يعود الشاعر موسى حوامدة إلى ذكريات العمل الأولى، مقدما حالة الشاعر وحكايات البداية والطفولة.. وفي الحلقة التالية يصل إلى مرحلة غاية في الأهمية من مسار الحكاية في إلى مذكراته والحلقة السابعة :
واصلت دراستي في الصف الثاني، وفي علية العنيد نفسها، وكان الغموض يلفُّ المشهد، الصمت يخيم على البلدة، الرجال يتهامسون بصوت منخفض، وإذاعة “صوت العرب” ممنوعة، وتسمع بالسر، أما أبي فكان الخوف بادياً عليه، أكثر من المعتاد، وربما زاده ذلك حرصاً وعصبية، وخوفاً من الفرسان، وحتى من موظفي الحكومة، الذين يدعوهم دائماً لتناول الغداء، وبيتنا لا يخلو يومياً من مدعوين، وكان الحذر والترقب سيدي الموقف.
وفي صبيحة يوم 13/11/1966م، وبعد أن تناولنا فطورنا اليومي المعتاد، المكون من خبز الطابون والشاي، وهممت بحمل حقيبتي، حتى جاء الخبر الصاعق، اليهود دخلوا الحدود، عبروا مخفر الأصيفر، وهدموا مخفر “رجم المدفع”، وقتلوا من فيهما، وهم في طريقهم إلى البلدة، من عدة محاور، وبأرتال كبيرة، ودبابات ضخمة، وحتى طائرات كثيرة.
بدأنا نسمع صوت الهدير، وزئير الطائرات في السماء، وانتشر الهلع والذعر بين الناس، وبدأ الجميع يتهيأ إلى الهروب، وخرج البعض دون أن يحمل شيئاً.
وجدت نفسي أركض، في أرض خلاء، وعمتي “آمنة” تمسك بيدي، كنا وحدنا، وقد تخطينا دار “عبد محمد” التي لجأنا إليها ليلة الهجوم على “رافات”، ومدرسة البلدة الكبيرة، وبعد أن قطعنا مسافة طويلة، وحين كنا في سهل واسع بين بلدتنا وبلدة “يطا”، تعبنا من الركض فوق الأرض الترابية المحروثة، وبدأنا نمشي الهوينى، وفجأة رأينا طائرة في السماء، حلقت فوقنا، ثم هبطت حتى شعرنا أنها فوق رؤوسنا، دارت فوقنا، ثم ألقت بشيء نحونا، صرختْ عمتي، ثم ألقت بي على الأرض، وارتمت فوقي، لتحميني من الإنفجار، وبقينا برهةً ننتظر الموت، ولكن لم نسمع شيئاً، فقد اختفت الطائرة، ولم ينفجر شيء.
(طائرة العدو
ألقت بشيء فوق رؤوسنا
لم ينفجر شيء
يبدو أن القنابل غالية الثمن.)
أسفار موسى العهد الأخير.
عرفت فيما بعد، أن عدداً من الطائرات الأردنية المقاتلة، شاغلت عدداً من طائرات العدو، وخاضت معركة حقيقية معها، استشهد خلالها طيار أردني اسمه موفق السلطي.
كانت عمتي خائفةً علي أكثر من خوفها على نفسها، ولكن أين أبي؟ لا أدري؛ في المرتين اللتين هربنا فيهما، لم أره، ولا أدري إن كان هذه المرة قد قاد أخي “حسين”، أو أختي “نعمة”، أو أخي “يوسف” الذي يصغرني، أم كانت والدتي تحمل أختي “نجوى”، التي ولدت قبل سنة، لا أذكر، ضاعت الكثير من التفاصيل من ذاكرتي، لكني أذكر أن عمتي “آمنة” هي التي كانت تمسك بيدي في الهروبين الكبيرين.
وجدنا أنفسنا بين أناس كثيرين في إحدى المدارس، في بلدة “يطا” المجاورة، والتي لا تبعد عن بلدتنا سوى ستة كيومترات، ربما صارت اليوم لا تزيد على مئات الأمتار، وكنت أرى “اليطاويين” يجلبون لنا أكوام الخبز، وكأننا هربنا من الهجوم بحثاً عن الأكل، قامت خالتي “فاطمة” غاضبة، وقالت: أنها ستعود إلى البلد، فالموت عليها، أهون من انتظار صدقات الناس، فلم نخرج من بيوتنا بحثاً عن الأكل، وعدنا معها، حتى توقفت، على رأس جبل يطلُّ على بلدتنا، كانت الطائرات تتقلب في السماء، وأكوام الغبار الكثيف تكاد تغطي البلدة، اقتربنا أكثر، حتى بدأنا نشاهد بيوت البلدة بوضوح، ونرى الركام المتطاير، عند كل تفجير، ونسمع أصوات المدافع والقذائف.
لم أشعر بالخوف، بل بالغضب، و صارت خالتي فاطمة وأمي رحمهما الله، وكثير من النسوة يصرخن، كلما نسفت القوات الإسرائيلية بيتاً، من بيوت البلدة، وكانت خالتي تهيل التراب على رأسها، وهي تعدد البيوت التي تهدم، بأسماء أصحابها، وتصيح: (هدموا دار خالي “عبيد” يا “مليحة”، مخاطبة أمي، هدموا دار الحاج عطا، راحت دار “كاملة”، وهذه دار خالي “افهيد”، وتلك دارنا نسفوها، راحت البلد، هدموا الحاووز، راحت البيوت يا مصيبتنا)، كانت تزعق وتنعف التراب على رأسها، وعلى من حولها.
بقينا هناك، حتى بدأت تهدأ الحرب، وانسحبت القوات الاسرائيلية، وقبل المساء، بدأنا بالرجوع.
وفي طريق عودتنا مشياً على الأقدام، وقبل أن نقترب من المدرسة الرئيسية، التي تقع أول البلدة، بعد السيل، وعند طريق التفافي حاد، بدأت تظهر الجيبات العسكرية المحترقة التي قصفتها الطائرات الاسرائيلية.
أمسك بيدي هذه المرة “سلامة” ابن خالي “علي”، وكان شرطياً يلبس قبعة في منتصفها خازوق، هبط بي إلى جانب الطريق الإسفلتي، كي لا أرى آثار الحرب على ما يبدو، ولكني كنت أرفع رأسي، وأرى كل شيء، وأدقق في آثار المعركة.
بدأت أشم رائحة غريبة، رائحة بارود محترق، وفشك فارغ، وما أن تعدينا المدرسة، وبدأنا صعود الطريق الصعب، حتى بدأت أرى عن قرب، الجنود الذين استشهدوا، في جيبباتهم العسكرية الصغيرة المدمرة، تلك التي تمردت على أوامر القيادة، وحملت الكثير من الجنود الغاضبين، الذين جاؤوا لمواجهة القوات الإسرائيلية، رأيت بعض الجيبات معطلة، وبعضها محترقاً، ورأيت فيها جنوداً، ما زالت النار تأكل ملابسهم وجرزاتهم الخضراء، ورأيت بعض البساطيل المتطايرة، وبعض الأرجل والأيدي المقطوعة، ورأيت النار ما زالت تشتعل في ملابس البعض، وشاهدت جثثاً على جانبي الطريق، ورأيت كيف يلتصق الدم بالطين، وكيف يكون منظر الموت والقتل، وشاهدت بعض الجنود الميتين، وهم يحملون البنادق في أيديهم، وبعضهم ما زالت يداه تقبضان على البندقية، وأحدهم مات على مقبض الرشاش المنصوب على الجيب.
ازدادت رائحة البارود والرصاص، وبدأت أرى شظايا القذائف تملأ المكان، وكلما كنا نقترب من وسط البلدة، كنا نرى آثار الدمار أكثر، وكأننا في يوم القيامة، كل شيء حولنا ركام مهدم، ولون البلدة صار أبيض مغبراً، وآثار الحرب واضحة جلية.
رأيت البلدة، باستثناء الجامع والمبنى الأثري الملاصق له، والعقود القديمة، قد تحولت إلى أكوام من الحجارة المهدمة، وكان الناس يلطمون ويبكون، وبعضهم ينقب تحت الردم بحثاً عن شيء ما، وقد قيل أن عدداً من أهالي القرى المجاروة، سبقوا الناس إلى البلدة، وسرقوا بعض ما وقعت عليه أيديهم.
ما أن وصلنا بيتنا “العقد”، الذي ظل كما تركناه، حتى بدأ بعض أقاربنا وجيراننا ممن هدمت بيوتهم بالتوافد علينا، وكانت ردة فعلي غريبة، حيث فتشت عن ورق شدة “كوتشينه”، وجلست ألعب مع ابن خالة لي، مما استفز أبي، ونهرني، وخطف الورق من أيدينا، ومزقه.
في اليوم التالي، صارت البلدة محجاً للصحفيين والمصورين والسياح، وكثير من الأجانب ممن يعملون في هيئات دولية، وصار لدينا عمل ممتع، حيث صارت لعبتنا المفضلة، مرافقتهم ومشاهدة كاميراتهم، والاستماع إلى كلمات غريبة عنا، وبعد أيام بدأ تجار الخردة بالمجيء للبلدة، وصرنا نجمع الرصاص والنحاس ونبيعه للتجار، ونجمع بعض القروش.
ظلت رائحة بقايا الفشك الفارغ، وهي رائحة زكية وغريبة، كنت أستمتع بشمها، وأرى أكوماً كثيرة من الفشك، وراء الحيطان التي كانت مكاناً للمواجهات على ما يبدو، وظلت هذه الرائحة، عالقة حتى هذه اللحظة في ذاكرتي.
رأيت الملك حسين، بعد عدة أيام، في سيارة عريضة بيضاء، وهو يلبس طاقية مزركشة، ويضع نياشين على صدره، لم نهلل ولم نصفق، ولم نقف بانتظاره، لكنني رأيت قوساً قد نصب على مدخل البلدة للترحيب به، وكان سيلقي خطاباً، ويبدو أن إحدى النساء قالت له كلاماً جارحاً، فركب سيارته، ومضى إلى بلدة “الظاهرية” لتناول الغداء هناك، وقد قوبل باجتماع حاشد، من قبل أهالي البلدة، الذين صفقوا له، ووقف كثير منهم للترحيب به، حتى تقدم واحد من بينهم، وهتف ضد جمال عبدالناصر، فوقف الملك حسين، واعترض على ذلك، قائلاً بدبلوماسية: لا يا أخي، وبعد دقائق معدودة كان صوت أحمد سعيد ينطلق من صوت العرب، وهو يندد بذلك الشخص الذي هتف ضد عبدالناصر، قائلاً: من أي جحر خرجت يا عجوة؟
الحلقة الأولى:
http://wp.me/s9jUMy-mosa
الحلقة الثانية
http://wp.me/p9jUMy-84
الحلقة الثالثة
http://wp.me/p9jUMy-aZ
الحلقة الرابعة
http://wp.me/p9jUMy-iN
الحلقة الخامسة
http://wp.me/p9jUMy-om
الحلقة السادسة
http://wp.me/p9jUMy-yx
يقام في السادسة من مساء اليوم احتفال بأول إصدارات دار أم الدنيا للدراسات والنشر والتوزيع…
الرياض 13 أبريل 2022: أتاحت التأشيرة السياحية السعودية للحاصلين عليها أداء مناسك العمرة إلى جانب…
يحتاج التأمل في أعمال التشكيلي السوري محمد أسعد الملقّب بسموقان إلى يقظة شرسة تجعلنا قادرين…
في حلقة جديدة من برنامجه "تراثنا الشعري" استضاف بيت الشعر بالأقصر الأستاذ الدكتور محمد…
يقيم المركز الدولي للكتاب، خلف دار القضاء العالي، ندوته الشهرية لمناقشة أعمال (سلسلة سنابل) للأطفال،…