العراقيون نفّذوا أوّل ثورة في التاريخ قبل آلاف السنين
ثورة أوتوحيكال، أول ثورة عرفها التاريخ. لم تكن رومانية ولا يونانية أو حتى فرعونية، بل تحالفاً بين شعبين من بلاد الرافدين، قررا رفض الظلم والفساد الذي مارسه الغزاة من الشرق على أهل العراق آنذاك.
شكلت هذه الثورة نقطة فارقة في حياة شعوب بلاد الرافدين، فقرر قائدها أن يخلدها في نصٍّ مخطوط على مسلة، لتكون شاهداً على إنجازه ومصدر إلهام لشعوب المنطقة وربما العالم، فتغنّى بإنجازه وانتصاره الذي ما زال حياً حتى يومنا هذا.
الاضطراب السياسي يفتح الباب لدخول الغزاة
تعود القصة إلى القرن 22 قبل الميلاد، عندما ساد بلاد سومر فساد وتخريب ونهب وظلم من قبل شعب اسمه الكوتيون، الذين وصفتهم الكتابات التاريخية بالأفاعي وعقارب الجبل.
كان الكوتيون وهم سكان جبال زاغروس أقواماً غير متحضرة، وفق النصوص التاريخية. وتمتد سلسلة هذه الجبال بين إيران والعراق وجنوب شرق تركيا، كما تظهر الخريطة أدناه.
انتهز الكوتيون فترة اضطراب الحياة السياسية في بلاد سومر وأكاد، على إثر مقتل الملك الأكادي شاركاليشاري في قصره.
استغلوا فرصة الفراغ والخلل السياسي لينفذوا هجوماً عنيفاً على المدن السومرية والأكادية ويكتسحوا بما فيها العاصمة (أكاد).
تضافرت عدة عوامل سهلت على الكوتيين احتلال العراق، حيث استنزفت الحروب الطويلة لخلفاء سرجون الأكادي -وأشهرهم حفيده (نرام سن)- طاقات الإمبرطورية.
فتمكنوا من دخول العاصمة (أكاد) وتدميرها عام 1211 ق.م ليتم تسجيل أولى الحقب المظلمة في تاريخ بلاد الرافدين.
ولانتشار الظلم والفساد والسرقة
نهب الكوتيون القصور والمعابد، كما دمروا منازل الناس وأضرموا فيها النيران ظلماً وتجبراً. خربوا المحاصيل الزراعية ودمروا قنوات الري حتى أصبح نهر دجلة غير صالحٍ لدخول السفن.
كانت سلطتهم الفاسدة أقسى من أن يتحملها سكان بلاد الرافدين، وربما كانت أقساها على ملك مدينة الوركاء السومرية أوتوحيكال (2121 – 2114 ق.م).
فقرر أوتوحيكال أن يقود الثورة التي استمرت أسبوعاً، ورغم كونه سومرياً، الا أنه قرر التحالف مع الأكاديين، وأخذ على عاتقه قرار مواجهة الظالمين والمفسدين، فقاد ثورة وكفاحاً مسلحاً ضد ما سمي وقتها “بالغزاة الهمج”.
حشد أوتوحيكال تأييداً من أغلب المدن السومرية، وتزعم الثورة وحرب التحرير التي استمرت لـ 6 أيام. كان أسبوع واحد من انتفاضة شعوب المنطقة كفيلاً بالقضاء على حكم الكوتيين، الذين انتهى عهدهم مع سقوط الملك تريكان.
تمكن هذا الزعيم السومري بإرادته ونجاحه في إنشاء تحالف وحشد شعبي أن يقود بنجاح أول عمليات التحرير في العالم القديم والذي صادف يوم 14 تموز من عام 2120 ق.م.
من هم السومريون؟
ومن الأمور المتفق عليها بين غالبية المؤرخين أن السومريين هم سكان العراق الأصليون. عاشوا في الفترة ما بين 2800 و2400 ما قبل الميلاد؟
عُرفوا بأصحاب حضارة العبيد في وسط وجنوب العراق، وكانت أراضيهم تمتد جنوباً إلى جزيرة دلمون (البحرين) في العصر الحاضر قبل أن ترتفع مناسيب الخليج العربي ليصل إلى حدوده الحالية.
أما لغة السومريين، وهم أصحاب أقدم حضارة أصيلة متطوّرة في العالم، فهي من اللغات التي تعرف بالملتصقة Agglutinative.
من خصائص الإلصاق فيها أنه كثيراً ما يدمج مفردتين لتصبحا كلمة واحدة يستند معناها إلى معاني الكلمات الداخلة في تركيبها: مثل (لوكال) أي الملك المكونة من (لو) أي الرجل و(كال) أي العظيم.
وماذا عن الحكم الأكادي؟
انتهى عهد فجر السلالات السومرية بقيام سرجون الأكادي (2371-2316 ق.م.) الذي وحد العراق في مملكة واحدة.
كان سرجون من الأكاديين وهم فرع من الأقوام التي نزحت من الوطن الأم شبه جزيرة العرب إلى العراق ربما في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل.
عاش الأكاديون جنباً إلى جنب مع السومريين منذ أقدم العصور وعرف القسم الأوسط والجنوبي من العراق منذ ذلك الزمن باسم بلاد (سومر وأكاد).
أما الكوتيون؟
عاشوا في الفترة ما بين 2211-2120 ق.م، وهم من القبائل الهمجية التي كانت تستوطن أواسط جبال زاغروس في شمال شرق بلاد ما بين النهرين.
تعد فترة حكمهم أولى الفترات المظلمة في تأريخ بلاد ما بين النهرين، ويكتنف هذه الفترة غموض في الأوضاع السياسية، وقلة في الكتابات التأريخية، وتوقف لعجلة التقدم الحضاري في كافة المجالات، ناهيك عن احتلال وتخريب المدن الأكادية السومرية المجاورة.
أوّل ثورة في التاريخ
كان أوتوحيكال أحد أمراء مدينة الوركاء، وعندما شهد ما فعله الكوتيون، قرر أن ينتفض على سلطتهم الجائرة، عبر التحالف مع شعوب مدن أكاد المجاورة.
وبعدما قاد أول ثورة في العالم، ترك نصاً على مسلة من الحجر يروي خبر طرده الكوتيين.
ويعتبر هذا النص من أجود ما وصلنا من الأدب السومري، ويشير إلى أحداث أيام الثورة ومنها اليوم السادس، حيث كان يسير مع جنده والتقى مع (تريكان) ملك الكوتيين فهزمه.
هرب وقتها تركمان إلى أحد المدن دبروم (تل الجدر) شمال شرقي مدينة أوما، ولكن أهل تلك المدينة قبضوا عليه وسلموه إلى أوتوحيكال، الذي وضع قدميه على رقبته وأعاد بذلك ملوكية سومر إلى أهلها، وفق ما نُقش على المسلة.
كيف كانت نهاية أوتوحيكال؟
كمعظم القادة في التاريخ، كانت نهاية أوتوحيكال تراجيدية ومأساوية.
لم يتمتع طويلاً بانتصاره، إذ بقي في الحكم 7 سنوات ونصف فقط قبل أن يتمرد عليه أحد رجاله «أور»، حاكم مدينة أور وينقلب عليه ويأمر باغتياله.
توفي أوتوحيكال بعدما أُلقي في النهر، عندما كان يشرف على بناء سد لدعم الزراعة في المنطقة، فكُتب في النصوص التاريخية أن «النهر حمل جثته».
أما أور، فتوج نفسه ملكاً واتخذ لنفسه عدة ألقاب من بينها: ملك أور، ملك سومر وأكاد، وأور- نمو.
ترأس سلالة عرفت بسلالة (أور الثالثة) شهدت ازدهاراً اعتُبرت وآخر عهد في حياة السومريين السياسية (2113-2006ق.م.)
التاريخ يعيد نفسه
يسمي المؤرخون العراقيون ثورة أوتوحيكال بأنها «أول ثورة تموزية» في تاريخ العراق؛ وذلك في إشارة إلى الثورة الثانية التي تمت في تموز بعد آلاف السنين وتحديداً في 14 يوليو 1958.
أطاحت الثورة الثانية بالحكم الملكي في العراق وأعلنت تأسيس الجمهورية العراقية على يد عبدالكريم قاسم.
ولكأن التاريخ يعيد نفسه، إذ انتهى مصير عبدالكريم قاسم أيضاً بالقتل على يد رفيق دربه عبدالسلام عارف إثر انقلاب 8 شباط 1963، كما انتهى مصير العائلة الملكية في العراق بالقتل عندما قاد الاثنان انقلاباً عليها قبل 5 سنوات.
أما التظاهرات التي يشهدها العراق في 2019 فليست تموزية، ولكنها تحمل مطالب مشابهة لما طالب به سكان بلاد الرافدين قبل آلاف السنين: توفير فرص العمل ومحاربة الفساد.
وخلال أسبوع من اندلاعها، سقط أكثر من 110 قتلى وآلاف الجرحى، بحسب وكالات الأنباء.