السياحة تدمر فينيسيا الساحرة
زيارة سريعة لمدينة فينيسيا «البندقية» في شمال شرق إيطاليا تكفي لكي يدرك المرء أنها لم تعد تنبض بالحياة كما اعتادت أن تكون، حيث اكتظت قنواتها المائية وجسورها وممرات المشي فيها بسائحين يتجاوز عددهم بكثير عدد سكانها الأصليين.
وتعكس الأرقام هذه الأوضاع في المدينة، التي كان تعداد سكانها قد بلغ أعلى مستوياته في القرن السادس عشر، قبل ان ينحدر في القرون اللاحقة. ورغم ارتفاع التعداد السكاني مرة أخرى في سبعينيات القرن الماضي، إلى مستويات مماثلة لتعداده قبل نحو خمسة قرون، فإن عدد سكان فينيسيا حاليا يمثل ثُلث العدد الذي كانت عليه المدينة قبل 50 عاما.
وعندما اصطدمت سفينة سياحية ضخمة الشهر الماضي بقارب صغير يعج بالسياح، في حادث أسفر عن إصابة أربعة أشخاص، أسرعت جمعيات مدنية وعدد من سكان المدينة الساحرة بالتذكير بما رددوه على مدار سنوات، وهو أن القنوات المائية والبحيرات صغيرة للغاية ومزدحمة لدرجة لا تسمح باستيعاب السفن السياحية العملاقة التي تظهر يوميا في موسم الذروة.
ويقول كلاوديو فيرنييه، رئيس «اتحاد ساحة سان ماركو للأعمال»، والذي يدير أيضا متجرا لبيع الآيس كريم في الساحة، ان الحادث كان «نتيجة مباشرة لسنوات من الخيارات الت تستهدف المال فقط»، مضيفا ان «المدينة تعاني من اكتظاظ سياحي… ولا يمكن للخدمات في المدينة أن تواكب الطلب المتزايد على السياحة الرخيصة سريعة الإيقاع «.
ولكن هذه الخيارات لن تتوقف في فينيسيا، التي تعد متحفا طبيعيا مفتوحا أكثر من كونها مدينة حديثة، حيث تلهث سلطاتها وراء الأموال التي يجلبها السائحون، لدرجة أن الصناعات التقليدية – مثل الكيميائيات والصُلب – في طريقها إلى الزوال. ومخرا أعلنت وزارة التنمية الإيطالية أن المنطقة تعاني من أزمة صناعية.
وزار حوالي 5 ملايين سائح المدينة في عام 2017، مقارنة بـ 2.7 مليون سائح في عام 2002، حسب بيانات فنادق المدينة، التي لا تأخذ في الاعتبار آلاف الحجوزات التي تتم عبر خدمات مجموعة «إير بي إن بي» لتأجير واستئجار أماكن السكن، والخدمات المماثلة. وفي الوقت نفسه، تراجع عدد سكان المدينة المقيمين إلى أقل من 60 ألف نسمة.
وفي الشوارع – أو بالأحرى في القنوات المائية – من الواضح أنه يجب القيام بتحرك ما لاحتواء أعداد السائحين، حيث من الممكن أن تصل مدة انتظار الحافلة المائية (وسيلة النقل هناك، والمعروفة في فينيسيا بـإسم «فابوريتو» في هذه البقعة التاريخية التي تخلو من السيارات، إلى 20 دقيقة، وذلك رغم الأجرة التي تبلغ 6 يورو (7 دولارات).
من ناحية أخرى، تخلى كثير من أصحاب الأعمال عن نظام التسعير القديم المزدوج، الذي كان يفرض على الزائرين دفع المزيد من المال مقابل الحصول على الطعام والخدمات الاخرى، مما يعني أن السكان المحليين يدفعون الآن نفس الأسعار الباهظة التي يدفعها الاجانب.
ويقول نيكولا أوسي، وهو تاجر يبيع الهدايا التذكارية «أصبحت فينيسيا مكانا يستحيل العيش فيه… مُكلفة للغاية، وكل شيء يجرى تصميمه من أجل تعزيز السياحة».
وينتمي أوسي إلى «الجمعية الاجتماعية للمنازل»، وهي جمعية للسكان المحليين، تسعى إلى توفير المنازل الخاوية أو المهجورة للأفراد أو العائلات. وهذا أمر غير قانوني، لأن المنازل تنتمي إلى مجموعة عامة تديرها، إلا أنه ساعد في إعادة الحياة إلى بعض المناطق المهجورة في المدينة، وبينها حي مركزي يقع في جزيرة جوديكا.
وفي الوقت نفسه، يقول أليساندرو دوس، البالغ من العمر 34 عاما، وهو عضو في نفس الجمعية الخاصة بالمنازل، أنه يدفع شهريا 10 يورو مقابل السكن في شقة من غرفة نوم واحدة تقع مقابل ساحة سان ماركو. لكنـه يعـيش يـوميا الإحساس بخطر إخلاء المسكن، لدرجة أنه يضع ورقة على باب ثـلاجته لـتذكره بالموعد المقبل لزيارة الشرطة له في شهر سبتمبر/أيلول المقـبل.
وإذا لم تَكفِ الأسعار الباهظة وحشود السائحين لدفع سكان فينيسيا إلى التفكير في مغادرة مدينتهم، فإن التغير المناخي يكفي. فقد شهد عام 2018، ارتفاع الامواج لمدة 121 يوما، حيث ارتفع منسوب مياه البحر 80 سنتيمترا فوق مستوى سطح البحر.
وتتسبب الفيضانات عادة في أضرار في الطوابق السفلية للمنازل والمطاعم والمتاجر، وما كان يعد في الماضي ظاهرة في فصل الشتاء، صار أمرا متكرر الحدوث.