الحصار المائي السبب وراء تصاعد التوترات العراقية مع إيران وتركيا
تصاعدت حدة تهديدات الأمن المائي في العراق عقب قطع إيران الإمدادات المائية العابرة للحدود، وبدء تركيا ملء سد إليسو، مما يؤثر على تدفق المياه في الفرع الرئيسي من نهر دجلة ضمن إجراءات متعددة سياسية واقتصادية للضغط على إقليم كردستان في شمال العراق، ولقد ترتب على هذه الإجراءات تفجر أزمة جفاف قد تؤثر على العلاقات الإقليمية بين العراق ودول الجوار، فضلًا عن تداعياتها المعقدة على الاستقرار السياسي والأمني والأوضاع الاقتصادية، وفقا لمركز المتقبل للابحاث والدراسات المتقدمة.
ملامح “المعضلة المائية”:
تُعد المياه من أهم الموارد الطبيعية المؤثرة على حياة الإنسان، وتتزايد أهميتها في الدول ذات المناخ الجاف والصحراوي، كما تُعتبر عاملًا محددًا لتوزيع السكان ونشاطاتهم ومهنهم، كما أنها عنصر مهم للتنمية الاقتصادية.وتأتي الموارد المائية العراقية بشكل أساسي من الأنهار، ومياه الأمطار، والمياه الجوفية بدرجة أقل، وتنبع هذه الأنهار -وأهمها نهرا دجلة والفرات- من دول الجوار الجغرافي للعراق، وتأتي من الأراضي التركية، إذ تنبع روافد نهر الفرات من المرتفعات الجبلية في شرق تركيا، وتمر بالأراضي السورية، ثم تدخل الأراضي العراقية عند مدينة القائم، فيما ينبع نهر دجلة من مرتفعات جنوبي شرقي تركيا، ويتكون من عدة ينابيع وروافد، ويدخل الأراضي العراقية عند قرية فيشخابور. ولنهر دجلة العديد من الروافد الأخرى التي تنبع من الأراضي العراقية والإيرانية.
يضاف إلى ذلك أن مجموعة من الأنهار والروافد التي تنبع من الأراضي الإيرانية، تُشكل ما يقدر بحوالي 35% من موارد العراق المائية السنوية، وهي: نهر الزاب الصغير، والزاب الكبير الذي يغذي سد دوكان، وديالى الذي يغذي سد دربندخان، والكرخة، والكارون، والطيب، ودويريج، وعدد من الأنهار ومجاري السيول الموسمية الأخرى التي تدخل إلى العراق عبر حدوده مع إيران. ويُعد نهرا دجلة والفرات من الأنهار الدولية وذلك لاشتراك أكثر من دولة في حوضيهما، وبموجب القانون الدولي يمنع انفراد دولة المنبع بإقامة أي مشاريع على هذهِ الأنهار ما لم تتوصل إلى اتفاق بشأنها مع الدول الأخرى التي تشترك معها في النهر الدولي.
وعلى الرغم من تعدد الأنهار التي تمر وتصب في الأراضي العراقية، إلا أن العراق يمر بأزمة مياه منذ عدة سنوات تتفاوت تأثيراتها من مكان إلى آخر في العراق، وهو ما ينعكس سلبًا على السكان والقطاعات الزراعية والصناعية والاقتصادية، ويتوقع البعض حدوث أزمة جفاف في العراق خلال السنوات القادمة ما لم تتم إدارة هذا الملف بشكل صحيح، وتعود أزمة المياه إلى العديد من الأسباب، يتمثل أهمها في: التغير المناخي، والاحتباس الحراري، بالإضافة إلى عدم وجود استراتيجية فعالة لإدارة ملف المياه في العراق، كما أن منابع الموارد المائية والأنهار توجد خارج حدود العراق لدى كل من تركيا وإيران، وهو ما يمكّنهما من استخدام هذا الملف لتحقيق أهداف سياسية ومكاسب اقتصادية وأمنية.
تأثيرات “سد إليسو”:
ترفض تركيا الاعتراف بأن نهري دجلة والفرات نهران دوليان يخضعان للقانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية، بل تعدهما نهرين عابرين للحدود، وذلك على الرغم من أن تقرير لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة لعام 1993 نص على أنه “لا يوجد أي خلاف جوهري حول مفهوم الأنهار الدولية والأنهار العابرة للحدود، وشمولها بالقانون الدولي حول الأنهار الدولية”. وتتبنى تركيا مسألة النهر العابر للحدود على أساس أنها بهذا تمتلك حق التصرف بهما في إطار ما تمليه عليها مصالحها، وأنها غير مطالبة بتطبيق القانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية، وبهذا ترفض مطالبات العراق بزيادة حصته المائية، حيث إنها تدعي أن حصته كافية إذا تمت إدارتها بشكل جيد، كما أن أنقرة غير معنية بما يعانيه العراق من عجز مائي بسبب عدم وجود إدارة علمية للموارد المائية، واعتماد الطرق البدائية في النشاط الزراعي وذلك وفقًا للرؤية التركية.
وفي هذا الإطار، قامت أنقرة بإقامة العديد من المشاريع المائية دون التشاور مع دول حوض دجلة والفرات، كما أنها لم تعترف بالحقوق المشتركة المتساوية لهذه الدول، وقد تسببت هذه المشاريع بأضرار كبيرة للعراق نتيجة لانخفاض تدفق الماء عبر النهرين، ومنها على سبيل المثال مشروع الجاب GAP الذي وسعته الحكومة التركية في الثمانينيات ليحتوي على 22 سدًّا و19 محطة توليد للطاقة، وتوزعت هذه السدود بواقع 14 سدًّا على نهر الفرات وأبرزها سد أتاتورك، و8 سدود على نهر دجلة وأبرزها سد إليسو الذي أعلنت تركيا مؤخرًا الانتهاء من العمل فيه والبدء بإغلاق آخر بوابات تخرين المياه، ويحتوي على أكبر خزانات المياه في العالم، وتم بدء العمل به في عام 2006، ويبعد عن الحدود العراقية 50 كلم تقريبًا ويبلغ ارتفاعه 140م، ويمتد لمسافة 1820م، وسيؤدي إلى خفض مياه نهر دجلة إلى ما يقرب من 50%، ويشمل مشروع الجاب بصفة عامة 9 محافظات تركية، وفي حال اكتمال سدود ومحطات هذا المشروع فإنه قد يتسبب في حرمان العراق مما يقرب من 50% من حصته المائية.
تداعيات الإجراءات الإيرانية:
نشبت العديد من الأزمات بين العراق وإيران بسبب المياه منذ الستينيات من القرن الماضي، حيث قامت إيران باستخدام أنهار وروافد الأنهار دون مراعاة حقوق العراق فيها أو حتى إبلاغه بالإجراءات التي تتخذها طهران. فعلى سبيل المثال، قامت طهران بإقامة العديد من السدود التحويلية على الأنهار المشتركة بهدف تحويل مجراها إلى الأراضي الإيرانية، فقد حولت مجرى نهري كنكير وهومان إلى داخل أراضيها.
كما أنشأت سدودًا مؤقتة على عددٍ من الأنهار المشتركة، مثل: نهر بناوه سوته، ودويربج، وقره تو، من أجل تحويل مياهها إلى الأراضي الإيرانية، ورفع منسوب المياه، بالإضافة إلى حفر قنوات جديدة داخل الأراضي الإيرانية بغرض تحويل الأنهار الحدودية إلى داخل أراضيها، مثل: حفر قناة مياه نهر الوند دون مراعاة حقوق العراق واحتياجاته، كما قامت طهران بإقامة العديد من السدود، منها ما يهدف لسد احتياجات السكان من المياه، أو تخزين المياه، مثل السدود على نهري دويريج والطيب.
كما عملت إيران على تغيير مجرى مياه الأنهار المغذية لنهر دجلة، وتحويلها إلى أنهار وخزانات مياه داخل الأراضي الإيرانية ضمن خطة لقطع المياه المتدفقة داخل الأراضي العراقية، مما تسبب في أزمة مياه كبرى للعديد من المناطق العراقية التي تعتمد على هذه الأنهار والروافد في تلبية متطلباتها المائية، وقطعت إيران المياه كذلك عن أكثر من 45 رافدًا ونهرًا موسميًّا كانت تغذي الأنهار والأهوار في العراق بالمياه، ومؤخرًا استخدمت طهران هذه الورقة ضد إقليم كردستان قبيل إجراء استفتاء انفصال الإقليم عن العراق.
انعكاسات إقليمية متصاعدة:
ترتب على الإجراءات الإيرانية والتركية تجاه التدفقات المائية للدولة العراقية عدة انعكاسات على العلاقات الإقليمية يتمثل أهمها فيما يلي:
1- تصاعد التوترات الإقليمية: تؤثر أزمة المياه التي يتعرض لها العراق على علاقاته مع كل من تركيا وإيران بشكل سلبي، وهو ما قد يفضي إلى توتر هذه العلاقات، لا سيما مع تركيا بعد تحسنها على إثر الموقف التركي من أزمة استفتاء انفصال إقليم كردستان، ويطالب البعض بتحكيم الأزمة المائية بين العراق وتركيا بواسطة محكمة العدل الدولية، فيما ستتأثر العلاقات الإيرانية العراقية بشكل أقل لوجود علاقة قوية وشبكات اتصال بين بعض القوى السياسية العراقية وطهران.
2- تنامي الضغوط التركية: قد تحاول تركيا استخدام هذا الملف كورقة ضغط سياسي للمساومة لتحقيق مكاسب فيما يتعلق بقضية وجود عناصر من حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، لا سيما في ظل التوغل العسكري التركي في العراق بحجة مكافحة عناصر هذا الحزب المتواجدين على الأراضي العراقية.
3- دعوات المقاطعة الاقتصادية: ظهرت دعوات رسمية وشعبية مؤخرًا في العراق لمقاطعة البضائع التركية والإيرانية، وخفض مستوى التبادل التجاري مع تركيا وإيران، إذ يُعتبر التبادل التجاري للعراق مع كل تركيا وإيران الأعلى نسبة مقارنة بالدول الأخرى في الشرق الأوسط.
ختامًا، يمكن القول إن أزمة المياه في العراق قد تزايدت مع بدء عمل سد إليسو، بالإضافة إلى قطع إيران لروافد نهر دجلة وعدد من الأنهار الأخرى وتحويلها داخل أراضيها. وفي هذا الإطار، تسعى تركيا لتحويل ملف المياه إلى ورقة ضغط، لا سيما في قضية تواجد عناصر من حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان، بالإضافة إلى الحصول على مكتسبات اقتصادية واستثمارات في العراق، فيما تستغل إيران أزمة المياه العراقية لتصريف السلع والمواد الزراعية الإيرانية، بالإضافة إلى أنها تصلح كورقة ضغط مثلما حدث مع إقليم كردستان قبيل إجراء استفتاء الانفصال في سبتمبر 2017، وتحتاج هذه الأزمة من الحكومة العراقية اعتماد استراتيجية شاملة وفعالة تتكون من شقين: حسن الإدارة للموارد المائية في العراق، واعتماد آليات للتعامل مع تركيا وإيران.