الفن والرسالة الانسانية توافقات التجديد والجمالية
حمل الفن ويحمل دوما رسائل مختلفة وإشارات قد توظّف بشكل غير مباشر لكنها في الأساس تخزّن تعبيرا بصريا يختلف في أسسه عن أي تعبير عامي، لأنه يتجلى في تلك المواقف الحقيقية التي تضعه في تماس حقيقي بينه وبين الإنسانية والواقع الذي تفاعلت معه لتكون مبنية على تأثيرات ومؤثرات جغرافية وتاريخية وحضارية، لذلك فمن المهم أن يحمل الفن في هذه الرسائل تكوينات العلاقة الأولى التي تبني للأمل والحياة وتنتصر للذات الفاعلة وهو ما آمن به الكثير من الفنانين التشكيليين الذين صنعوا لمساراتهم منطلقات وعي أسّست لتجارب تجلّت في الأعمال الفنية وفي المشاريع الإنسانية التي جمعتهم مع الانسان والواقع.
فمن المنطلق الأساسي للمحتوى الفني والعمق التعبيري في المنجز حضرت الإنسانية في مواقف مختلفة من المعايشات اليومية، إضافة إلى ذلك تركّزت مشاريع مختلفة أسّست لرغبة تجميع الأعمال الفنية التي حملت الإنسانية كقيمة من خلال مبدأ الاقتناء والحفاظ على الإرث الإنساني وهو ما يقوم به متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية الذي حمّل المسمى قيم الانسان وقضاياه العادلة والانتصار لتجدد الفنون من خلالها وهو ما جعل الاختيار التعبيري في مجموعات المتحف تُبنى على فنون المعتقلات والسجون من خلال مجموعتي معتقل الخيام ومعتقل عسقلان حيث أن التجربة لم تكن مجرد اقتناء فحسب بل اختيار لقصة وحكاية بصرية خالدة وكذلك الامر بالنسبة لمجموعة “صنع في فلسطين”، “مجموعة معتقل الخيام” و”معتقل عسقلان” التي حملت أساليب وتجارب تنوّعت واتفقت على فكرة الفن المقاوم الفن الوطن الفن الانسان، إضافة إلى مجموعات مختلفة من فنون الهنود الأمريكيين والفنون الآسيوية حيث كان البحث الفني متجدّدا مع كل مفهوم ومع كل تصوّر في المفاهيمية والتعبيرية والسريالية والواقعية المفرطة والفيديو آرت.
*متحف فرحات
وتجلّت المسؤولية الفنية وركائزها الإنسانية في عمل مؤسسة مزهر هذه المؤسسة التي اختارت السيدة سمر مزهر أن تؤسّسها تخليدا للإنسانية في تجربة النحات اللبناني عزت مزهر والتي قدّمت أعماله وطبعت دراسات عنه وفتحت منافذ للفنانين واحتوت المهتمين بمختلف البرامج واللقاءات والأنشطة والورش والتعاون بين الفنانين عربيا ودوليا من أجل ترسيخ صورة الفن الحقيقي في الرسالة التي تجعل الفن الحقيقي خالدا.
يحمل المشروع الذي أسسته السيدة سمر مزهر فكرة إنسانية في حد ذاتها هي أن الفنان يترك تأثيره على الذائقة والوعي والمعارف كما يترك أحاسيسه لتستنطق الزوايا في مرحلة عمر ورفقة وصبر وفراق حاضر وحنين استمر بفكرة الفن والانتماء.
فالفن كما تقول سمر مزهر “لا يموت ولا تنتهي الفكرة طالما هناك من يكمل المشوار ويكمل مسيرة العرض والبحث ويطلع المتلقي على كل الأعمال لأن الفن للإنسانية.”
إضافة للمبادرات الفردية التي يقدّمها الفنانون من ورش فنية وتوافق بصري وتعاون فني من خلال تحفيز نشر الوعي الجمالي بالفنون وبالدور العميق الذي تضيفه المفاهيم الإنسانية على المنجز من خلال تحفيز القيم الجمالية، على غرار تجربة الفنان التشكيلي الفلسطيني معتز العمري الذي بدوره بلور تجربته من خلال الفنان التشكيلي الراحل مصطفى الحلاج حيث كان العمل يقوم على توزيع التجربة وتفعيل التجريب من خلال الابتكار والتفاعل والترابط الحسي المتكامل في العمل وتنفيذه وتفكيكه.
وكذلك تجربة الفنان الأردني سهيل بقاعين في التعامل مع الأطفال المكفوفين وتعليمهم الرسم من خلال البصيرة اللونية وتشغيل حواسهم التي تلتقط اللون من خلال العبق والرائحة وهي فكرة ومشوع مختلف في التعبير الحسي والتعامل المتوازي بين البصر والبصيرة جعلته يطرحها ويتنقل بها بين المعاهد والمدارس وهو ينشرها بمرح وحيوية وثقة وتميّز مازجا اللون بالذائقة والرائحة فلكل لون عبير حاضر ينشط الخيال المشبع بالتنقل والسفر والتمازج وهي تجربة منحت لكل طفل كفيف فرصة التجريب والرسم والتلوين من خلال حواسه القادرة على إعلاء بصيرته ما أضاف الكثير من التكامل والاكتمال وتحوّل الطفل من تصنيف الكفيف إلى تصنيف المبدع والمتألق.
أو تجربة الليبية الهام الفرجاني التي خلقت تماسا بين الفنون بتوزيعها الحداثي والمعاصر من خلال تجارب الأداء الفني والانجاز التشكيلي مع طلبتها بتحويل الصورة إلى حركة وتنشيط الخيال بخلق تماس تفاعلي بين الأشكال وطرق التقاطها من خلال البصيرة الذهنية عبر الحركة والأداء والرقص المعاصر.
*معتقل الخيام إلهام فرجاني
إن استمرار الفنان في العطاء الجمالي يتدعّم ويتكاثف مع انعكاس ذلك من خلال عطاءه الإنساني والتواصل الداخلي بين كل طرف قادر على الإنجاز وهو ما صاغته تجربة التشكيلي فائق عويس بالمشروع الفني “لمسة أمي” الذي قدّمه الفلسطيني فائق عويس في مسقط رأسه دير دبوان في فلسطين التي عاد لها بعد اغتراب دام سنين طويلة محمّلا بالذاكرة والمفاهيم الجديدة لفكرة الاندماج الجمالي بين الخط العربي وبين التطريز الفلسطيني ليؤسّس ورشة عمل خصّ بها الفلسطينيات اللاتي حوّلن أبيات الشعر إلى تماوجات بصرية جمالية ذات قيمة فنية عميق سعت لحفظ الذاكرة والاستمرار في التراث وتقديمه بشكل جمالي وتوفير ورش عمل للفتيات الفلسطينيات وحفظ الذاكرة والهوية.
وهو تقريبا نفس الشغف الذي حمل الأمريكية سوزان كلوتز إلى التنقّل إلى الضفة الغربية والأردن لتقديم مشروعها أرض الله الذي قدّمت من خلاله نشاطا مفهوميا عن الأرض المقدّسة وطبيعتها وهويّيتها حيث تعاونت مع الكثير من الفلسطينيات اللاجئات في تطريز جدارية فنية حملت تفاصيل وأفكار عن الإنسانية والأرض عن البقاء والاستمرار وصياغة الخلود في الإنسانية وحق الفلسطيني الانسان في أرضه بلا عنف ولا تهجير وبلا دموية وقتل.
ويبقى الفن انتصارا على القيود بكل ثقلها وتثاقلها المثقل بخمول البحث عن التجديد هي الفكرة التي حوّلت الفن الحقيقي من العرض والتلقي إلى اكتساب قيمة التفاعل الانساني بتفاصيلها.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections