السودان يخطط ليصبح ثاني منتِج للذهب في إفريقيا.. ومخاوف من تحوله إلى لعنة على البلاد
حارس روسي هو الذي قتله، إنه عمل متعمَّد، لقد استهدفوه بسبب دوره في الاحتجاجات.
رواية تروج لمقتل محتج سوداني ضد قيام شركة روسية بالتنقيب عن الذهب في السودان، وبصرف النظر عن صحة أو زيف الرواية التي تنفيها الحكومة، فإن ثلاثية الذهب والدم والشركات الأجنبية يمكن أن تحوّل الذهب السوداني من ثروة محتملة إلى لعنة خطيرة.
فقد أصبح السودان ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ويخطِّط ليكون الثاني، ولكن مع تقدم هذه الخطط يزداد التوتر، ويزعم البعض أن المعدن الأصفر يمكن أن يكون نذير شؤم للبلاد.
الموت والذهب
عندما تجمَّع المتظاهرون قالوا إنَّهم كانوا دائماً يريدون أن تكون تجمعاتهم الاحتجاجية سلمية، لكن بحلول نهاية اليوم في منجم الذهب في منطقة وادي السنقير النائية في السودان، قُتِل رجل واحد وأصيب خمسة آخرون.
تمثل هذه الواقعة نموذجاً للتوتر والمشكلات التي يثيرها سعي الحكومة الحثيث للتوسع في إنتاج الذهب، للتعويض عن تراجع إيرادات النفط بعد انفصال الجنوب.
الاحتجاجات بدأت عندما تجمَّع العمال في الموقع، على بعد 400 كيلومتر شمالي الخرطوم، للتعبير عن رفضهم لاتفاق حكومي، وقع في أكتوبر/تشرين الأول، يمنح حقوقاً تعدينية للشركة الروسية “ميرو غولد”.
يقع المنجم في وادٍ صغير، يسكنه بضعة آلاف من السكان الذين يفتقرون إلى المستشفيات والمدارس والطرق المُصانة جيداً. وتُستَخدم الأراضي الباقية القليلة الصالحة للزراعة الآن على الأغلب لاستخراج المعادن.
وقال أحمد الصايم، أحد المتظاهرين، لموقع Middle East Eye البريطاني إنَّ الأرض ملكٌ لهم، وإنَّهم تظاهروا سلمياً لأنَّهم لم يُتشاور معهم قبل بدء العمل.
وقال: “ضمّ الحراس الروس قناصاً، تدعمه الشرطة السودانية، أطلق النار علينا فجأة دون سابق إنذار”.
وقد قُتل الحبوب فرح (28 عاماً)، وهو أحد قادة الاحتجاج. ويزعم الصايم أنَّ الحبوب كان مقصوداً بعينه، وألقى باللوم على ولاية نهر النيل، التي يقع فيها المنجم، لعدم نزع فتيل التوتر.
ونفى حاتم الوسيلة، والي الولاية، أن يكون الحراس الروس فتحوا النار على الاحتجاج، في 5 مارس/آذار.
وقال: “كانت قوة الشرطة في الموقع مسؤولة عن حماية الشركة وموظفيها. لقد حاولوا بكل الوسائل تجنب استخدام قوتهم، إلا أنَّ السكان المحليين بدأوا في مهاجمة الشركة، لذا قامت الشرطة باستخدام قوتها”.
واتَّصل موقع Middle East Eye بشركة ميرو غولد، لكنَّها لم ترد حتى وقت النشر.
لقد استهدفوه كما فعلت بلاك ووتر
أثارت وفاة الحبوب وتورط شركة أجنبية غضباً في أنحاء السودان، وهو الأمر الذي أثار انتقادات من سياسيين ونُشطاء معارضين.
حتى إن البعض قارن هذه الواقعة مع شركة “بلاك ووتر” الأمنية الأميركية الخاصة، التي قَتَل موظفوها 14 مدنياً عراقياً في بغداد عام 2007.
ونشر أحد مُستخدمي تويتر، يُدعى مُصعب مارتن، صوراً لرجل زعم أنَّ الحارس الروسي كان شاهِراً بندقيته، بالإضافة إلى صور القتيل والجرحى.
وكتب: “فتح تحقيق شامل حول الحادثة، ومحاسبة المسؤولين عنها، وإبعاد الشركة الروسية هي أولى خطوات الحل العادل، وإلا تحوَّلت منطقة نهر النيل لصراعات دموية”.
مَن يملك الموارد الطبيعية للبلاد؟
وأعاد الاحتجاج وسقوط قتيل من جديد، فتحَ النقاش حول مَن يملك حقوق الموارد الطبيعية في السودان، في الوقت الذي تُكثِّف فيه الخرطوم جهودها لجذب المستثمرين الأجانب.
يُعَد السودان بلداً فقيراً، إذ يُقدَّر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 بـ1,428 دولار فقط، أي أقل من ربع نصيب الفرد في الأردن على سبيل المثال. وبلغ معدل التضخم في نفس الفترة 26.9%، مما يضعه في المرتبة 222 من أصل 227 بلداً، تحت كلٍّ من سوريا واليمن.
ومع ذلك، فإنَّ السودان غنيٌّ بالموارد، وتكمن المأساة في الكيفية التي تسبَّبت بها حقوق امتلاك هذه الموارد في تأجيج الصراع في كثيرٍ من المناسبات. ففي عام 2017، أنتجت البلاد 107 أطنان من الذهب، مُقارنةً بـ93 طناً في عام 2016، ما يجعلها ثالث أكبر مُنتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا. ومن المحتمل أن تكون هذه التقديرات أقل من الواقع، ولا تشمل الذهب الذي يُنتَج بشكل غير قانوني.
وتُعد النزاعات على الأرض أمراً تقليدياً. وتحدث تلك النزاعات تاريخياً أثناء موسم الجفاف، حيث يدخل البدو الرحل، الذين يبحثون عن أراضي خصبة يرعون فيها ماشيتهم، في نزاع مع المُزارعين. وعادةً تُحَل هذه التوترات عن طريق المفاوضات القبلية.
ولكن قوانين ملكية الأراضي في السودان غير مُحددة بوضوح. ففي بعض المناطق، تُحدَّد الملكية بموجب القوانين التي أصدرتها الإدارة الاستعمارية البريطانية، لكن في معظم المناطق تُحدَّد وفقاً للعرف المعمول به منذ قرون بين القبائل وقادة المجتمع.
لماذا تحمَّست الحكومة لاستخراجه الآن؟
وقد أدَّى تدخل الحكومة في هذه النزاعات على الأرض إلى تفاقم الوضع في العقدين الماضيين، لاسيما في دارفور. وهناك، دعمت الخرطوم البدو العرب في أحد النزاعات على الأراضي تحول بعد ذلك إلى صداماتٍ عِرقية ثُمَّ حربٍ دارفور.
وأدَّى الصراع إلى فرض عقوبات دولية ضد السودان، لم تُرفَع إلا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وفي مارس/آذار 2017، قدَّر وزير المالية السابق بدر الدين محمود تكلفة 20 عاماً من العقوبات بـ45 مليار دولار.
تضرَّر الاقتصاد بشدة أيضاً بعدما استقلت جنوب السودان في عام 2011، آخِذةً معها ثلاثة أرباع عائدات البلاد من النفط. وتمر البلاد حالياً بتقشف شديد كجزء من خطة للإصلاح الاقتصادي، تتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي.
ونتيجة لذلك، يجب أن تعتمد الخرطوم أكثر على المستثمرين الأجانب الذين يستغلون الموارد الطبيعية من أجل تعظيم دخل البلاد.
وهناك 170 شركة لتعدين الذهب تعمل في السودان، على الرغم من أنَّ هذا الرقم لا يأخذ في الاعتبار عمليات التنقيب غير الرسمية.
وتخطط الخرطوم لزيادة الإنتاج في 2018، لجعل السودان تاسع أكبر مُنتج للذهب في العالم، وثاني أكبر مُنتج في إفريقيا.
لماذا يرفض المنجمون هذه الخطط؟
لكن وعود التجارة المستقبلية في الذهب بشكل رسمي لا تُشكِّل مصدر راحة كبيراً لعُمال الذهب في وادي السنقير.
وقال عبدالله محمد، أحد قادة المجتمع هناك، لموقع Middle East Eye إنَّ التوتر بدأ عندما وقَّعت الحكومة على الصفقة مع شركة ميرو غولد.
وأضاف: “التقينا بوالي الولاية وعبَّرنا عن مخاوفنا. إنَّنا نُمارس نشاط التعدين في منطقتنا منذ 10 سنوات. وسيؤدي العقد مع هؤلاء المُستثمرين إلى خسائر كبيرة لنا”.
وأضاف: “تعهَّد الوالي بالتشاور معنا حول تعويضنا قبل أن تبدأ الشركة في العمل. لكنَّ السلطات سمحت على نحوٍ مفاجئ للشركة بالبدء في العمل، وجلب معداتها، وحتى طرد عُمَّال المناجم المحليين من المنطقة”.
وقال محمد إنَّ الحكومة كانت أكثر اهتماماً بالمستثمرين الأجانب أكثر من الاهتمام بمواطنيها.
وقال أوشيك محمد طاهر، وزير الدولة بوزارة المعادن، لموقع Middle East Eye إنَّ الحكومة كانت حريصة على ضمان مصالح المواطنين، “لكن في إطار القوانين”.
كما قال وزير المعادن، هاشم علي سالم، في تصريحات، عقب اجتماعه مع لجنة الطاقة والتعدين بالبرلمان، إن وزارته توصَّلت لحلول للمشكلة يُراعى فيها حق المواطنين والشركة التي منحت حق التصديق في المنطقة، مشيراً إلى أن وزارة المعادن ستعقد لقاءً بين الشركة والمعدنيين التقليديين لإعطاء كل ذي حق حقه.
اتهامات للنخب
لكن هناك تقارير تزعم مسؤولية النظام عن هذا الوضع، في العام الماضي 2017، قال المشروع “Enough” في الولايات المتحدة في تقريره بعنوان “الدولة السودانية العميقة” إنَّ النخب الاتحادية، والمحلية، والجماعات المسلحة في الدولة ترتكب “أعمال عُنف تؤدي إلى انتزاع الملكية من السكان المحليين”.
وأضاف: “غالباً ما تتأثر إيرادات النفط، والذهب، وتخصيص الأراضي في السودان بالنزاع. وصادرت دائرة من المقرَّبين في الخرطوم النفط والذهب والأرض سراً، بهدف الإثراء الذاتي والحفاظ على السيطرة من خلال الفساد والعنف”، حسب التقرير.
وحذَّرت المجموعة السودانية للديمقراطية أولاً سابقاً من أنَّ حوادث المصادمات من أجل الأرض، بين الحكومة والمالكين المحليين، قد ازدادت بشكلٍ حاد في السنوات القليلة الماضية، ما أدى إلى وفاة العشرات من السكان المحليين.
وقال الشفيع خضر، مؤلف كتاب “القبيلة والسياسة في السودان”، إنَّ النخب السودانية تستخدم سلطة الدولة، ويتحالفون مع المُستثمرين المحليين والدوليين لنهب أراضي السكان المحليين.
وأضاف: “تستخدم الحكومة القوانين لمصادرة أراضي صغار المزارعين، والمُلّاك التقليديين، والبدو الرُحَّل لصالح المستثمرين”.
وقال إنَّ هذا أدى إلى انهيار القطاعات الزراعية، مثل مشروع الجزيرة، الذي كان في يومٍ من الأيام أحد أكبر مشاريع الري في العالم، ومسؤولاً عن الكثير من أكبر مناطق زراعة القطن في إفريقيا.
وفشل المشروع عندما ركَّزت الحكومة كثيراً على النفط، وهمَّشت الزراعة وخصخصت خدمات الري وتوفير البذور. وفشلت أيضاً استراتيجية لزراعة المزيد من القمح، الذي لا يمكنه النمو في المناخات الحارة.
وتابع خضر: “مع التدهور الاقتصادي وظهور النفط والذهب، وصل الصراع التقليدي على الموارد والثروة في السودان إلى نقطة متقدمة وخطيرة”.
لماذا قد يمثل الذهب خطورةً على السودان؟
وقال محمد صلاح، باحث في التأثير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي لتعدين الذهب في السودان، لموقع Middle East Eye، إنَّ الرغبة في زيادة تعدين الذهب تنطوي على خطرين كامنين.
الأول هو أنَّ الحكومة، من خلال عقد صفقات مع مُستثمرين أجانب، كانت تضع نفسها في تنافس مع السكان المحليين.
وقال: “بالتالي، ليس أمام الحكومة خيار سوى الدفاع عن مصالح المستثمرين باستخدام قوة الدولة لمُصادرة الأرض عبر العديد من الحيل، بما في ذلك تغيير القانون”.
وأضاف صلاح أنَّ الخطر الثاني مُتعلِّق بالبيئة ومعالجة الذهب، وهو ما يُعَد أحد المصادر الرئيسية للتلوث بالزئبق في إفريقيا.
وتؤدي جزيئات دقيقة ناتجة عن مُعالجة الذهب إلى تلويث المياه والهواء، لتصبح خطراً صحياً خطيراً إذا استنشقه البشر والحيوانات. ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، يُعَد الاستخدام الأكثر شيوعاً للزئبق هو عمليات التعدين الصغيرة.
وقال صلاح: “إنَّ استخدام الزئبق والسيانيد في عملية التنقية يجعل عمال المناجم أكثر عرضة لأمراض الجهاز التنفسي والسرطان”.
ووفقاً لوسائل إعلام محلية، قُتِل في نوفمبر 2017 شخصٌ واحد وسط احتجاجات في كالوقي بولاية جنوب كردفان، ضد شركات تعدين الذهب التي قيل إنها تستخدم المواد الكيميائية السامة.
هل يتحالف كل المحتجين ضد الحكومة والمستثمرين؟
ومن المرجح أن تستمر الاحتجاجات. ويقود عبدالمجيد ائتلافاً يُمثِّل ما يوصف بضحايا عمليات مُصادرة الأراضي في ضواحي الخرطوم في الجريف والشجرة والحماداب والحلفايا، مُستخدمين الاحتجاجات والتجمُّعات والاعتصامات لتوصيل رسالتهم.
في السنوات الأخيرة، استقطبت المجموعة الدعمَ من أولئك الذين تأثروا بمشاريع بناء السدود في شمالي البلاد. والآن يحصلون على دعمٍ من عمال مناجم الذهب.
ويرى عبدالمجيد أنَّ الحادث الذي وقع في 5 مارس/آذار كان دليلاً على تدهور ملحوظ. وقال: “انظروا إلى الأسباب العامة المُتسببة في الصراع في البلاد. ونجد أنَّ النزاعات على الأراضي هي الموضوع الرئيسي للمشكلة، من دارفور إلى جبال النوبة إلى النيل الأزرق، بالإضافة إلى الصراعات على النفط، والمناطق الغنية بالذهب ومواقع السدود وغيرها من المشكلات”.
ودعا أصحاب الأراضي، بغض النظر عن خلفياتهم أو وظائفهم أو مصالحهم، إلى التجمع معاً ضد تحالف المستثمرين الأجانب والحكومة.
وقال عبدالمجيد: “ندعو جميع ضحايا مصادرة الأراضي في مختلف أنحاء البلاد لتوحيد وتنظيم أنفسهم في هيئة واحدة للدفاع عن تاريخهم وهويتهم”.