اللاجئون في لبنان محتارون ما بين البقاء أو العودة إلي سوريا
كانت الشاحنات المتهالكة تُصدِر صوت طقطقة وتهتز، فيما كانت تتأرجح على الطريق المفتوح وهي تحمل أخيراً ركابها السوريين العائدين إلى ديارهم.
قبل ذلك بساعات، كانت ساحتهم الترابية المؤقتة لانتظار السيارات قد تحوَّلَت إلى ساحة للدراما الإنسانية الكامنة وراء رحلة العودة النادرة، فظهرت مشاهد الفرحة والحزن أثناء توديع نحو 300 لاجئ عائلاتهم، وتكدُّسهم في السيارات مُغادرين مخيماتهم في بلدة عرسال اللبنانية إلى بلداتهم في سوريا، وفقا لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.
وتُبرِز القافلة، التي نظَّمتها جزئياً السلطات اللبنانية وأجهزة الرئيس السوري بشار الأسد الأمنية، كيف قادت الظروف المتدهورة هنا إلى معضلة تعجيزية تُقسِّم العائلات؛ إذ يتعيَّن على اللاجئين اختيار إمَّا تدبُّر العيش في بلدٍ مضيف عدائي نحوهم على نحوٍ متزايد، أو السفر عائدين إلى منطقة حرب.
وفي حين تباطأ القتالُ في سوريا على طول الحدود اللبنانية، يظل أكثر من مليون لاجئ مُسجَّل موجودين في لبنان، كثيرون للغاية منهم يشعرون بالقلق على نحوٍ يمنعهم من العودة إلى وطنٍ تغيَّر كثيراً من جرَّاء سنوات الحرب السبع. في الوقت الراهن، لا توجد الكثير من المؤشرات على أنَّ اللاجئين سيعبرون الحدود الوعرة بأي أعدادٍ كبيرة، لكنَّ صبر الحكومة والشعب اللبنانيين بدأ ينفد.
«أغادر من أجل كرامتي. الله وحده يعلم ما يحمله المستقبل، لكنَّني على الأقل سأكون في دياري»
قالت امرأة تشاهد الشاحنات وهي تبدأ التحرُّك، الخميس الماضي 28 يونيو/حزيران: «لا توجد خيارات جيدة. حين تنتهي هذه العودة، سيزيد الضغط علينا. سيكون أمام كلِّ سوري قرارٌ ليتخذه».
وتحدَّثت العائلات عند نقطة التفتيش الخميس، عن عملية اتخاذ قرار مشحونة بالتوتُّر وعدم اليقين. فالبعض كان يرغب في العودة، أو كان يعتقد أنَّ الحياة في لبنان باتت أحلى الأمَرَّين، لكن آخرين كانوا يرون في رحلة العودة قبولاً واهياً بحكومةٍ سورية تواصل قتل المدنيين بوتيرةٍ لا مثيل لها من أي طرفٍ آخر في الحرب.
وأثناء الوقوف وسط الفوضى في نقطة تفتيش وادي حميد بعرسال، على بُعد نحو 10 أميال (16 كيلومتراً تقريباً) من الحدود السورية، كانت حميدة خنار تركن رأسها على كتف أمها حليمة، فيما كانت هذه الأخيرة تبكي.
بالنسبة لحليمة (66 عاماً)، كانت العودة إلى سوريا هي الشيء الصواب. إذ قالت إنَّ عائلتها هناك كانت بحاجة لوجود أُم بعد أربع سنوات من دونها، وإنَّها بالكاد يمكنها التعرُّف على حفيدها الذي رأته آخر مرة قبل خمس سنواتٍ مضت.
وأضافت: «أغادر من أجل كرامتي. الله وحده يعلم ما يحمله المستقبل، لكنَّني على الأقل سأكون في دياري».
لكن بالنسبة لحميدة (36 عاماً)، وهي أم لولدين تخشى على سلامتهما في سوريا، فإنَّ العودة في هذه المرحلة أمرٌ لا يمكن تصوره.
وقالت فيما تضع ذراعيها حول أمها وتقاوم دموعها: «حين تغادر هي (أمها)، سيتقطَّع قلبي. سأفقدها في اللحظة التي تعبر فيها الحدود، لكن عليّ أن أختار ولديّ».
عانى لبنان، الذي كان يضم 4 ملايين نسمة فقط قبل بدء الحرب السورية في 2011، لاستيعاب تدفُّق أكثر من مليون لاجئ مُسجَّل. ومع أنَّ الكثير من السوريين يتلقّون الدعم من الأمم المتحدة، فليس لديهم إلا حقوق مُقيَّدة للعمل أو الحصول على الرعاية الصحية، وحالات الإجلاء القسري من مخيمات اللاجئين المؤقتة في تزايد.
الغرب أغلق أبوابه وسياسيو لبنان مستاؤون
وفيما أغلقت أوروبا والولايات المتحدة حدودهما في وجه اللاجئين السوريين المنهمرين، تزايد استياء السياسيين اللبنانيين من عبء الرعاية الذي وُضِع على عاتقهم.
لكنَّ اللاجئين وقعوا أيضاً ضحية تاريخ مُعقَّد. إذ احتل الجيش السوري لبنان بين عامي 1976 و2005، ما أثار الشكوك بين بعض اللبنانيين الذين يربطون اللاجئين بحكومةٍ أجنبية كانت تسيطر في السابق على سياسات البلاد، ويُعتَقَد على نطاقٍ واسع أنَّها تقف خلف اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
في عرسال، قالت السلطات المحلية إنَّ نحو 3 آلاف لاجئ سوري قدَّموا أسماءهم كي تفحصها الحكومة السورية مقابل فرصة العودة إلى بلادهم.
بالنسبة لأولئك المقبولين، فإنَّهم يُوعَدون بفترة سماح مدتها 6 أشهر، يجب على الشبان في سن الخدمة العسكرية إما الالتحاق بالجيش أو دفع غرامة قدرها 8 آلاف دولار. وتظل متانة هذه الضمانة غير مُختَبَرة، وفي ظل مواجهة الجيش السوري نقصاً مزمناً في القوى البشرية، قليلون فقط في عرسال كانوا متأكدين من صمود هذه الضمانة.
وكان من المُتوقَّع أن يسافر أكثر من 400 شخص عائدين كجزءٍ من قافلة الخميس. لكن بحلول وقت مغادرة الشاحنات، كان 294 شخصاً فقط قد التحقوا بها، بحسب مديرية الأمن العام اللبناني.
وبدا أنَّ السوريين الذين يتسلقون على ظهر الشاحنات المُكتظة والمقطورات يتشكلون بدرجة كبيرة من كبار السن وأحفادهم الصغار. وبالنسبة لأولئك المغادرين، كانت ساعاتهم الأخيرة في لبنان تعني سيلاً من لحظات الوداع والتمنيات الطيبة.
وتساءل رجل، صرَّح باسمه الأول فقط، محمد، بسبب مخاوف على سلامته في سوريا: «أنا ذاهبٌ إلى الديار، هل تصدقون هذا؟». وأضاف: «إنَّني رجلٌ عجوز، ولم أعتقد قط أنَّني سأرى أرضي مجدداً. لديّ أشجار، أشجار فاكهة كبيرة. وغداً، سأكون جالساً بينها، أنظر إليها جميعاً فقط».
وكانت زوجته أقل تفاؤلاً. فقالت، دون أن تُصرِّح باسمها نتيجة نفس الأسباب التي ذكرها زوجها: «أردتُ البقاء مع أطفالي، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ نحن نفعل ما يريده».
«إن كانت كلها خدعة، فلن يساعد أحدٌ أبناءنا»
وفي زاويةٍ أخرى من ساحة انتظار السيارات المؤقتة، طبع رجلٌ شاب القُبلة تلو القُبلة على رأس طفلته قبل أن يعيدها للسائق العجوز. وحين انطلق محرك شاحنتهم، غطَّى وجهه ولوَّح قبل أن يدس رأسه بين وركيه وهو يشهق من البكاء في صمت. وحين سُئِل إذا ما كانت زوجته على متن السيارة، هزَّ رأسه وقال: «لقد رحلت».
ولا تزال الأبحاث والدراسات حول مصير مئات العائدين السابقين من لبنان إلى سوريا لم تنته إلى نتائج حاسمة، وفي ظل مواجهة جيش الأسد نقصاً مستمراً في الجنود، قالت حميدة إنَّ الرهان على متانة وعود الحكومة ليس خياراً.
وقالت: «إن كانت كلها خدعة، فلن يساعد أحدٌ أبناءنا».
وظلَّت عائلتها في مسقط رأسها بقرية فليطة طيلة 3 سنوات من الحرب، وأخيراً نزحت في إحدى ليالي عام 2014، حين ضربت الغارات حياً مجاوراً وتجمَّع الأطفال معاً تحت السرير من الخوف. وقالت حميدة: «كان عشاؤهم لا يزال ساخناً حين غادرنا».
لكن السنوات منذ نزوحهم كانت صعبة وتزداد صعوبتها. فمثل الكثير من العائلات السورية في لبنان، أكملوا النقص في مؤن الطعام التي تُقدِّمها الأمم المتحدة بالدخل الضئيل الذي يتمكَّن الأقارب الذكور من جلبه من العمل في البناء، وضاع دخل بعض الأسابيع بعدما رفض الرؤساء المتعسفين في العمل دفع الأجور. وكانت الرعاية الصحية باهظة التكاليف، وعانى الأطفال للتأقلم مع الوضع، وفوَّتوا العديد من الفصول الدراسية، وفي ظل غياب فرصة الحصول على الدعم النفسي، كان يزيد خوفهم وانفلاتهم حين تهب عاصفة.
قالت حميدة: «الحياة هنا تبدو مستحيلة، لكن على الأقل لا يوجد قتل، على الأقل لا توجد حرب. نعلم أنَّ يوماً أكثر إشراقاً سيأتينا. فقط أتمنى لو أنّي أعرف متى سيكون ذلك».