الكاتبة نفيسة عبدالفتاح تكتب للديوان: مدينتي الفاضلة
في سياق فكرة الديوان تخصيص الأسبوع الأول من كل شهر لكتابات عن الإنسانية في واقع أضحى أكثر إيلاماً ننشر مقال الكاتبة والأدبية نفيسة عبدالفتاح مع أول أسبوع في العام ٢٠٢٠ وكلنا أمل في أن تسمو قيمة الإنسانية على صوت الخراب الذي نراه في دول كثيرة شقيقة ومجاورة.
كأنما نبحث بداخلنا عن المدينة الفاضلة ، عن النور الذى تغلق العتمة منافذه الى الروح، الإنسانية ، تلك الكلمة الكبيرة التى تميز أصحاب القلوب التى تسكنها الشفقة وحب الحياة وتنفر من الإيذاء، البشر الذين يعمرون ولا يهدمون، يتعاطفون ويمدون يد العون، يتوجعون لمصاب الآخر، ويفرحون لفرحه، يرحمون، ويتعاملون بصدق، وإخلاص، لهم زلاتهم، أخطاؤهم التى تميز بشريتهم، لكنهم لا يصرون ، يرجعون كلما تاهت أقدامهم، يبكون على خطاياهم، ويصلحون من أنفسهم قدر ما تستطيع بشريتهم!
لا يبدو الأمر صعبا، شروط تلك المدينة متاحة، وربما مر علينا فى رحلة العمر بعض ممن يحملون تلك الصفات، أو بعضها، لكن تجسد الصفات المتكاملة للإنسانية فى شخص واحد، تجعله علامة من علامات حياتنا، وما أكثر العلامات التى مرت بحياتى القصيرة، تلك العلامات التى لم أعرف يوما أنها علامات، وما تصورت أن العالم بعيدا عنهم ليس طيبا نقيا صالحا بقدرهم، أمثالهم يصنعون الفارق فى هذه الدنيا، يجعلون قلوبنا تثق بالخير، وتثق بأن زاوية ما من العالم ليست مظلمة تستحق أن نتمسك بها، ومع كل الاحترام والتقدير لذلك الجزء من الإنسانية الذى يرحم الحيوان ويشفق عليه يطعمه ويضمد جرحه، ذلك الجزء الذى نرى من خلاله إنسانية العالم المتقدم العظيمة، إلا أن الإنسانية التى أعرفها وتنطوى على هذا الجزء من الرحمة أشمل وأرحب، فماذا يصنع العالم المتقدم بتلك الرحمة بينما حكامة يبيدون البشر ويوسعون رقعة الحروب، وماذا يفعل العالم المتقدم بتلك الشفقة، بينما يمتص دماء الدول الفقيرة ليزيدها فقرا، ويسعى جاهدا لسلب ثروات الدول الغنية ليضمها إلى الدول الفقيرة ويكتنز ثرواتها فى خزائنه؟!
الإنسانية ليس أجزاء نأخذ منها ما نشاء، إنسانية من عرفتهم كانت تضمد ساق القط المصاب وتضع “علبة كرتون” مفروشة بقماش لتلد قطة الشارع صغارها، لكنها أيضا كانت تطرق أبواب الفقراء الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تضع صدقة السر بين أيديهم دون أن يراها أو يسمع بها أحد، تصلح بين المتخاصمين وتتحمل الأذى فى سبيل ذلك، وربما دفعت من مالها لتصلح ما أفسده غيرها لتتم صلحا، انسانية تنتصر للحق وترحم الضعيف، وتقيل عثرة الآخر.
هل تظنون أننى أكتب عن عالم وردى، عالم لا وجود له الا بين أسوار تلك المدينة الوهمية، أو البيوت التى تنشىء أبنائها فى ظل عالم فاضل يغرس الإنسانية ويرعاها، لا ليس كذلك على الإطلاق، لقد رأيت وعايشت هؤلاء، كان أبى رحمه الله منهم، وكان كثيرون من الأهل الذين عشت بينهم كذلك، كانت أمى تحكى لى عن جدتى لها رحمها الله الكثير، ولعل لمحة واحدة من أسلوب تعامل تلك السيدة العظيمة كافية،كانت موضع سر جاراتها، لكنها لم تفش أبدا سرا بين متخاصمتين، رغم اصرار كل واحدة على أن تقوم جدتى بنقل ما تقوله الى الأخرى، كانت تتلمس اصلاحا دون أن تنقل الكلام السىء الذى ينم عن غضب، فإذا التقت المتخاصمتان مصادفة فى بيتها بعد اتمام الصلح كانت دهشتهماعظيمة لأنها لم تنقل اساءة أى منهما إلى الأخرى، جدتى التى كانت تمنح كيس نقودها لأمى عندما تزورها ولا تطلب عند المغادرة الا أجرة الركوب للعودة الى بيتها، كانت تتعامل مع أبى بحب فائق حتى أنه ظل لآخر يوم فى حياته لا يقول عنها الا أنها كانت ولية من أولياء الله الصالحين، ويوم وفاة أبى رأيت كثيرين ممن لا أعرفهم عند قبره كانوا يبكونه ويذكرون ما كان يفعله معهم من خير سرا، كان أبى يخبرنا أن العالم خارج جدران بيتنا ليس عالما من الأولياء، يخبرنا لأنه يخاف أن نظن أن تلك المدينة الفاضلة التى نعيش بداخلها ممتدة خارج حدود البيت، يخشى علينا من صدمات الحياة، لكنها فعلت، صدمتنا، وأرتنا صنوف البشر،جشعهم، وعنفهم، وخبثهم، أرتنا الكثير والكثير، لكننى بعد رحلة العمر أيقنت أن المدينة الفاضلة لم تكن فقط بيوتا، إنها القلوب التى نبتت فى محراب الإنسانية وكانت صالحة لتتشربها، فأصبحت تحمل المدينة الفاضلة أينما ذهبت.
*كاتبة روائية وناقدة مصرية