الشاعر موسى حوامدة: يوم عرفت لأول مرة أن السكوت جريمة ويعاقب عليها القانون.. (الحلقة الخامسة)
يعود الشاعر الفلسطيني – الأردني، موسى حوامدة، في الحلقة الخامسة من سيرته التي يرويها عبر «الديوان» إلى هذه الأيام التى بدأ فيها كطفل يفطن إلى معنى أن تحتل أرضه من قبل اليهود، يروي حكايات أمه عن دير ياسين والأمور المروعة التي ارتكبها هؤلاء الغاصبين لأهلها، ليبدأ هذا الطفل الصغير يستيقظ مرعوبا من هؤلاء القتلة المجرمين (اليهود)، الذين بدأت مخيلته ترسمهم على صورة الوحوش.
حتى هو لا يتجاوز قصة خائن أدت بوالده أن يعيش حياته وهو يحاول التهرب من اسم عشيرته.. فإلى نص الحكاية:
كان الجو العام يسيطر عليه الخوف والقلق، لعلها تذكر بما كان يرويه أبي قبل ولادتي بشهر واحد، حين تم القبض على شبكة للجواسيس الذين يعملون مع اليهود، وغالبيتهم جنود وضباط في الجيش العربي، والمصيبة أن بعضّهم من بلدتنا، وجزءاً منهم من نفس العشيرة، بل بينهم ابنا عمين لأبي، الذي صار يشعر بالعار، ويرفض أن يكتب اسم العشيرة في الأوراق الرسمية، فصار في كل مرة يبدل الاسم الأخير، ويتهرب من اسم العشيرة، ولذا وجدت لنا العديد من الأسماء الأخيرة، حتى في الدوائر الرسمية، فمن جابر وهو جدنا السادس أو السابع، إلى الأقرع، وهو اسم الربع أو الخمس، من العائلة، إلى القرعان، ومرات ينتهي باسمه واسم أبيه وجده محمد حسين حسين فقط، حتى أن الاسم الأخير في الهوية الإسرائيلية بعد الاحتلال، درعان، ويبدو أنه أعطاهم الاسم بالغلط وقت الإحصاء الذي جرى بعد الاحتلال الاسرائيلي.
محاولات والده للهروب من اسم عشيرته
كان يريد الهروب من اسم العشيرة، وفي كل مرة كان يعطي اسماً مختلفاً، سمعته مرة يقول: أبلغني صاحبي أبو فلان، الذي يعمل في أحد المخافر الأردنية في ذلك الوقت، أن (الجماعة) تحت المراقبة، وقريباً سيتم القبض عليهم، أما أنت فلا غبار عليك، حط راسك ونم ليلك الطويل.
يضيف أبي: حذرت فلاناً، وهو من أولاد عمومته، فقال لا علاقة لي بالأمر، ولما خرج من عندنا ليلاً تعقبته، قلت بيني وبين نفسي إن ذهب مباشرة إلي بيتهم، فهو بريء، لكنه انعطف ودخل إلى دار الأعمى، فتيقنت أنه معهم.
وما علاقة الأعمى بهم؟ كان الأعمى يذهب إلى بئر السبع بمفرده، معتمداً على عصاه فقط، يلتقي الضباط الإسرائيليين، ويعود، دون أن يشك به أحد، وقد سجن شقيقه، بعد أن قبض عليهم، أما هو فلم يسجن، ولا أدري ما السبب، هل كان يعمل مع الطرفين، أم لم يثبت عليه شيء.
أعرف أنك بريء ..لكن سكوتك جريمة
وفي إحدى الليالي، -يروي أبي- وقبيل الفجر بقليل، أيقظني جارنا (فلان) من النوم، كان شقيقه الأصغر عائداً في إجازة، حيث كان يعمل في سلاح الجو في عمان، ولما استيقظ بعد منتصف الليل، ولم يجده في فراشه، جاءني يطلب المشورة، أدركت أن أخاه تورط مع الجماعة، قلت له: لا تفعل شيئاً، ولا تخبر أحداً، عد لبيتكم ونم حتى يجيء أخوك، وتفهم منه، لكنه لم يسمع نصيحتي، فذهب إلى المخفر، وأبلغ عن فقدان أخيه، ولما عاد الأخير، وعرف ما فعل شقيقه، قال له: ذبحتني، وعاد مسرعاً إلى شرق الأردن، لكن لم يطل الوقت حتى قبضوا عليه، وحكموا عليه بالحبس خمسة عشر عاماً فقط، بينما حكموا على الآخرين بالسجن المؤبد.
وقال له القاضي: أعرف أنها المرة الأولى التي تذهب فيها إلى هناك، وأنهم غرروا بك، وأنت لا زلت صغيراً، لكني أحكم عليك، لأنك لم تبلغ عمَّا جرى معك، فور عودتك، وكيف صوروك مع الضابط اليهودي، وهدَّدوا بفضحك إن أفشيت سرهم، أعرف أنك بريء، لكن جريمتك في سكوتك.
تلك الأيام لم أعشها، ولم أعرف طعم العار الذي كان يشعر به أبي، ولم يكن يحدثني عن تلك الأيام حين كنت صغيراً، بل كنت أعتقد أنه لا يتقن الحديث نهائياً، فلا أعرفه إلا غاضباً أو مهدداً، ونادراً ما كنت أراه يضحك، أو يمزح، إلا مرة واحدة، كان يغمز أمي بطريقة، فهمت أنه يريد تكرار المزيد من الجنس معها في الليلة المقبلة، لكني تظاهرت بعدم الفهم.
مجزرة دير ياسين ويهودا كالكائنات الخرافية يمارسون القتل
تضاعف نفوري من أبي، وخوفي من قسوته وصرامته، وصرت أبتعد عن قصص عمتي التقليدية، وبقيت أميل لأمي وحكاياتها، وخاصة تلك الحكاية التي كانت ترويها عن دير ياسين، وكيف قام اليهود بذبح النساء الحوامل، وبقروا بطونهن، وقتلوا الأجنة في أرحامهن، كما قتلوا الأطفال الرضع، والشيوخ والمسنين، وصرت أصحو من النوم فزعاً؛ وأحلم أن اليهود هم مخلوقات غريبة، لهم أذناب طويلة، يدخلون بيتنا، ويخطفون أمي.
طاسة الخضة للقضاء على مخاوفه من اليهود
ظلَّ الحلم يتكرر، وفي كل مرة كنت لا أتوقف عن الارتجاف والهلع، حتى أرى عمتي أمامي، تهدئ من روعي، حتى قامت أمي في نهاية الأمر، باستعارة طاسة الرعبة، مرة ثانية، وملأتها بالماء، ووضعتها ليلةً كاملةً تحت النجوم، حتى طلع عليها الفجر، وطلبت مني أن أشربها دفعة واحدة.
صارت أمي تتعمد، اختيار حكايات مختلفة، حكايات متنوعة، خفيفة ومسلية، وبعيدة عن الذيح والقتل، حكايات شعبية، تظهر فيها شجاعة الأبطال، وعدم خوفهم، وتأتي على بعض قصص الحب، وتروي تفاصيل حياتهم أيام زمان.
اليهود يغيرون على بلدته
كنت أعتقد أن كل تلك الحكايات قصص تُتَخيل وتُروى، ولا يمكن أن تحدث لنا أو معنا، حتى رأيت بأم العين أن تلك الحكايات التي كانت ترويها أمي لم تكن بعيدةً عنا، بل بدأت تقترب منا…، ففي إحدى الليالي المظلمة، والليالي هناك كانت كلها مظلمة، فلا كهرباء ولا أنوار تخدش حياء الظلام، فيكون للصمت معنى مطابق لمفرداته، في تلك الليلة الدهماء، والخرساء والصامتة كالمقبرة، سمعت صرخةً عظيمة زلزلت كياني إلى الأبد.
كانت الصرخة قادمة من “نجمة حمودة” وهي المرأة التي تستأجر سقيفتنا القائمة داخل الحوش، كان الوقت ليلاً وربما بعد منتصف الليل، وكنت نائماً بالطبع، (فلا كهرباء هناك، كما قلنا تساعد على السهر، ولم تصل الكهرباء بلدتنا إلا بعد تخرجي من الثانوية بثلاث سنوات، وقد وصلت عام 1980 بعد أن رفضت سلطات الاحتلال أن تعتمد البلدة على ماتورات كهرباء، وأصرت على ربطها بالكهرباء القطرية).
في تلك الليلة، جاءت صرخة “نجمة حمودة” مدوية، مزلزلة قوية، كطلقة مدفع ثقيل، وإن سمعتها في البداية، كأنها قادمة من بئر عميق، لكنها صارت تكبر وتكبر، وصار صداها يتردد أمواجاً صوتية، تعيد تنغيم الصرخة، بكل ألوان الذعر والخوف والفزع، وهي تمطُّ صوتها، كأنها تمثل مسرحية تراجيدية:
(اليهوووووووووووووود يا عم أبو حسييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييين… اليهوووووووووووووووود…اليهوووووووووود..ال ال يهوووووووددد.)
أفقت من نومي مذعوراً، كانت الصرخة حقيقية، وليست حلماً هذه المرة، وازداد خوفي وهلعي بعد اليقظة، إذ بدأ والدي ووالدتي وعمتي، بلبس ملابسهم وأحذيتهم، وجمع ما تيسر من أغراض بسيطة، استعداداً للهروب، الراديو كان همَّ أبي الأول، بينما عمتي، كنت شغلها الشاغل، وأطبقت على يدي.
كان صوت الرعب والخوف والفزع، واستغاثات الناس وهمهماتهم، وأصوات الريح من مؤخراتهم، وأصوات الحيوانات تختلط معاً، بينما هدير الدبابات صار يسمع أكثر، أما صوت المدفعية فكان يقترب منا، ويزيد خوفنا، بينما الانفجارات صارت تضيء السماء الحالكة السواد، وكانت الأقدام حافية تتخبط فوق الشوك والحجارة، هبطنا وادياَ سحيقاَ، وظللنا نصعد ونصعد، حتى وصلنا، بيتَ قريبٍ لنا، كان البيت مرتفعاً وبعيداً عن البلدة، لكنه يطلُّ من بعيد على خربة رافات، في الجزء الجنوبي الغربي من البلدة، والتي تجري فيها عملية الهدم والتدمير، ولا أقول المعركة، حيث كان الفرسان والجنود القريبون من الحدود، وفي مخفر رجم المدفع، قد أخلوا مواقعهم، سلفاً على ما يبدو.
ليلة مرعبة على وطء المعركة
كانت ليلة مرعبة، تجمعت فيها عدة عائلات في هذا البيت المعزول والبعيد، وبدأ الأولاد بالقفز واللعب، رغم ضيق المكان، وكنا نسمع صوت المعركة، أو الهجوم على “رافات”، خاصة في هدوء الليل، وسط صمت الجبال الرازحة تحت العتمة، وجاء ابن صاحب البيت، واسمه عبدالحليم والذي كان يلبس اللباس العربي التقليدي، وهو يحمل بندقية ثقيلة عتيقة، يكاد الصدأ يغطيها، وبالكاد نصبها أعلى الحائط، بينما انشدّت كل العيون متجهةً نحوه، ووسط حماس الأولاد، وتصفيق البعض، ظلَّ يحرك في البندقية، حتى ركزها، وعاد عدة مرات إلى الوراء، وتقدم وتراجع، عاد وتقدم، وأخيراً أطلق طلقة يتيمة، شقَّت طريقها، وهي تلمع ببطء، لكنها ارتعشت واهتزت، وتمايلت أمامنا كأنها ترقص، ثم سقطت قريباً منا، أسفل الحائط.
ورغم خيبة الأمل، بدأ عبدالحليم ثانية يحشو البندقية، وكأنه يقول هذه المرة ستكون الرصاصة أقوى، وسأشفي غليلكم، وبعد أن تحرك إلى الوراء، وإلى الأمام عدة مرات، كما فعل في المرة الأولى، انطلقت الرصاصة، لكنها لم تتعد عدة مترات أبعد من سابقتها، فغضب وصار يصرخ أن نبتعد عنه، وهو يعيد لقم البندقية من جديد، وقبل أن يضغط للمرة الثالثة على الزناد، هبطت صفعة قوية على خده، التفتنا والتفت الشاب إلى اليد التي صفعته، ورأى والده الغاضب، يصيح به: هل تريد أن تدلَّ اليهود علينا، (يا ملعون الحرسي)، كي يطلقوا علينا مدافعهم، وتقتل كلَّ هؤلاء الأطفال والنساء، اقلب وجهك، وضب بارودتك المصدية!
يا ألله حتى هذه المقاومة الوانية الميتة لم أفرح بها، وأنا أتحفز مع الأولاد بانتظار الرصاصات الحمراء، والتي ستصل رافات التي تبعد عنا أكثر من ثلاثة كيلومترات، انتبهت أنني نسيت الخوف، وأنا أراقب المشهد بدقة، وأسمع بكاء النساء والأطفال، لكني فطنت أني لم أكن أبكي مثلهم، كان شيءٌ غامضٌ يسيطر علي، وكان الحقد، يغور عميقاً، وهو يشرخ صدري ويسكن فيه، ولا مبالاة شديدة تجتاحني، وترخي أعصابي، وتقتلع الخوف مني للأبد.
في اليوم التالي ركضت مع الأولاد إلى جهة “رافات”، ورأيت مثل غيري البيوت المهدمة، كان بعض أصحابها يحاولون نقض الحجارة، والبحث عن أمتعتهم وأغراضهم تحت الردم، بينما آخرون يجرّون مواشيهم ودوابهم التي نفقت خلال الهدم، لدفنها بعيداً، وبينما نحن كذلك جاءت سيارات عسكرية، تحمل ضباطاً عرباً، أردنيين ومصريين، فقد كان البلدان قد أعلنا عن تشكيل القوات العربية المشتركة، قبل مدة قصيرة، ترجل بعض الضباط والجنود، واقتربوا من بعض السكان المنكوبين لمواساتهم، شاهدوا رجلاً مسناً، وهو يضرب على رأسه بيديه مرة، ويفتش بين ركام بيته مرة أخرى، وملابسه متسخة، ولحيته مغبرة، سأله أحد الضباط، قل لي يا حاج ما الذي حدث ليلة أمس، فضحك العجوز، ورفع ثوبه المتسخ، حتى بانت عورته، وأشار إلى خصيتيه، كان المشهد صادماً، وقال للضباط كلاماً لم نسمعه، ولكن يبدو أنه جارح، فقد رأيناهم، كيف انقلبت سحنتهم، وقد ركبوا سيارتهم، غاضبين وانصرفوا، ولما تجمعنا قرب العجوز، بدأ يحمل الحصى، ويرمي علينا، وهو يصرخ أن نبتعد.
سمعت فيما بعد، أن زوجته ماتت، وكثيراً من أغنامه نفقت تحت الهدم. وبدأ الناس يرددون اسمه، وجملته الشهيرة التي قالها للضباط العرب: (إذا هذول فيهن فايدة، فيكم يا عرب فايدة).
وللحديث بقية…