الفوتورياليزم.. فوتوغرافيا الواقع تجربة ما بعد الحداثة في تشكيل الصورة بمفاهيمها البصرية
للتطور الرقمي وحداثة التقنيات تأثيره البالغ على الوعي والذائقة والتلقي والتعامل مع الفكرة البصرية في الصور المكثفة التي باتت ميزة من ميزات الحياة اليومية المعاصرة لهذا التطور وتأثيره على الفنون.
كما انتقل بالصور من كلاسيكيات جمالياتها إلى تطرفها التعبيري متحول القيم والمُبالغ في علاماته اللامتوقعة.
وهو تحوّل نحو المراحل المعاصرة ليلامس ما بعد الحداثة التعبيرية في الفنون البصرية، مقتحما الواقع بالصور اللامعقولة في تعاملاتها المختلفة تشكيلا وصناعة.
وتعتبر الفتوغرافيا بمراحلها نتاج تطور المشاهد واختلاف الذائقة واتساع أفق التجديد وتحمل الغرائبية بفنتازيا الموجود والمنشود واللامعقول في التوافقات الفنية ومن هذا المنطلق بدأت الفوتورياليزم أو الهايبر رياليزم الواقعية المفرطة في الصور الفنية اقتحام مرحلة ما بعد الحداثة بمعاصراتها التقنية وبالتالي كان التعبير والتواصل مع واقعية المشاهد مثيرا بغرائبياته المفاهيمية المستفزة حسيا وذهنيا فهو اندماج متكامل بين اللوحة والصورة وتوافق تقني بين الرسم والتصوير بين الألوان الحقيقية والألوان المبرمجة والمعالجة تقنيا بين الموازين الضوئية والظلال، وهو ما يمثل تمردا طال الفنون في معاملاتها المتوازية كل من مداه التعبيري.
فلامس كل التوجهات وخرج بطبيعة الصور نحو البحث عن غرابة اللقطة أو ندرة المشهد أو انتشال الواقع نحو جماليات مفرطة في الواقعية والانتماء للحاضر إلى درجة القبح التي تحاول استفزاز حواس المتلقي بصريا تجنبها أو الانفصال عنها لكنها في التناول المباشر للّقطة مصورة ولكنها في ترتيبها متناثرة وفق المفاهيم المقروءة ماورائيا.
وهو ما طرح إشكاليات مرحلية بحثت في دور الصورة الفتوغرافية وتفاعلها التشكيلي في هذه المرحلة وتلاقيها مع الأساليب المعاصرة للفن خاصة وأن ما بعد الحداثة في الفن تفرض المواكبة.
فكيف انتقلت الصورة نحو واقعية مفرطة في مفاهيمها وما مدى تعاطيها الواقعي وانفرادها الداخلي بعمق التعبير من خلال تجارب متنوعة عالميا فرضت تأثيرها عربيا نذكر التجربة اللافتة للبريطاني دافيد هوكني الذي بالغ في ألوانه التشكيلية انفتاحه التشكيلي على البصرية الخاصة بأساس الفوتوغرافيا بإفراط فني.
إن الاستفسار عن الفوتورياليزم يقود المتلقي نحو البحث في المنجز هل هو صورة فتوغرافية أو لوحة تشكيلية وبالتالي تقع عليه تفاصيل القراءة البصرية بين الصورة واللوحة فهي مراوغة تحليلية متداخلة في زواياها إلى درجة لا يمكن التفريق المُصور والمرسوم.
إن الفوتورياليزم Photorealism هي الأسلوب المعروف أيضًا باسم هايبررياليزم أو الواقعية المفرطة Hyperrealism و السوبرياليزم Superrealism وهو الأسلوب الفني الذي يشير إلى المنجز الذي يعتمد بشكل كبير على الصور الفوتوغرافية التي يتم توظيفها كصورة في عمل فني تشكيلي له علاماته ورموزه وخاماته المُكملة ، والتي غالباً ما يتم عرضها وفق أسلوب متداخل على مسنديات متنوعة مثل القماش كمساحة تسمح بتكرار الصور وضرورات فنية لإيضاح أجزاء دون أخرى أو التصرف معها بدقة حسب متطلبات الفكرة ومفاهيمها.
بدأت الحركة في نفس المرحلة التي توغّل فيها مسار التعبير المفاهيمي والأنماط المستحدثة في الفنون المبتكرة مثل البوب آرت، والمنيماليزم أو التقليلية Minimalism غير أنها اهتمت أكثر بالواقعية في الفن متجاوزة الاساليب المثالية والتجريد.
ركز هذا التيار الفني على الواقع والبيئة والحياة المعاصرة بتفاصيلها الباذخة والمؤلمة بالتفرقة الاجتماعية والاقتصادية بالاختلافات الثقافية والفوارق الإنسانية حيث تنقلت في التعبير عن الواقع عن المبالغة في الاستهلاك والصناعة والمدنية والبنى التحتية الآلات والسيارات الماركات الحياة المتنوعة ومتناقضاتها الواقعية فخلق هذا التمشي الفني صخبا وتنوعا طال العديد من الأوجه التعبيرية وكوّن ثقافة بصرية مثيرة لامست الحواس واستفزت الذهن ما ساعد هذا التيار على اجتذاب المتلقي الذي يتفاعل معها ويبحث في مفاهيمها على عكس النقاد الذي تعاملوا معها كظاهرة عابرة لا تشبه الفن.
منذ بدأ اعتماد الفتوغرافيا في بدايات القرن التاسع عشر واستخدام الكاميرا كأداة لصناعة الصور لم يقدم المصورون رؤى عن كيفية اعتماد هذه الصور فنيا، لأنها كانت تُرى نقلا لمشاهد وملامح وتفاصيل توثقها للتذكر، في المقابل كان التطور الفني والاندماج مع النهضة الفكرية والفنية سببا لظهور تيارات فنية ارتكزت على الصورة مفاهيميا ما خلق أسلوبا تعبيريا خاص بها مهّد ظهور الفوتورياليزم التيار الفني الأبرز في دمج المفهوم البصري والصورة واللوحة التشكيلية من خلال صناعة الفكرة في الصورة التي تكون الأساس وباعتماد كل التقنيات الحديثة تكثّف الإنتاج والبحث وبالتالي توافقت الصورة مع الرؤى الجمالية بقيمها المعاصر فصانعو الصور وفق الأسلوب التقني المفرط في الواقعية يبتعدون عن الرؤى الاعتيادية للطبيعة وما تراه العين مباشرة فالتشويش والضباب والتعتيم على بعض الزوايا أو إخفاء الملامح أو زرع أشياء دخيلة عليها والتلاعب بالمحتوى المألوف بواقعية بارزة وحقيقية يثير فكرة الاختلاف بين الواقعية والاصطناعية في المنجز، كما أن تمثيل الضوء والتفاعل مع اللون يثير فضول العين والذهن التي تنعكس على الأسطح فالاندماج التقني مع التصوير الفني التشكيلي من خلال الألوان المضافة واعتماد الفرشاة والكولاج وصناعة الصورة بصياغتها بصريا.
في تجربة الأمريكي إيان ايفرارد كان التأثر الفني مبالغا في عتمة التوضيح والتلاعب الضوئي مع الفكرة من خلال الظلال والأضواء فهو يحمل الصورة الجاهزة من عالمها وتاريخها ويوظفها في واقعها بمعالجة مفاهيمية تشكيلية تدمج الحواس فيركبها معا ليخلق جدليات تحاكي الزمن وتثيره، في فضاءاته فهو يتجنب الألوان خدمة للفكرة نفسها وليثير مشاعر المتلقي ذهنية للبحث في عمق خياله عن منافذ مقروءة المضامين فهو لا يكتفي بالنتيجة الأولى التي تنجزها الكاميرا بل يعالجها في عمق أفكاره ويتسلمها على محمل التوظيف التشكيلي ليكوّن منها مقارنات تعبيرية، جامعا بين الواقع والخيال وفق رؤية حداثية تحوّل الصور الفتوغرافية القديمة والبوسترات والمعلقات وأغلفة الكتب باختلاف أنواعها السياسية الاجتماعية النفسية التحليلية، إلى معنى له دلالة فكرية وفنيات جمالية تتلاعب بالأبعاد والمقاييس الأصلية والشخوص التي تتحوّل إلى عناصر مكمّلة للفكرة حيث تمنحها حركيّة وتفاعلا وكأنها هي من يحاكي الزمن ويتحدث عن تفاصيله الباذخة والمتحولة والمتداخلة في نوستالجيا تجمّل الواقع الحاضر.
*إيان إيفرارد
أما أسلوب مواطنه ألكس سيبرناي الذي يعتبر من أوائل الفنانين الأمريكيين الذين اعتمدوا هذا الأسلوب فيتمثل في التصرف المبالغ في الصورة وتحويلها حسب المفهوم المتمرد على الواقع الاجتماعي بطرح القضايا الإنسانية في المجتمع الأمريكي إذ بالغ في سرد مواقفه من العالم الاستهلاكي حيث يوافق بين الصورة واللوحة بالتصرف المتكامل لونا وأضواء حيث يقتحم الذهنيات الحسية الذاتية ليفجرها بعلامات قد تبدو وقحة وجريئة بحركياتها المثيرة من داخل الصورة ومن ثمة ينتشلها نحو اللوحة بأسلوب ساخر وكوميديا تحاول تسليط الضوء على المواقف المتنوعة التي يعايشها.
*ألكس سيبرناي
وتجربة ويل كلوغلي التصويرية تحمل النضج التعبيري عن الفلسفة الوجودية التي دفعته للتجريب، انطلاقا من الواقع بحثا في الملامح وتدفقا في النفسيات المتوغلة في عمق ينعكس أفكارا تحررت من قيود أطرها وهنا يكمن الابتكار الداخلي للصورة مستخرجا إياها من سطحية المشهد نحو سردها بصريا بالنبش في فكرة الجسد كفلسفة ذات تعبيرات تستنطق الوجود باعتماد مزج تكامل بين الفكرة والصورة.
*ويل كلوغلي
أما تجربة إيدي كولا فهي تجريب متنوع في معاصرته صاخب في مواقفه بين الجرافيتي والصورة والفيديو آرت والفوتورياليزم تتداخل الأساليب لتعبّر عن الواقع المتناقض بصريا في التطرف الرؤيوي لكل الأحداث والمواقف في التداخل البشري والعنصرية الموجعة في التداعي النفسي والخلل الانتمائي إنه يحمل تعبيرا إنسانيا في تفاصيله يتعسف من خلال صوره على الأمكنة ويمارس العنف الجمالي بصخب التعبير.
*إيدي كولا
أما التجارب العربية فقد تأثرت فلسفيا بالمفاهيم البصرية المعاصرة واعتمدتها لتنثر قيما بصريا جديدة الانتماء للبيئة والتراث والهوية الخاصة بالشرق العربي فكانت مختلفة ومتنوعة في توافقها التعبيري بين الصورة والمفاهيم والمدى التعبيري عن القضايا نذكر في التجربة السورية علا عباس وخالد ترقلي أبو الهول الذي عالج الصور تشكيليا لخدمة القضايا التي تهم المرأة مدمجا الخط العربي.
إن هذا النمط الفني بتفاصيله الدقيقة خاضع للتطور والنضج والتفجر الفكري الذي سخّر التقنيات الحديثة واخرجها من أطر الكاميرا وزواياها وحدودها إلى اللوحة واسعة المدى الأفقي في التبصّر الفني بعلامات مبتكرة فرغم أن الأسلوب الفني للفوتورياليزم يعتبر وليد المرحلة إلا أن تطوره لامس انعكاس النضج وتفوق على التداخلات المكثفة للقيم التعبيرية وميّز مراحل فنون ما بعد الحداثة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections