الحرائق تصل إلى حديقة بوتين الخلفية
على مدى عقدين من الزمان فرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسلوبه الماكر في استعادة النفوذ الروسي على المسرح الدولي من خلال التواجد بصورة أو بأخرى في البؤر الساخنة حول العالم، لكن الاضطرابات في روسيا البيضاء والاشتباكات في القوقاز وضعت كل ذلك في مهب الريح.
صحيفة New York Times الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “بعد أن اعتاد زعزعة الاستقرار لفترةٍ طويلة، صار بوتين الآن محاطاً به في كل مكان”، ألقى الضوء على كيف بدأت روسيا تفقد النفوذ وسط مجال نفوذها المُعلن ذاتياً.
صورة الدبّ الماكر تهتز فجأة
لا شك أن الأزمات المتزامنة في روسيا البيضاء (بيلاروسيا) ووسط آسيا ومنطقة القوقاز أخذت روسيا على حين غرة، وجعلتها تندفع في محاولةٍ لدعم المصالح الروسية داخل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وقوّضت صورة الرئيس فلاديمير بوتين بصفته الخبير التكتيكي البارع على الساحة العالمية.
إذ قال كونستانتين زاتولين، المُشرّع الروسي البارز وحليف بوتين المتخصّص في العلاقات الخارجية مع ما يصفه الروس بـ”الخارج القريب”: “لا شيء جيداً في تلك الصراعات بالنسبة لموسكو”.
وقضى بوتين سنوات في بناء صورة روسيا بوصفها قوةً عالمية، لها يدٌ في البؤر الساخنة من أمريكا اللاتينية وحتى الشرق الأوسط، لدرجة أنها تدخّلت في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن بعد العمل لسنوات على زعزعة استقرار الغرب، وجد نفسه فجأةً محاطاً بعدم الاستقرار. وبعد أن كان يُنظر له على أنه صاحب اليد الثابتة في العلاقات الخارجية، بدا وكأنه فقد لمسته.
الحرب بين أرمينيا وأذربيجان
وأضاف زاتولين: “كانت روسيا تفعل كل ما بوسعها للحفاظ على العلاقات مع أذربيجان وأرمينيا. وكل يومٍ من الصراع في قره باغ يُساعد بشكلٍ فعّال في القضاء على سلطة روسيا”.
وتضرب موجة التحدّيات الأخيرة للنفوذ الروسي في قلب جهود بوتين الممتدة منذ سنوات، لتصوير نفسه على أنه الزعيم الذي استرد مكانة القوة العظمى التي فقدتها البلاد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. وحتى حين نفى الكرملين التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، نقل التلفزيون الرسمي الروسي بسعادة مزاعم التدخّل على أنها دليلٌ يُثبت أن موسكو عادت ليُحسب لها ألف حساب على المسرح العالمي، والآن، بدلاً من الرد بحسم على حالات الطوارئ القريبة من أراضيه، بدا بوتين متردداً حول دور روسيا.
إذ كان تكدُّس الأزمات حول الأراضي الروسية المجاورة كبيرة بدرجةٍ دعت بعض المعلّقين المؤيّدين للكرملين إلى اتّهام الغرب فعلياً بشن حملةٍ منظمة لبث الفتنة في مناطق ما بعد الاتحاد السوفييتي.
غير أن المحلّلين الأكثر توازناً حددوا عاملاً ثابتاً واحداً في الاضطرابات المتزايدة. حيث قالوا إن روسيا وجيرانها قد تزعزع استقراره بسبب جائحة فيروس كورونا، التي كشفت انعدام الثقة بالمؤسسات والزعماء المنفصلين عن الواقع في كافة أرجاء المنطقة.
لدرجة أنها ساعدت في فك الهدنة الهشة بين أذربيجان وأرمينيا، بينما فتح المرض المجال أمام الانتفاضات الشعبية في بيلاروسيا وقرغيزستان عن طريق كشف النخب الحاكمة المنفصلة عن معاناة الشعب.
الوباء سبب البلاء
وأثار لوكاشينكو غضب شعب بيلاروسيا حين قلّل من مخاطر الفيروس، وسخر قائلاً إن الفودكا ستكون علاجاً له. بينما لام النقاد في قرغيزستان المسؤولين لاستخدامهم أموال مساعدات فيروس كورونا في إثراء أنفسهم.
أما داخل روسيا، فقد ساعدت المصاعب الاقتصادية الناجمة عن الجائحة على تعميق الغضب الشعبي ضد بوتين، حيث شهدت مدينة خاباروفسك في الشرق الأقصى مثلاً يوم السبت، الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، خروج آلاف المحتجين الغاضبين نتيجة اعتقال حاكمٍ يتمتع بشعبيةٍ كبيرة للأسبوع الـ13 على التوالي.
بينما قال بعض المحللين إن الاستياء الشعبي داخل روسيا يعني أن بوتين عليه توجيه قدرٍ أكبر من تركيزه إلى القضايا المحلية مثل الصعوبات الاقتصادية، والتلوث، وضعف الرعاية الصحية بدلاً من الخوض في الجغرافيا السياسية العالمية، لكنّ التطوّرات التي برزت في الأسابيع الأخيرة منحت بوتين سبباً أدعى للتركيز على الجغرافيا السياسية العالمية.
إذ قالت تاتيانا ستانوفايا، الباحثة غير المقيمة في مركز Carnegie Moscow Center للأبحاث السياسية: “بالنسبة لبوتين، يتمحور الشطر الأعظم من مهمته ورؤيته لعظمة روسيا ونجاحها فعلياً حول جدول أعماله للسياسة الخارجية”، وأردفت أن سلسلة الأزمات الجديدة “ستُشتّت انتباه بوتين كثيراً عن المشكلات المحلية”.
ففي أرمينيا، التي تضم قاعدةً عسكرية روسية، يأمل البعض في موقفٍ أكثر قوة من جانب روسيا في الصراع الذي أسفر بالفعل عن مقتل 250 شخصاً وفقاً للتقارير الرسمية، لكن قدرة روسيا على التأثير في أحداث القوقاز تبدو محدودةً الآن، رغم دورها السابق بصفتها الوسيط في صراع ناغورنو قره باغ، بينما اتّخذت تركيا، أهم حلفاء أذربيجان، موقفاً إقليمياً أكثر حزماً.
ولا تزال الروسية هي اللغة المشتركة بطول منطقة الاتحاد السوفييتي سابقاً، في حين أن انتشار الإنترنت غير الخاضع للرقابة تقريباً هناك يعني أن الاحتجاجات في إحدى الدول قد تُلهِم بسهولةٍ سكان دولةٍ أخرى للتحرّك.
دعم لوكاشينكو غير المشروط
إذ حمل المحتجون في بيلاروسيا لافتات تدعم مظاهرات خاباروفسك، على بعد نحو 6437 كم. وقبيل الانتخابات البرلمانية في قيرغيزستان الأحد الماضي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول، أبقى نقاد الحكومة أعينهم على بيلاروسيا، حيث كانت الانتخابات المزوّرة بوضوح في أغسطس/آب هي السبب وراء اندلاع الاحتجاجات ضد لوكاشينكو.
بينما قال أيبك سلطان غازييف، مدير وكالة أنباء K-News القرغيزستانية: “نقول عادةً في قرغيزستان إنّنا سنُقلد شعب بيلاروسيا، ولكن في الواقع، لقد تفوّقنا عليهم في الفاعلية والدقة”.
أما بالنسبة لموسكو، فإن الأحداث الأخيرة في بيلاروسيا تُمثّل روايةً تحذيرية تكشف هشاشة مكانة روسيا بين جيرانها، وتحمل أصداء خروج أوكرانيا الأكثر عنفاً عن فلك روسيا عام 2014، إذ انقلب بعض البيلاروسيين -الذين كان موقفهم جيّداً تجاه بوتين- ضده بعد أن دعم لوكاشينكو في وجه المحتجين.
وقال زاتولين إن المسؤولين “على أعلى المستويات في روسيا الاتحادية” كانوا يعتقدون أن لوكاشينكو يجب أن يتنحّى “إن عاجلاً أم آجلاً”. لكن لوكاشينكو جادل أمام المسؤولين الروس، وفقاً لزاتولين، بأن تنحيه في وجه احتجاجات الشارع سيُشكّل سابقةً خطيرة لما يُمكن أن يحدث مع بوتين نفسه.
وأوضح زاتولين: “من خلال دعم لوكاشينكو غير المشروط، بتنا نخلق مشكلةً كبرى لأنفسنا في المستقبل مع غالبية أو جزء كبير من شعب بيلاروسيا. كما نخلق لأنفسنا مشكلةً مع الساسة والشخصيات العامة الأخرى داخل بيلاروسيا، إذ سنضطرهم مجبرين إلى البحث عن التعاطف من الغرب. وهذا آخر ما تريده روسيا”.