الثورة التونسية الزائفة.. كيف يستغل فلول بن علي أزمة كورونا للعودة للاستبداد ولماذا يساعدهم بعض اليساريين؟
دعوات تروج على وسائل التواصل الاجتماعي لإشعال ما يسمى بـ”ثورة جياع في تونس“، واللافت فيها أنها تأتي من مصدرين شديدي التناقض.
فأحد مصادر هذه الدعوات هو فلول دولة بن علي العميقة، من جهة، واليسار الراديكالي الذي يؤيد بعضه الرئيس قيس سعيد من جهة أخرى.
نجاح الحجر الصحي الشامل بتكلفة كبيرة
وتأتي هذه الدعوات بعد النجاح الذي حققه الحجر الصحي الشامل الذي نفذته تونس، في منع تفشي فيروس كورونا بشكل كبير في البلاد حيث بلغ عدد الإصابات 1025 والوفيات 43 شخصاً وذلك يوم 7 مايو 2020، ولكن الحجر بطبيعة الحال أرهق كاهل المواطنين اقتصادياً.
وبدأت تونس مرحلة جديدة مخففة سميت الحجر الصحي الموجه في الوقت الذي تتزايد فيه المخاوف من ارتفاع نسبة الفقر في تونس لا سيما أن هناك عدداً كبيراً مهدداً بفقدان موطن عمله.
ويتضمن الحجر الصحي الموجه فتح العديد من المؤسسات الاقتصادية مع التزام اشتراطات السلامة، والسماح للتنقل بين المدن وفقاً لقيود معينة.
ولكن لوحظ أنه هناك محاولات لاستغلال هذا الظرف الاستثنائي للترويج لدعوات للإنقلاب على النظام السياسي في البلاد.
وتناقل رواد بمواقع التواصل في تونس، خلال الفترة الأخيرة، وثيقة منسوبة لجهة تُسمي نفسها “هيئة الإنقاذ الوطني”، دعت فيها إلى “حل البرلمان والأحزاب، والمطالبة بمحاسبتها، وتعليق العمل بالدستور، ومراجعة قوانين ما بعد الثورة، وإعادة صياغتها والمصادقة عليها باستفتاء شعبي”.
مَن يقف وراء هذه الدعوات؟
المفارقة أن أطرافاً متناقضة سياسياً، من أقصى اليسار والمنظومة القديمة، تدعو إلى تغيير الحكم وحلّ البرلمان، تحت مسمى “ثورية الجياع”.
إذ نشر نشطاء مقربون من الحزب الدستوري الحر (محسوب على النظام السابق وله 16 نائباً من 217 بالبرلمان)، بقيادة عبير موسى، دعوات لحل البرلمان، والاعتصام في منطقة باردو، حيث مقر البرلمان، قبل أن تتبرأ رئيسة الحزب من تلك الدعوات.
ولكن الأغرب أن نشر نشطاء من أقصى اليسار نشروا دعوات إلى الثورة، بلغت عند أحدهم حد الدعوة إلى “إسالة الدم”.
بحسب متابعة ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، قال يقول الباحث الجامعي في الفلسفة السياسية، رياض الشعيبي للأناضول: “هناك أطراف لها خلفيات مختلفة ومتناقضة، هناك من هو مع المنظومة القديمة (نظام زين العابدين بن علي)، مثل عبير موسى، وأطراف قريبة سابقاً من نداء تونس”.
واستطرد: “وهناك مجموعة ثانية هي خليط من بعض أنصار قيس سعيّد ومن يتقرب منه وأناس قريبون من أوساط اليسار الراديكالي وجودهم الأساسي على الفيسبوك”.
كيف تورَّط اليسار في هذه الدعوة المريبة؟
وبشأن المجموعة اليسارية، قال الكحلاوي: “هذه المجموعة لها توجه مختلف، وتعتبر أن الرئيس يدفع إلى مقاومة جدية للفساد، لكن الحكومة ليست في نفس التوجه”.
واعتبر أن التقاء أنصار المنظومة القديمة ببعض أنصار سعيد هو “التقاء موضوعي غير عضوي.. وأنصار سعيد من أقصى اليسار (اليسار الراديكالي) تأثيرهم الآن غير موجود على الرئيس”.
وتابع: “ربما بعضهم كان مع سعيد في فترة ما، لكنهم الآن ليسوا موجودين في القصر، وربما هذا أحد أسباب تذمرهم، فهم يبحثون عن دور، وهي مجموعة وقع إبعادها إلى خارج القصر بشكل تدريجي، ومنذ شهرين لم يعد لهم أي دور مع قيس سعيد”.
ثورة جياع في تونس أم “ثورة مضادة”؟
“الحقيقة العلمية والتاريخية تُثبت أنه لا يمكن أن تحصل ثورة على ثورة، وإنما هي ثورات مضادة على ثورة حقيقية”، حسبما يقول الباحث الجامعي في الفلسفة السياسية، رياض الشعيبي للأناضول.
وقال: “ما يبين عدم جدية هذه الدعوة هو الالتقاء غير المنطقي بين تيارات سياسية متناقضة في الدعوة إلى انتفاضة شعبية ضد مؤسسات الدولة، بين الذين يتبنون الذهاب بالثورة إلى أقصاها ويقفون خلف المشروع السياسي لرئيس الجمهورية (قيس سعيد)، وبين الذين يدعون إلى الانقلاب على الدولة المدنية والديمقراطية والعودة إلى الاستبداد”.
ما مدى قدرة هذه الدعوات على تحريك الشارع؟
لكن هذه الدعوات صادرة عن أطراف غير قادرة على تعبئة الشارع، خاصة في ظل الحجر الصحي ورمضان وقدوم الصيف، حسبما يرى طارق الكحلاوي، المدير السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (حكومي).
وقال الكحلاوي إن “المقارنة بما وقع في اعتصام باردو تبدو في غير محلها”، في إشارة إلى اعتصام، خلال صيف 2013، أمام البرلمان، دعا إليه ائتلاف “جبهة الإنقاذ” بين حزب نداء تونس، بقيادة (الراحل) الباجي قايد السبسي، وأحزاب معارضة لحكم “الترويكا”، منها ائتلاف الجبهة الشعبية، بهدف إسقاط الحكومة.
و”الترويكا” هي ائتلاف بين حركة “النهضة” (إسلامية) وحزبين علمانيين، هما “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات”، حكم تونس من ديسمبر 2011 إلى يناير 2014.
وأوضح أن “اعتصام باردو كان له سياق خاص به، ففي صيف 2013 كان يوجد استقطاب حاد بين الحكومة وأطراف في المعارضة، التي كان يقودها السبسي بشكل ناجح نسبياً، ويُعتبر شخصية جامعة للمعارضة آنذاك”.
وزاد بقوله: “صيف 2013 كان صيف عمليات إرهابية كبيرة، وتمّ اغتيال محمد البراهمي”، وهو معارض قومي ناصري اغتيل أمام منزله في مدينة أريانة بالعاصمة، في 25 يوليو.
وشدد الكحلاوي على أنه “لا يمكن المقارنة بوضع 2013، ومن يريد استنساخ 2013 هو خارج السياق وخارج الزمن”.
أجندة خارجية.. ما حقيقة علاقة زعيمة الفلول بالإمارات؟
وبشأن احتمال وجود دعم تتلقاه هذه الدعوات من أطراف خارجية بهدف إجهاض الثورة التونسية، قال الشعيبي: “للأسف لم يعد هناك أي مسوّغ للفصل بين الداخلي والخارجي في التأثير على الشأن السياسي التونسي”.
وأضاف: “هناك جبهة سياسية وأيديولوجية تتضرر من الديمقراطية، ولا تستطيع الحفاظ على مصالحها في ظل العودة إلى الشعب والإرادة الشعبية”.
وأردف: “لذلك تجتمع هذه القوى ذات التأثير الإقليمي لتلتقي مع لوبيات فساد داخلي إعلامي وسياسي ومالي، محاولة الرجوع بالوضع السياسي في تونس إلى ما قبل ثورة 17 ديسمبر 2010، ولو بعناوين جديدة ومسميات مختلفة”.
كما شدد الكحلاوي على وجود جهات خارجية تريد الاستثمار في الفوضى لإعادة تونس إلى أوضاع استبدادية، ولكنه اعتبر أن هذه الجهات الخارجية لا تقرأ الساحة جيداً الآن.
ونفى الكحلاوي أن “يكون الرئيس قيس سعيد يلتقي في أجندة خارجية مع عبير موسى (زعيمة الحزب الدستوري الحر ممثل فلول النظام القديم).
وأردف قائلاً: “فالرئيس لا يمكن وضعه في وضعية عبير موسى في السياسة الخارجية”.
ورأى أن “قيس سعيد يريد ألا يكون مع قطر ولا مع الإمارات، وهو يبحر بين الموجتين، وهو يريد أن يظهر نفسه دائماً في الوسط، وهذا يتسبب له في غضب البعض.
واستطرد: “أما عبير موسى فتلتقي مباشرة مع السياسة الإماراتية، وضروري أن تبحث الحكومة عن ارتباطاتها حتى من الناحية الأمنية، وهذا غير مستبعد أن يُفتح في المستقبل”.
رفض لدعوات الفوضى
وحول موقف الأحزاب الكبرى من الدعوات إلى التظاهر وحل البرلمان، قال الشعيبي إن “المواقف كانت واضحة إلى حد كبير في رفض هذه الدعوات إلى الانقلاب على المشهد الديمقراطية الحالي من طرف طيف واسع من الأحزاب السياسية والشخصيات الاعتبارية”.
وأضاف: “رغم التناقضات بين هذه القوى والأطراف، سواء داخل منظومة الحكم أو حتى في المعارضة، إلا أنه كان هناك ما يشبه الإجماع على رفض استهداف مجلس النواب، باعتباره السلطة الأصلية، ورفض استهداف الحكومة، باعتبارها حكومة شرعية”.
وأدانت حركة “النهضة” (عضو الائتلاف الحاكم/إسلامية/ 54 نائبًا)، الجمعة الماضي، ما اعتبرتها “حملات مشبوهة تستهدف برلمان البلاد ورئيسه” راشد الغنوشي (رئيس الحركة)، واستنكرت “التصريحات والممارسات التي تضعف مجهود الدولة في السيطرة على وباء كورونا”.
فيما دعت حركة “تحيا تونس” (عضو الائتلاف الحاكم/ ليبرالية/ 14 نائباً)، بقيادة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد (ليس بعيداً عن الدولة العميقة)، إلى فتح تحقيق بشأن ما اعتبره “تحركات مشبوهة على مواقع التواصل تنادي بالفوضى والنزول إلى الشارع”.
واعتبرت القيادية بالحزب، هالة عمران، في تصريح إذاعي الثلاثاء، أن تلك الدعوات تهدف إلى إسقاط النظام والحكومة ومفهوم الدولة.
وأعلنت النيابة العامة بتونس، أمس الأربعاء، أنها فتحت تحقيقاً في “دعوات تحريضية”، عبر مواقع التواصل، ضد بعض مؤسسات الدولة.