل أبناءها، فرافسنجاني أوذي وقمع ومات فجأة، وهناك من يشكك بسبب الوفاة، وخاتمي صار غريب الوجه واليد واللسان.
أما الجوار فيكفي تصريح قاسم سليماني أنه يحتل خمس عواصم عربية.
هذه حال جارتنا، تفجر أو تداجي، وكلاهما وارد، وإن كنت بقياساتي العقلية وخياراتي أرى أن المداجاة كانت حلا مع هذا الجار الذي هو عاجز عن أن يكون سويا وليس لك معه إلا المداجاة أو تفجيراته. حينها تكون الحكمة أن تعيده للثمانينات زمن رافسنجاني وخاتمي، وهذه تجربة تبدو الوحيدة للتعامل مع جار عاجز أن يكون سويا.