الفن التشكيلي العربي..من تصوير الواقع إلى جماليات التجريد والتجدد والانتماء
بين الفنان وواقعه علاقة متينة، تقوده وتميز تجربته فإما أن تدفعه لتحدّيه وإما للهروب منه إلى عالم فردي وهذا هو التناقض التام بين الموجود والمنشود وتلك هي الرغبة في الانعتاق التي قد لا تتحقق لا في الذات البشرية ولا في الواقع المعيش ليبقى النضال بين الفنان و واقعه مستمرا والأفق الواسع رحبا ومفتوحا للتعبير، واستنادا إلى أن الفن رسالة الإنسانية ومشعلها نحاول تسليط الضوء على تأثيرات التجارب التشكيلية العربية التي تجدّدت و تأثرت بواقع تطور وفق أحاسيس متنوعة، جعلها تنقسم من حيث الرؤية، بين التزام وثورة نابعة من الواقع وبين عالم غيبي مجرد، شعاره الفن تسلية خياليّة فرديّة جماليّة معزولة عن تفاصيل الحياة اليومية والواقع الإنساني، وهذا التوجّه الثاني عزل الفنان عن البيئة وبنى برجا عاجيا حال بينه وبين واقعه ومجتمعه، فالفن التشكيلي ليس غموضا وخيالا كما أنه ليس تصويرا جافا للواقع مؤلما كان أو مفرحا، وليس قالبا جاهزا يصوّر الطبيعة وبورتريهات يقتصر دورها فقط على التزيين و التزويق، فهو مسؤولية وتأريخ وتقرير يجعل الفنان وليد البيئة ونتاج الواقع ومناهضا للضغوط الاجتماعية والسياسيّة المبنية على التخويف والتوجيه، وبالتالي انتشاله من العزلة التي لا يصغي فيها إلا لصوت ذاته.. “الفنان نبي أمته ومنقذها من الانحطاط” (هيدغر).
“الفن شأنه شأن اللغة يبلّغ به الإنسان أفكاره ويمكّن غيره من بني جنسه من إدراكها، غير أن وسيلة التواصل في اللغة هي مجرد علامة وهي لذلك علامة اعتباطية تقع خارج حدود الفكرة، أما الفن فهو بخلاف ذلك. يمنح الأفكار ما يناسبها من الوجود المحسوس، وهكذا فينبغي للأثر الفني الذي تقع عليه الحواس أن ينطوي في ذاته على مضمون ما” (هيجل دروس في الجمالية).
التشكيلي الفلسطيني إبراهيم أبو الرُب
الفن التشكيلي العربي بين الواقع والتاريخ
يشمل الفن التشكيلي كل الفنون الجميلة والتطبيقية وقد عرف تاريخ الفن التشكيلي العربي عدة تطورات وأحداث أثرت فيه وتأثر بها وتأقلم معها وتماهى داخلها، ميّزها الدين الذي حوّل النظرة للفنون مما ساهم في توجيهها، فكانت أولى الفنون التي غيّرها الإسلام فن النحت الذي حرّم صنع التماثيل التي تنحت لتعبد فكان من الطبيعي أن يهجر هذا الفن، لكنه أسّس فنون أخرى ميّزت التراث والتاريخ العربي الاسلامي، مثل فن العمارة والزخرف الذي ركّز على الأشكال الهندسية والطبيعيّة، وتحوّل الفن التصويري التشكيلي إلى فن الخط العربي الذي يعدّ من أهم الفنون العربية الإسلاميّة كما ظهر فن الخزف والنسيج والخشب، وهذا ساهم في تغيير ملامح الفن التشكيلي العربي المعاصر حسب خصوصية كل منطقة والتأثيرات التي صقلت تاريخها.
وبعد وحدة العرب و انسجامهم الثقافي والحضاري والفكري حلّت عصور الانحطاط ففرّقت بينهم لتتوالى سنوات ضعف تزامنت مع نهضة أوروبا التي لم تخف أطماعها في تلك المناطق المشتتة والضعيفة فكانت فكرة الاستشراق أولى البوابات التي فتّحت عيون المسلمين على النهضة الغربية العلمية والثقافية، وكان توافد الفنانين والرسامين المستشرقين محمّلا بتأثيرات مختلفة ومدارس فنيّة متعدّدة، ساهمت في خلق جدليّة انقسم أصحابها إلى مؤيّدين اختاروا المدارس الغربية ملاذا ومثالا يحتذى به، ورافضين لهذا الملاذ معتبرين أن الأصالة والتميز في الفنون العربية والإسلامية، وفنانين اختاروا التجديد بالاستفادة من المدارس الغربيّة الجديدة مع الحفاظ على الخصوصيّة العربيّة الإسلاميّة، وفي ظلّ صراع كل هذه الآراء تنوّع الفن التشكيلي العربي من حيث المحتوى والشكل بين التقليد والابتكار فظهرت الأعمال الانطباعية والتكعيبيّة والتعبيريّة والتجريديّة والسرياليّة والواقعيّة.
التشكيلي المصري محمد عبلة
ومع هذه المرحلة انطلق الفن التشكيلي العربي في رحلة البحث عن ذاته بين الوجود والجمود وبين تأثيرات الواقع والتاريخ والتراث والنفسية، وخاصة بين التقارب والصدام وبين التفتح والعزلة فكان السعي لتهيئة مناخات الاستقلال والتمرد والحرية.
تنقل الفنانون التشكيليون بين المدارس الانطباعية والتعبيريّة ليصلوا إلى التجريد، فاختلفت رؤيتهم للتجريد، بين الكلاسيكي الهندسي وبين تجريد حديث تطورت فيه الرموز ونضجت فيه التجربة الجمالية التي حقّقت وعيا فنيا عمّق الصلة بالواقع، مما يضعنا مباشرة أمام بيئتين مختلفتين الأولى جعلت الفن تجريدا خياليا نابعا من المكان أسّس انسحابا إلى داخل الذّوات الفردية بعيدا عن صخب العالم ودون الخوض في تفاصيله والثانية التزمت بالتجريد النابع من قضايا الواقع عبّرت عن انفعالات باطنيّة مباشرة وعميقة الفهم.
النحات اللبناني عزت مزهر
التجريد وحرية التعبير في الفن التشكيلي العربي
يتّجه بعض التشكيلين العرب إلى الأسلوب التجريدي حيث يفسّرون أعمالهم وفق رؤى بعيدة المدى قد تتراءى غامضة و قد يكون الغموض فيها قريبا ومفهوما وليس بغريب عن المتلقي، فالتجريد هو نتاج تجارب ونضج إنساني وهو في حدّ ذاته فهم ذكيّ وجمالي للصورة الجامدة للواقع المعاش وتغييره باعتماد رموز وأشكال وألوان ومواد تكون ذات دلالات متعدّدة وهنا تكمن أهميّة التجريد في الفن، فالفن لا يقاس بمعيار الواقع بل الواقع هو الذي يقاس بمعيار الفن أي في طريقة الصياغة وجماليّة الفهم والرسالة التي تقدّم وتشكّل المادة الجامدة أو تحرّك الفكرة فتمتزجها مع الأسلوب لتعالجها، وإذا كانت السريالية تغوص في أعمال لاشعورية فوق واقعيّة فإن التجريد بحث في جمالية الأشكال اللاموضوعيّة لبناء الصورة غير المألوفة من ذلك الواقع.
ولا تختلف الدوافع التي أدّت بالعرب للفن التجريدي عن تلك التي عرفها الغرب لكن مع تغيّر في الأزمنة والأحداث، فإذا كانت الحرب العالمية الأولى وما خلّفته من فوضى هي التي أدت إلى تمرّد الفنانين الغرب على كل القيم الجماليّة فإن التجريد ظهر بشكل بارز في أوائل الخمسينات في المنطقة العربية ليكون نتاج استعمار وحروب خاسرة و نكبة فنكسة أثّرت بعمق على فناني منطقة الشام التي كانت مسرحا قريبا لتلك الأحداث السياسية و أيضا نتيجة تجربة اكتشاف وتحوّل في البناء الاجتماعي والسياسي الذي ميّز منطقة الخليج و أثّر على حركة الفن التشكيلي هناك، التي اختلفت عن بقيّة التجارب العربيّة، لأن انتهاج أسلوب التجريد في تلك المنطقة كان ردة فعل فردية على ضغوطات اجتماعية، دينيّة، نفسيّة وسياسيّة.
ظهر الفن التشكيلي بتعبيراته الواقعية في منطقة الشام في فترة مبكرة مقارنة مع دول الخليج العربي، حيث تأثر بالأحداث السياسيّة، وتميّز بصفة النضال، خاصة التجربة الفلسطينية التي عرفت بالفن المقاوم والتي نهلت من المدارس الفنيّة العالميّة، انطباعية، تعبيرية، سريالية، فطرية عصامية، تجريدية، لخدمة القضيّة والهويّة الفلسطينيّة فأثر ذلك على باقي فناني المنطقة التي لم تنعزل هي الأخرى عن الواقع الفلسطيني السياسي والاجتماعي، فكان الفن التشكيلي سلاحا أمام التطرف لطمس الثقافة الفلسطينية وأمام الانهيارات و الهزائم والصمت ولم يقتصر الفن التشكيلي هناك على أسلوب التجريد فقط بل كان الفن المقدّم متنوعا شعاره إثبات الذات والانتماء، اعتمد على الرموز التي أفرزها الواقع فتميز بها، استغلها وفق أساليب متعددة تسربت معانيها إلى الأذهان وأصبحت مفهومة في كل العالم، فبرزت عدة أسماء مثل إسماعيل شموط، و تمام الأكحل و سليمان منصور و ابراهيم أبو الرب… و اعتمد التشكيليون هناك مرجعية سياسية، اجتماعية، نفسية، تاريخية وإنسانية، ولم يكتف التشكيلي بالتقوقع داخلها بل طوّرها و تغيّر بتغيرها و أنضجه تصاعدها فانفتح أكثر فأكثر ولم يقتصر الفن على اللوحة فقط بل شمل مختلف المساحات، فن الملصق الفن الفطري
التشكيلي الإماراتي عبد الرحيم سالم
داخل السجون، توظيف النسيج والثوب التقليدي الصورة الفوتوغرافية و تقنيات التصميم الضوئي و الغرافيك.
التشكيلية البحرينية بلقيس فخرو
ركّز الفن التشكيلي في تلك المنطقة على تفجير كل القدرات التعبيرية و التحفيزية للصورة البصرية التي تمتزج مع بنائية المساحات والرموز لتصوغ الفكرة المنفذة، ولم يقتصر التطور والنضج الفني على التجربة الفلسطينية بل شمل أيضا التجربة التشكيلية الأردنية التي اختلط فيها الانتماء الفلسطيني والأردني مثل تجربة الفنان عدنان يحي، إياد كنعان و التجربة اللبنانية التي تغيرت ملامحها منذ اندلاع الحرب الأهلية فأنتجت لوحات عبرت عن الواقع و التزمت بالتعبير عنه مثل تجربة النحات عزت مزهر، حسن جوني، عارف الريس، بسام كيرلس.
و بالنسبة للتجربة التشكيلية الخليجية فإنها لم تنعزل هي الأخرى عن تأثيرات بيئتها، لكن ميّزها التجريد الناتج عن واقع اجتماعي و ديني و سياسي، دفعها لهذا الأسلوب الخالي من مسبّبات التحريم الديني أساسا و بعيدا عن مكبّلات الاجتماعي، واعتماد التجريد في تلك المنطقة كان تجاوزا لحدود الواقع المادي و قرب من اللامتناهي و المطلق فنذكر مثلا تجربة الفنانة بلقيس فخرو من البحرين التي جسدت “مكان ما في مكان ما” خرج من البيئة الخليجية و لكن في شكل آخر خاضع لفكرة الفنانة و رؤيتها، و رغم كل التأثيرات التي تضغط على الفن التشكيلي الخليجي إلا أننا نجد تجارب جديدة و متنوعة مثل تجربة الفنان الكويتي أيوب حسين التي تجسد عمق الموروث الخليجي و التي يظهر فيها تأثره بتجربة الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط و تجربة الفنان السعودي عبد الجبار يحي التي تنبع من الواقع و تعبر عنه بأسلوب مختلف ومييز وكذلك تجربة الفنان حسين عبيد من سلطنة عمان.
أما التجربة التشكيلية المصرية الحديثة فهي في حد ذاتها تعكس التنوع الاجتماعي والفكري والثقافي والسياسي ما جعل فكرة الحداثة تتنوع في مساراتها التعبيرية بين التجريد والسريالية مستفيدة من كل التوجهات الفنية في الزخرف والعمارة والحروفيات التي أسست لها علاماتها الخاصة.
العراق أيضا يعتبر مدرسة فنية وتشكيلية خلقت احترافا وصياغات حداثية جديدة لم تنفصل عن الانتماء والأرض الفكرة الإنسانية في التجديد.
لوحة عبد الحي مسلم
إن الأهمية التي يجب على الفن التشكيلي أن يتمتع بها هي تهيئة المناخ الحضاري الذي يتجاوب وحاجة الآخر للفهم والتعبير والإدراك وحاجة الفن نفسه لتحقيق التقارب والانفتاح والتميز بالتأريخ الجمالي خاصة وأن الفنون هي الواجهة التي يقيس بها المتخصصون قدرة المجتمعات الإنسانية على الصمود في وجه الصراعات وقدرتهم على الصمود.
ملصق فلسطيني غازي انعيم
**الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections